كانون الأول 2014
صارت حكاية وحدة القوائم العربيّة أو شراكتها الانتخابيّة منذ عقدين على الأقل، كحكاية ابريق الزيت لم تنته ولا مرّة إلى نهاية، وكل منّا يعرف الطروحات التي تُبودِلت في كل جولة، وبالمناسبة في غالبيتها كانت صحيحة اللهم إلا المزايد كان منها، واليوم بدأت نفس الطروحات تشرئب ولكن اشرئبابَها المَرّة مختلف، فهو أقل انتصابا خضوعا ل-” الثلاثة وربع”.
أمّا الطرح القديم الجديد الذي يصدر هذه الأيام صبح مساء في سياق الحديث عن شراكة القوائم العربيّة عن “مجالس الحكماء” وال-“وُعّاظ”، وكأن ما منع حتى الآن الشراكة بين الأحزاب هو الشخصنة والخلاف بين من يكون في رأس القائمة، هو إهانة لكل القيادات العربيّة، إهانة شخصيّة وإهانة سياسيّة أبعد ما تكونان عن الحقيقة.
هذا التوجه يخبيء في ثناياه الأمر والنقيض، فما يُقال عمليّا: أن هؤلاء الناس يستأهلون القيادة ولكن ينقصهم درس في التربية حول “الشخصنة” وهذه إهانة شخصيّة، وتنقصهم قلة معرفة في ماذا “يريد الشعب” وهذه إهانة سياسيّة، فإذا كان فعلا الأمر كذلك، فهم لا يستأهلون القيادة أصلا؟! وهل بمجرّد أن تخلصهم من الشخصنة واعظا تربويّا، ومن جهلهم إرادة الشعب واعظا سياسيّا، يصيرون أهلا ؟!
يُمكن أن تقول الكثير عن قيادات القوائم، ولكن أن تختزل عدم الشراكة ب”الشخصنة” وقلّة معرفة في ماذا “يريد الشعب” فهذا، إضافة لما قيل أعلاه، كثير. لم تكن الشخصنة إلا فيما ندر عائقا، والقيادات العربيّة تعرف جيّدا ماذا يريد الشعب، فهي المرتبطة بحياة الناس ويوميّا وميدانيّا كثيرا أكثر من كل “الحكماء” و-“الوُعّاظ”. وبالمناسبة، القائد الحق هو ليس فقط الذي يعرف ما يريد الشعب وإنما الذي يعرف كذلك ما هو مُراد للشعب.
الأسباب التي أدت إلى عدم الشراكة أكبر كثيرا ممّا يطرح وأوجَهُ كثيرا، وكانت وما زالت قائمة ومن الظلم أن نختزلها هكذا، كانت وما زالت أكبر كثيرا من زيادة عضو أو عضوين إضافيين للقوائم حرمنا منهم “الشخصنة والجهل في الإرادة الشعبيّة”، ففي هذا الطرح المختزل تكمن الكثير من معاني الحديث الشريف: “رحم الله امرءا عرف قدر (أو حدّ) نفسه فوقف عنده”، دكتورا كان شيخا أو عاميّا.
من نافل القول صار أن نجترّ الادعاءات المختلفة سلبا أو إيجابا حول الموضوع، فلم يتغيّر ولن يتغيّر شيء عن الانتخابات السابقة وما سبقها، لا في الطرح ولا في الأسباب، ما تغيّر فقط هو رفع نسبة الحسم ممّا سيحتم على القوائم العربيّة إيجاد صيغة أو صيغ شراكة بمجالس حكماء وبدونها، فلا حاجة لأطروحات “وعظ” فيها من الإهانة الكثير، أخلاقيّا وسياسيّا لأناس نريد لهم ومنهم أن يقودوا مسيراتنا الوطنيّة والحياتيّة.
من أطرف وأغرب الادعاءات التي سمعت وبمقابلة على الهواء مباشرة في “صوت إسرائيل” الحامل همومنا بألم(!)، هي أن “بعض الشعب” وعلى رأي الدكتور صاحب المقابلة، يصوّت للأحزاب الصهيونية “جقارة” (هكذا) بالأحزاب العربيّة لأنها لا تتحد، وهؤلاء سوف يحجبون أصواتهم عن الأحزاب الصهيونيّة ويمنحونها للعرب بمجرّد أن يتشاركوا !!!
تكتيكيّا، الأصح أن نتعاون قوى سياسيّة وفاعلو خير “حكماء” كانوا أو “عامّة”، على تشكيل قائمتين مرتبطتين بفائض أصوات بدل قائمة واحدة، فهذه الصيغة هي الأكثر تحقيقا للأهداف التي يرمي إليها دعاة الشراكة، فالشراكة هي تحصيل حاصل ويظلّ الاجتهاد حول أفضل صيغها، واعتقد أن صيغة القائمتين هي الأقرب إلى تحقيق الأهداف المرجوّة، ولا مجال الآن في سياق موضوع هذه المقالة الدخول في التعليلات الكثيرة.
ولكن تكفي الإشارة إلى أن القوى السياسيّة وإن كانت ثلاثيّة الفكر إلا أنها ثنائيّة المواقف وطنيّا، وسياسيّا (وطنيّا وإقليميّا)، واجتماعيا، وهذا الفرز واضح، فحضاريّ أن يعبر شعبنا تنافسيّا عن موقفه بين هذه الأطروحات. ولن يضير هذا دعاة ضمان التمثيل وزيادته، لكنه أفضل ألف مرّة من “خلط الحابل بالنابل” وتحويل المعركة إلى “ظبّ أصوات … كيف ما إجت تيجي”، ولا يستهينَنّ أحد بأبعاد ذلك على الامتناع من ناحية والتحفيز من الأخرى!
في اعتقادي أن ما يجب أن يشغل بالنا وما دامت أكثريتنا الشعبيّة و-“حكماؤها” و-“وُعّاظها” وأكثريّة حركاتنا السياسيّة تعتقد أن التمثيل البرلماني هو حاجة موضوعيّة، هو التأثير الذي يمكن أن يكون للشراكة على قواعد أبناء شعبنا في معركتنا على شكل وجودنا، وحبذّا لو أن الجهد انصبّ في هذا الاتجاه وليس في الشراكة الشكليّة، وهذا الهدف يتحقق كذلك بقائمتين مرتبطتين شاملتين.
أنا من أولئك الذين يدّعون أن وجودنا الماديّ في بلادنا حُسم ومحسوم ولا يمكن زحزحتنا مهما تمادت المؤسسة، وأن المؤسسة على قناعة كليّة بذلك وليس حبّا ولا زيادة في الديموقراطيّة الإنسانيّة بل “قصر ذيل يا أعور”، ولكنها ومن هذا المنطلق عملت وما زالت على ضرب وجودنا الروحيّ أو بكلمات أخرى ضرب شكل هذا الوجود بكل أنواع الفيروسات الضارّة، انطلاقا من مصلحتها في إبقائنا مجتمعا مشوّها ضعيفا، حتى لو كان عندنا عشرون عضو كنيست.
الخيار الذي أمامنا وأمام المؤسسة وعلى ضوء “المحسوم” أعلاه، هو بين وجود في صلبه الانتماء الوطنيّ والقوميّ والتكافل والتعاضد، سليم قدر الإمكان من العاهات الاجتماعيّة، أو في صلبه الانتماءات الثانويّة الطائفيّة والمذهبيّة والفرقة والتّضاد، عليل بكل الآفات الاجتماعيّة. لا نكتشف ما وراء “درب التبّانات” حين نقول أن المؤسسة اختارت وتعمل حثيثا على اختيارها ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وكذا حين نقول أنه يجب ألّا يختلف اثنان حول خيارنا ولكن السؤال: هل نجحنا في جعل خيارنا الشعاراتيّ ميدانيّا؟!
كي لا نتصرّف تصرّف النعام ونطمر رأسنا في الرمال، دعونا نعترف وناصية الصلاح الاعتراف، رغم صحّة أننا وأهلنا من قبلنا اجترحنا بطولة في معركة بقائنا الماديّ والروحيّ ورغم كل التحديات، لكن هذا لا يعفينا من رؤية نقاط فشلنا، فلشديد الأسف لا بل الغرابة أننا نشهد وعلى الأقل في العقدين الأخيرين تراجعا خطيرا في كل موقع من مواقعنا تخلّفا وعنفا، وبأيدينا أدخلنا الفيروسات المؤسساتيّة بيننا ومهما تجمّلنا وفي أكثر التجمِّل كذب، وأخطر هذه الفيروسات الطائفيّ والمذهبيّ والذاتويّي الانتهازيّ.
فإن لم تؤد أو تفض “شراكة” الأحزاب “العربيّة” الانتخابيّة إضافة إلى ضمان وتعزيز التمثيل المرجوّين منها، إلى شراكة أهليّة شاملة، وهذه فرصة، تعزّز روحيّة بقائنا بألا تبق “موارس” بور في حقلنا حتى لو كان الحرث فيها صعبا، لأن المارس البور الصعب الحرث في الحقل حتما سينبت نباتات ضارّة تنتشر في كل “موارس” الحقل، ولا يتجاهلَنّ أحد جوهريّة رمزيّة الأمر، فإن لم تفعل الشراكة كذلك هذا، وأعمتها النشوة حتى اختلطت عليها الألوان، فمن نافل القول أن نتساءل: “شو اللّي جابتُه من عند أهلها؟”.
سعيد نفاع
كانون أول 2014