وقفات على المفارق مع النائب باسل غطّاس

كانون الأول 2016

الوقفة الأولى: حقل الألغام.

الخوض في قضيّة النائب باسل غطّاس هو كالدخول في حقل ألغام، لمثلي لأسباب شتّى، ولكن لرفاقه لتبريرات شتّى، ولذا رأينا رفاقه في الحزب ورفاقه في القائمة المشتركة مترددين أمام وسائل الإعلام، وكل له تبريراته، البعض “صفن” طويلا قبل أن يستطيع أن يجيب، والآخر أحال الموضوع للمحامي، وغيره اكتفى بأن قال لنترك الأمر للقضاء، وكأن القضاء الإسرائيلي رمز النزاهة، وهكذا. وحقيقة أقول أني ترددت كثيرا على المستوى الشخصيّ من الخوض في هذا الحقل، ولأسباب كثيرة لا مجال للخوض فيها الآن، ولكني حزمت أمري، رغم ذلك، أن أدخل هذا الحقل.

باسل غطّاس في حكم القضاء الإسرائيلي ما زال في موقع “المشتبَه”، يعني في موقع أدنى حتى من موقع المتهم، والمقولة الشهيرة: “المتهم بريء حتى تثبت إدانته”، وكم بالحري المشتَبه، سارية في كل نظام قضائيّ فعلا إلا في الفضاء (الفضاء) الإسرائيلي، فهي مجرد “كلام على البلاط”، مع الاعتذار لمثلنا الشعبيّ إذ حورته لمقتضيات الكتابة (!).

فقط من خبر أقفاص الاتهام في المحاكم الإسرائيليّة، يستطيع أن يقرأ الحركة التي قام بها النائب باسل غطاس في القفص بشكل وضعه كفه على صدره. المعنى هو أنه ممنوع من الكلام وأن أي خرق للمنع سيعرضه لإجراءات داخل المعتقل تسيء إلى وضعه الإعتقالي الصعب أساسا، صحيح أن يدي باسل كانتا مطلقتين، غير أن القيد نُزع منهما فقط خلف باب قفص الاتهام، لكن رجليه تبقى مصفّدة وبالكاد يخطو.

الوقفة الثانية: أين أخطأ باسل ؟!

السجّان الإسرائيلي، وعندما أقول السجّان لا أقصد فاتح الأبواب ومغلقها، فهذا عمليّا قائم على خدمة الأسرى، أقصد المخابرات بأذرعها، فهي السجّان الفعليّ، وهذا هو السجّان المقصود، هو خبيث ماكر بكل ما يتعلّق بالتعامل مع الأسرى وخصوصا الأمنيّين، ومن نافل القول أني خبرت ذلك عن قرب كأحد هؤلاء الأسرى، فحرب السجّان معهم ليست على الأمور الماديّة من مأكل ومشرب وحتى “كنتين”، حربه معهم معنوية والإجراءات لا تعد ولا تُحصى وهي أصعب ألف مرّة من الأمور الماديّة.

التواصل مع الأهل ومع العالم الخارجيّ هي إحدى ساحات الحرب المعنويّة هذه، وفي هذه الساحة حدّث ولا حرج، وهنا يستعمل السجّان الإسرائيلي هذا كلّ وسائل المعاناة التي تفتقت عنها أذهان مختصّيه، النفسيّين، والاجتماعيين، والأمنيّين.

زيارات أعضاء الكنيست للأسرى بقيت إحدى البوابات التواصليّة التي لم يستطع أن يوصدها هذا السجّان، ولكم أن تتخيّلوا كم هي مهمّة هذه الفتحة في الحرب المعنويّة حامية الوطيس، وأستطيع أن أقرر كعضو كنيست سابق ومن خلال زياراتي للأسرى وعلاج جوانب تواصلهم، ومن خلال كوني أسير سابق زارني أعضاء كنيست خلال أسري، أستطيع أن أقرر أن هذه الزيارات هامّة وهامّة جدا، وبالمناسبة هي وجاهيّة ليست من خلف زجاج كزيارات الأهل.

كان على باسل أن يحرص أشد الحرص ألا يُقدم على أي عمل يخطّر فيه هذه القناة التواصليّة، ومهما كانت دوافعه وما عندي شكّ في نواياه ودوافعه الإنسانيّة، وهنا أخطأ باسل. وعلى أعضاء الكنيست الذين يعرفون أن السجّان قلّص من أفضليتهم هذه في الفترة الأخيرة وقبل قضيّة باسل، أن يشنوها حربا شعواء على كل من يحاول من المؤسسة إغلاق هذا الباب في وجوههم، ولن يشفع لهم، وأرجو ألا يتعلّق فيه أحد منهم، القول: “باسل خرّبها”، وكفى المؤمنين شرّ القتال !

كيف راحت على باسل أن حصانته لن تشفع له وهو مراقب، كثيرا قبل أن يدخل السجن وكثيرا بعد أن يخرج من السجن، فهذا ما لا أعرفه. وكيف راحت على باسل أننا “مخروقين” كالجبنة السويسريّة في كلّ أنحائنا، فهذا أيضا ما لا أفهمه، وهنا أخطأ كذلك باسل.

الوقفة الثالثة: ليبقى باسل في الكنيست !

بدأت تُسمع أصوات وكأن على باسل الاستقالة من الكنيست، فعليه ألا يفعلها. وأقول رغم إني لست من مؤيديه ولا مؤيدي حزبه رغم أني ولسنوات كنت نائبا في الكنيست عن هذا الحزب: إن أشدّ ما آلمني حين شنّت المؤسسة عليّ حملتها ملاحقة وتحقيقا، أن شنّ عليّ بعض رفاق “حزبي” حملة لا تقلّ شدّة وطالبوني أن أستقيل من الكنيست وعندما رفضت أقالوني من الحزب، وإن بحجج أخرى. مع الفارق الكبير بين ما كنت لوحقت بسببه وما باسل ملاحق به اليوم، فاتركوا باسل عضوا في الكنيست، ليس لأن من انتخبه ليس تلك “الجوقة” التحريضيّة من الغوغاء المسميّين أعضاء كنيست والمسميّين إعلاميّين، وإنما كي تبقى هذه العضوية شوكة في حلوقهم قذفها مرّ وبلعها أمرّ.

ما هو مشتبه به باسل، وحتى إن ثبُت، ليس بالأمر الصعب قانونيّا مجرّدا، فسبق أن اتهم به غيره وبالذات من محامين وغيرهم ولم يكن الأمر بالمخالفة الكبرى، وما نال مرتكبوها أحكاما كبرى، ولكن علينا أن نعي أن المؤسسة قادرة أن تصنع من “الحبّة قبّة” مستحضرة “بقرتها المقدّسة” أمن الدولة، ولذا من المهم أيضا في هذا أن يبقى باسل عضو كنيست، وليس لأن ذلك سيحميه ولكن ليقويه، ولا يستهيننّ أحد بذلك.

الوقفة الأخيرة: بقي أن نقول.

القائد وعندما يُقدم على عمل فالفرضيّة الأساس أنه يكون واعيا لما أقدم عليه، خصوصا إذا كان يعرف أو كان عليه أن يعرف أن عمله “غير قانونيّ” في نظر القانون الإسرائيلي. وهنا امتحانه الكبير، فأقصى ما تتمناه المؤسسة الإسرائيليّة وخصوصا الشاباكيّة فيها، وحتى إن كانت تستظل ب-“عباءة” سوداء، هو أن يعتذر هذا القائد عن “فعلته”، وفي هذا هي مستعدّة أن تتنازل عن أي عقوبة فعليّة أو تكتفي بعقوبة رمزيّة، ولكنها لن تقبل اعتذار من وراء الكواليس وإنما تريده اعتذارا على رؤوس الأشهاد على منصّة الشهود.

فهل يعتذر باسل كما اعتذر غيره؟!

السؤال كبير كِبرَ معنى أن تكون قائدا فعلت ما تعتقد أنه صحيح أخلاقيّا، فكم بالحري إن كنت تصنّف ما فعلت بالعمل الإنسانيّ، وتعلل دوافعك إنسانيّا كما فهمنا من رسالة باسل المسجّلة.

أتمنى لباسل رغم أني، كما قلت، لست من مؤيّديه ولا مؤيّدي حزبه ولا أتفق معه في جلّ الأمور، لا أن يخرج من “المحنة” كالشعرة من العجين، وإنما على الأقل مرفوع الجبين.

الأسير المحرر (حديثا) سعيد نفاع

أواخر كانون أول 2016

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*