"كايروس فلسطين" وتجنيد العرب المسيحيّين

آب 2013

في خضمّ الأحداث الكبيرة التي تمرّ بها منطقتنا و”أم المعارك” التي نخوضها في مجالسنا المحليّة، ضاع بين الأخبار موضوع هام هو في صلب وجودنا كأقليّة عربيّة قوميّة في بلادنا، ألا وهو محاولات الاستفراد بتوأمنا المسيحي تجنيدا وركوبا على الجاري إقليميّا ومحليّا من مدّ طائفي هو أساس بلاوي هذه الأمة منذ القدم.

إن البيان الذي أصدرته مؤخرا “المبادرة المسيحيّة الفلسطينية – كايروس فلسطين”، حول موقف المنادين بتجنيد الشباب المسيحيين، فعلا وقفة حق كما جاء فيه. لكن المبادرة تركت السؤال الصعب جانبا أو على الأقل حيّدت عنه وعن سبق إصرار وعلى ما يبدو “تحسّبا” لردة فعل، وفي هذا كما أومنُ وقعت في خطأ كانت قادرة على تلافيه لو أرادت.

السؤال الذي لم تسأله المبادرة هو: هل إقدام هؤلاء الشباب على التجنيد بغض النظر عن فعل الفاعلين، سلطة أو أدوات، هو نتيجة عن ارتكاب خطأ أو خيار خاطيء، مغرِّرين ومغرَّرين؟!

تقول المبادرة في بيانها:

“إن موقف المنادين بالتجنيد استفزازي ويسيء للكنائس المسيحية ولكافة المسيحيين وللقضية الوطنية، ولذلك فإننا نجدد دعوتنا لهؤلاء بضرورة أن يعودوا إلى رشدهم وأن يتوبوا عن هذا الخطأ الجسيم الذي يسيء إلينا جميعا مسيحيين وفلسطينيين. وأكدت المبادرة المسيحية الفلسطينية أن هؤلاء المنادين بتجنيد المسيحيين لا يمثلوننا ولا يمثلون الكنائس المسيحية ولا يتحدثون باسم المسيحيين، ويبدو أنه قد غرر بهم أو اختاروا خيارا خاطئا لا يصب في مصلحتنا كمسيحيين وعرب”.

وترفض أن يتجند الفلسطينيون في الجيش الإسرائيلي لاعتبارات أخلاقية ولاعتبارات تتعلق بانتمائهم وهويتهم الوطنية، “ولن يحمنا إلا تمسكنا بانتمائنا العربي الفلسطيني، ولن يكون خيارنا خيارا طائفيا بل خيار الوحدة الوطنية بين أبناء الشعب العربيّ الواحد بكافة أطيافه الدينيّة والمذهبيّة”.

لا نقاش على هذا الموقف الوطنيّ الواضح، النقاش هو على السؤال أعلاه، فأولئك يمكن أن يكونوا فاعلون ومتجنّدون بجزئهم، مغرَّرين ومغرِّرين، ولكن أليس من الممكن أن يكون بعض كبير نحا هذا المنحى نتيجة شعوره بغربة واستقواء ولجوءا من اعتداء؟!

كنت قبل سنوات نشرت دراسة تحت عنوان: “التوأم العربي المسيحي ما نعرفه ونخاف أن نجهر به” ضمنتها في كتابي الصادر مؤخرا: ” بين يهوديتهم وطوائفيتنا وتحديّات البقاء” قلت فيها ما هو نافع، حسب اعتقادي، في السياق وهو:

”العرب المسيحيّون والعرب المسلمون في الشرق كانوا على مدى القرون توأمين سياميّين حياة وفكرا فرحا وهمّا رغم كل التداعيات والتحديّات التي واجهت هذا الشرق بصراعه المستمر مع الغرب، ورغم العوامل المحليّة الطوائفيّة. ما نعرفه كلنا في كل أرجاء وطننا العربيّ أنّ التواجد العربي المسيحي في شرقنا في تناقص عدديّ وليس لأسباب بيولوجيّة، ونحن نعرف هذه الحقيقة ونعرف أسبابها ولكننا نخاف قول بعض الأسباب جهرا”.

وأضفت: “فالأسباب المعروفة والمتداولة والمُفصح عنها هي جزء من السبب ولكن السبب الأساسي والحقيقي لهذه النتيجة متعلق بالشعور بالاغتراب والأكثريّة هي المسئولة. لقد فقد شعبنا لفترة توأما آخر هم العرب الدروز لأسباب كثيرة سلطويّة وذاتيّة، ولكن لا يمكن أن نبقى طامري الرؤوس في الرمال معفيين أنفسنا كأكثريّة سنيّة من المسئوليّة إذ تساوقنا مع فصل التوأم هذا، وحتى عندما يحاول وبجد الرجوع إلى مكانه الطبيعيّ لا نجد الاستعداد المطلوب لعودته إن لم يكن أكثر من ذلك. فهل نحن في طريق فقدان التوأم الآخر العرب المسيحيين ؟!

 

في استطلاع للرأي نشر مؤخرا كما ذكرت للدكتور جريس خوري جاءت النتائج :

72% من الشباب المسيحيين يشعرون بالضياع من حيث الهويّة والانتماء.

46% يرون في المركب المسيحي أولا في هويتهم.

29% يرون في المركب العروبي أولا في هويتهم.

10% يرون في المركب الفلسطيني أولا في هويتهم.

و-83% يرون أن العلاقات مع المسلمين والدروز قد ساءت في السنوات الأخيرة، و-61 يرون أن التعصّب الديني لدى الطوائف ينبع من الجهل الذي يعاني منه كل طرف في نظرته للآخر.

اعتادت قرانا المتجاورة قبل ال-48 ونتيجة لظروف الحياة وضعف الحكم المركزي أن تعقد تحالفات بينها للدفاع عن أنفسها، ولم تكن لهذه التحالفات صبغة دينيّة والتاريخ القريب يعرف “حلف الدم” الذي كان بين بيت جن الدرزيّة وسحماتة المسيحيّة وعرابة السنيّة. فكيف يصير 83% من الشباب المسيحيين يرون أن العلاقات ساءت؟ وأكيد أنّ نسب متقاربة كنت ستجدها عند الشباب السُنة والدروز لو استطلعت آراءهم !.

الدكتور جريس يعزو هذه النتائج فيما يعزو إلى أسباب تقليديّة نعرفها مثل مناهج التدريس وغيرها، ولكنه  يشير وب-“حياء” إلى دور القيادات العربيّة المقصّر في تعزيز الشعور بالانتماء وإلى تنامي الحركات الإسلاميّة التي تتوجه فقط للمسلمين. يمكن أن نتفهّم هذا “الحياء” عند الدكتور جريس لكنه زاد عن الحد في حيائه.

النتائج أعلاه هي تماما التي أرادتها الحركة الصهيونيّة وقبل قيام الدولة بكثير، ففي عام 1920 وإثر انتفاضة أبناء شعبنا التي سُميت “ثورة القدس”، زار وايزمن رئيس المنظمة الصهيونيّة البلاد متفقدا باحثا عن السبل الكفيلة بتسهيل قدوم اليهود، وقد وجّه لجنة المندوبين في المنظمة الصهيونيّة لتحضير برنامج عمل بين عرب فلسطين جاء في هذا البرنامج:

“يجب تنظيم أواصر صداقة مع العرب وبث روح العداء بين المسيحيين والمسلمين وتعميق الفارق في المجتمع الفلسطيني عن طريق إبعاد البدو عن باقي العرب وزرع الفتن بين المسيحيين والمسلمين والدروز”.

عدوّنا لم ينوِ لنا الخير ولا ينويه وهذا أمر مفروغ منه تاريخيّا وحاضريّا ومستقبليّا كذلك، ولكن هل نحن ننوي الخير لأنفسنا؟

في مذكراته يروي المغفور له الحاج أمين الحسيني كيف كان الإنجليز يطلقون سراح مجرمين من السجون ويسلّحونهم ويوجهونهم للقيام بالاعتداء على المسيحيين ويروي حادثة عينيّة وكيف أوكل المجاهد عبد القادر الحسيني القضاء عليهم، وليس الحال بمختلف اليوم وإن اختلفت طرقه وأدواته.

المعطيات أعلاه لا تشير إلى أننا ننوي الخير لأنفسنا ويجب أن نقولها وبدون حياء ولا مواربة ولا تورية ولا ديماغوغيّة: إنّ فقداننا هذا التوأم نابع كذلك وبالأساس من تعاملنا نحن أبناء المذاهب الأخرى مع توأمنا هذا. فما حدث في الناصرة في قضيّة شهاب الدين وما حدث في المغار وعيلبون ومؤخرا في شفاعمرو من اعتداءات وما حدث ويحدث في طرعان واعبلين من صراعات، وهكذا في نجع حمادي في مصر ونينوى في العراق،(اليوم بشكل سافر في سوريّة ومصر) عوامل أساسيّة إن لم تكن الأساس في فقداننا هذا التوأم الهام جسديّا ومبدئيّا ومصلحيّا كذلك، وفقط لأنه “شريك” مع الغرب في الانتماء الدينيّ وكأننا بذلك نقتص من الغرب ولكن على طريقة “ما يقدر على الثور فينطح العجل”، لكن هذا ليس معناه أن يتقوقع كذلك هذا التوأم اجتماعيّا وحتى اقتصاديّا ومهما كانت الظروف، ففي الكثير من الأحيان تُسمع هذه الادعاءات تجاهه ودون علاقة للاعتداءات أو الصراعات وفيها الكثير من الصحّة.

لا يقلّ عن هذه الأسباب الخطاب الدينيّ الإسلامي المحض كذلك في المناسبات الوطنيّة لدى الكثير من القيادات الإسلاميّة الوطنيّة وهذا ما أشار إليه الدكتور جريس ولكن كما قلت ب”حياء”، ولدى الوطنيّة العِلمانيّة وحتى القوميّة منها. ممّا يولد تساؤلا شرعيّا لدى أبناء هذا التوأم الوطنيين منهم قبل الآخرين: إذا كان لا بدّ فلما الاقتصار على جانب ؟!

الحل هو تعزيز التواصل الوطنيّ فوجودنا في بلادنا إن لم يكن الجسديّ فعلى الأقل شكل هذا الوجود هو المهدّد من أعدائنا، فلا يعقل أن يكون مهددا كذلك من داخلنا بخلق الاغتراب فيما بيننا بأيدينا، اعتداءات وتغييب من ناحية وتقوقع من الأخرى.

مواطن وأركان قوتنا في الحفاظ على تعزيز شكل وجودنا المُهدّد هما تواصلنا اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيّا خطابيّا، وفوق كلّ ذلك وطنيّا بتغليب المشترك بيننا فغير المشترك هو بيننا وبين الله و”الدين لله أما الوطن فللجميع”، فلا يعقل أن نهدم هذين: الموطن والركن بأيادينا والمسئوليّة على كل التوائم  ولكنها أولا على عاتق التوأم الأكبر”.

إلى هنا كلام نُشر قبل سنوات فهل تغيّر الحال؟!

أوليس هذا الحراك الذي نشهده اليوم في صفوف الشباب المسيحيين والذي أتى بثمار مرّة، أهمُّ أسبابه هي آنفة الذكر مجتمعة؟!

كايروس فلسطين أخطأ حين ترك هذا الجانب جانبا، وما كان يضيره أن يرفع الصوت عاليا في هذا الاتجاه، وإن كان تخوفه من أن هنالك من سيعتبر ذلك تبريرا فليعتبره ويفحص بداية عتبات بيته.

سعيد نفاع  sa.naffaa@gmail.com

أواخر آب 2013

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*