تشرين الأول 2005
يعايش البشر عبر ومن خلال انتماءاتهم و/او تشكيلاتهم و/او مجتمعاتهم و/او أطرهم، احداثا منها التي ترفعهم ومنها التي تضعهم، والتي ترفعهم على الغالب ذاتية، اما التي تضعهم على الغالب موضوعية لكنها ممهورة دائما بالذاتية. طبيعة الأمور ان تلازم كل حدث المساءلة والملامة لأولي الامر والمولَّى على امرهم، واحيانا بوجه حق وآحايين على غير وجه حق.
عايشنا اواخر ايلول واوائل تشرين الاول الذكرى الخامسة لهبة القدس والاقصى حدثا في حياتنا له ما قبله وله ما بعده، وكثر الكلام عن اولي الامر او ما هو مصطلح ان يسموا “القيادة ” ؛ دورهم في الحدث وما قبله وما بعده وبشكل عام، وراح كل “يفصل” لهم المهام والادوار وما لهم وما عليهم واعظا مؤنبا منتقدا وشاتما احيانا، او في اضعف الايمان لائما، وعلى الغالب نابع ذلك من عدم فهم الدور المنوط بهم حقا.
حتى افهم ما القيادة وما دور القيادة وانا لست “ايرونيا ” في هذا، رحت افتش في القواميس عندنا وعند ابناء عمومتنا وحتى عند اوصيائنا وراء البحار، علّ ذلك يهديني الى سواء السبيل فيما ارمي اليه، ووجدتني فعلا اكتشف جديدا، على الاقل بالنسبة لي، حري ان يُكتب وحري أن يُقرا رغم أني سيء الظن في هذا.
لغتنا الجميلة تفيدنا ان لا مكان للقيادة في حالتنا نحن عرب ال-48 ، فالقيادة عربيا: السير امام الدابة آخذين قيادها وهذا طبعا غير وارد بالحسبان، والمعنى الثاني قيادة وحدات عسكرية وهذا ايضا غير وارد بالحسبان لاننا لسنا كذلك. ويبدو ان ابناء عمومتنا وكذلك اوصياءنا اشطر منا في ذلك ايضا. فالسياسي عندهم ” מנהיג ” ومعناها العربي مدبر او مرشد، وبوش او بلير ليسا ” leaders ” واعترف اني لست ضليعا بالانجليزية.
اذاً نحن امام اما بلاغة او خطأ شائع ،ولهذا انا اميَل، وما دامت الأخطاء الشائعة صعبة المراس والتخلص منها ليس بالامر السهل وفي حالتنا يكون حتى مضحكا، الا اذا اعتبرنا كل حياتنا معارك والمعارك بحاجة لجيوش وقادة وقيادة، وانا لا اظن ذلك.
صحيح اننا في صراع بقاء والبقاء بحاجة لوقود قوامه لقمة العيش ولانه ربما يكون تناحريا في بعض جوانبه فلقمة العيش يجب ان تكون كريمة، وبناء عليه يجب ان نملأ القيادة بمعناها الأول فحوى صحيحا وبمعناها الثاني اناسا، يؤهلانا ان نخوض هذا الصراع واولا وقبل كل شيء لننتصر فدون ذلك الاحباط، والاحباط اوسع طرق الانهزام.
تثير فينا الزعامة ولمجرد ذكرها الحساسية بل واكثر من ذلك لان الكثير من البلاوي التي حطت علينا سببها من اصطلح ان سموا الزعامة او يسمون زعامة، حتى شوه المعنى الذي ارادته العرب لهذا الموقع على مر تاريخها.
معنى الزعامة اللغوي؛ الشرف، الرئاسة، السلاح، الدرع.
هكذا ارادت العرب اولي الامر منها وسل لغتها فهي افضل منبئ ، اذاً ليس صدفة او جهلا ان ا ما يريده الموِّلي من الموَّلى هذه المعاني، ليس لانه يعرف بالضرورة معنى الزعامة لغويا او ثقافيا او شهاداتيا انما لانه جُبل معها تراثيا، اوليس وراءه تراث بقي جزء منه لانه يولد مسربلا به. المولِّي يريد المولَّى في الصغائر كما في الكبائر رئيسا شريفا وسلاحا مدرعا، ولا حق للمولَّى ان يقرر متى وكيف يتولى فعندها لن تطول به الولاية وان كان من صوّان صخور وادي عبقر .
الناس لم تخرج وراء قياداتها في الذكرى الخامسة لهبة القدس والاقصى، لان همها لقمة العيش فقد شبعت وطنيا حتى التخمة! هكذا قيل ويقال وليس دائما عن حسن نية. ويجب ان نعترف ان لقمة العيش بمعناها الفصيح او بمعناها المصري، بعيدة كل البعد عن المعنى الاصلي للكلمة، ففتش أية حاوية نفايات ستجد فيها لُقم عيش تشبع اهل اقليم دارفور في السودان لشهرعلى الاقل!
لقمة العيش صارت السيارة وصارت شرم الشيخ والليالي الملاح عند كثر من اولاء القلقين على لقمة عيش الناس، فالناس الذين فعلا بحاجة للقمة العيش في معناها غير المشوه هم وقود المعارك بمعناها الحقيقي ومعناها المجازي، وهم الذين ملأوا الشوارع في الهبة وهم الذين استشهد ابناؤهم.
لا تناقض البتة بين الشبع الوطني والشبع ” البطني” ، بل العكس هو الصحيح فبدون شبع وطني لا يوجد شبع بطني. سياج لقمة العيش والتي تشمل المعنى المصري والمعنى الاوسع، هو المشدود باوتاد وحبال العزة الوطنية، الشبع الصحيح هو الممهور وطنيا والمسيج وطنيا وهذه هي المعادلة الصحيحة التي اذا دبرتها وارشدت لها القيادة، بغض النظر عن اللغة وقواعدها وبلاغتها، فهي حقا قيادة.
ليس هذا شعاراً والعيب ليس في الشعارات، العيب في رافعيها دون نية للعمل على تطبيقها وليس بالضرورة القدرة على تطبيقها، وفي سياقنا:
عندما كانت الوطنية مخيفة كالبرص والجرب وسارت بنا “القيادات” خوفا على لقمة العيش، “الحيط الحيط ويا رب السترة ! ” واعطينا في انتخابات سنة1961 الكنيست الخامسة 77.5% من اصواتنا للاحزاب الصهيونية والباقي للحزب الشيوعي بقيادة مكونيس- سنيه ، وهكذا سنة 1965، وفي انتخابات 1969 اعطينا 71.5%. ليس فقط اننا لم نضمن لقمة العيش بل صودرت منا امُ لقمة عيشنا الكريم.
ان ما حصلناه من لقم العيش جاء اولا وقبل كل شيء عندما مهرناها باغلى مهر؛ وطنيتنا.
أي خرق لهذا السياج وتحت أي الشعارات وخصوصا الظاهرها حق والباطنها باطل ستعيدنا الى “صفّين” اخرى وألعن والى “جمل” اخرى وألعن !
القيادة ولاية وبإرادة المولِّي والمولَّى عليه طليقة كانت ام حبيسة، وفي حالنا المولِّي هو المولَّى عليه وبطيب خاطر وغير مهم في هذا السياق ان كان الطيب طيبا اوعلقما.
“الطيب خاطر” هذا غال وغال جدا وعلى القيادة ان تحذر من تكديره. صاحبه بحاجة ان ” تجبر في خاطره” في فرحه وفي ترحه وفي كربه. اما الفرح واما الترح فهذه مقدور عليها وهي لقمة معنوية لا تقل اهمية عن لقمة العيش المادية هذا ان لم تزد، وهي أقصر الطرق الى الذهنية، التي تريد أيها القائد ان تحصنها وتسيجها وطنيا قلقا منك على بقاء شعبك. وإن لم تقلق معه على فقيده وان لم تقلق معه على هداة باله في عريسه، وان لم تقلق معه في معالجة كربه، فطريقك الى ذهنيته شائكة بل عسيرة، لانه حين ولاك ولاك عليها مجتمعة.
لن يكفيك ولن يكفيه أن تدعي أنك مشغول في أمور لا يفهمها وانت فقط الفهيم القلق على مصيره من الاهم من كل ذلك، لا يهمه كم ساعة تجلس في الاجتماع ملخصا ولا كم ساعة تجلس في المكتب كاتبا مشخصا ولا كم كتابا ومقالا تقرأ حتى تصطفي له منها زبدة الخلاص، ما يهمه ان تلخيصك وتشخيصك واصطفاءك تضمن له لقمة عيشه المعنوية والمادية وعندها سيمنحك، ليس انتهازية وانما من سويداء قلبه ،القيادة ” طابو ” ومسيجة بالسياج الذي تريد.
المهم ليس ما يفصله الآخرون اعداء كانوا ام خصوماً او ” وعاظاً” المهم ما تفصله هي؛ القيادة. وأهميته ليس فيما تفصل إنما في صحة ما تفصل وبعين من.
ودون الدخول في النقاش الأبدي حول دور الفرد في المجتمع، فما دمنا نحتكم للناس في مشوارنا نحو ” القيادة ” فهم الحكم في كيفية ان تكون القيادة بمعنييها. واذا لم يخرج الناس وراء القيادة بمعناها الأول فعليها هي ان تضع الاجوبة، و”على ذمتي” لن تجدها إلا جزئيا في الحرب الاميركوانجليزية على العراق وفي القتال الفتحماسي في فلسطين ال-67 وفي 14 آذار في لبنان. ستجدها كليا في أحد امرين اما شكاً في اهلية القيادة على ما وُليت وإما فهما صحيحا للولاية يغيب حتى عن القيادة احيانا.
ولسان حال الناس يسأل أوليس لمثل هذا وليت القيادة؟ أولم يلتم الناس عندما ألمت الملمات؟ ووالله إني أميَل الى الأمر الثاني فشعبنا بخير بل بالف خير في هذا، ولن تجده الا ملتما وأمام القيادة لا خلفها حين تستدعي الحاجة أن يصنع لنا ذكرى اخرى!
سعيد نفّاع
تشرين الأول 2005