تموز 2008
إني لا أكذب بل أتجمّل:
نسيت اسم الفلم الذي مثله الممثل القدير الراحل أحمد زكي منهيا إياه بالقول “لم أكن أكذب كنت أتجمّل”، ولكن إن لم تخني الذاكرة فهو نقلا عن كتاب للكاتب الراحل محمد عبد الحليم عبدالله. وقول الممثل هذا أو جملة إقفال الكتاب هذه، جاءت بعد أن عاش البطل حياته مخفيا كونه ابنا لعائلة مصرية مستورة مأواها المقابر، موقعا في شباكه صادقا فتاة خاف أن يطلعها على حقيقته، شكّت في تصرفاته وخصوصا اختفاءاته المفاجئة المتكررة فلاحقته فإذا به يزور عائلته في إحدى المقابر لإيصال المساعدات لها، ف”قفشته” متلبسا وراحت تؤنبه متهمة إياه بالكاذب فردّ عليها بالقول ” كنت أتجمّل ولم أكن أكذب”، وليضعك الكاتب ومن ثم الممثل أمام السؤال الصعب أهنالك فارق بين الكذب والتجمّل؟
وتراك أمام قول السيد المسيح (ع.س) عند رجم المجدلاوية: من لم يكن منكم حاملا خطيئة فليرجمها بحجر. محورا إياه لتراك قائلا: من لم يكن منا حاملا كذبة، حتى لو اعتبرها بيضاء، فليرجم أحمد زكي أو محمد عبد الحليم عبدالله بحجر. لكن هذا لا يغنيك عن المحاولة للإجابة على السؤال الصعب: هل هنالك فارق بين الكذب والتجمل أو هل هنالك كذب أو في أضعف الإيمان إخفاء للمعلومة شرعي؟ يصعب السؤال إن كنت في موقع مسؤولية في مؤسسة، أية مؤسسة !
البقرة ولدت سبعة!
كان هنالك في التاريخ القريب منظومة دول عظمى انهارت كقصور رمال الأطفال على الشواطيء، وما زالت الآراء حول أسباب انهيارها قيد الدراسات، والاجتهادات كثيرة. لكن غداة الانهيار كثر “اللغط” خصوصا بيننا نحن الذين لم يهن علينا هذا الانهيار وقضينا الساعات الطوال تحليلا وكل حسب ما يحب ويكره، في سهرات طويلة كان يحتدم فيها الجدل وليبلغ في الكثير من الأحيان الصراخ والشتائم، وفي الغالب لم ينج من ألسنتنا متهم بدء بال-C.I.A وانتهاء بالرفيق سكرتير فرع البعنة!
وفي إحدى تلك “الندوات” الكثيرة أراحني رفيق خفيف الظلّ كان من أشد الكارهين ل-“أنا أعتقد” ول-“أنا أرى”
وللمحاضرات التي تتلوها، بقوله:
بلا أعتقد بلا بلوط ، كيف بدك نظام يعيش، تموت فيه البقرة في الكولخوز (القرية التعاونية في المنظومة الاشتراكية)، ويصل التقرير للعاصمة أنها ولدت سبعة؟
قيل عن قس بن ساعدة الأيادي أنه كان أخطب العرب كذلك رثاء، إلى أن جاء معلمي للغة العربية في الثانوية المرحوم شكيب جهشان لينفي هذه الصفة عن ابن ساعدة مدعيا أن أبلغ خطب الرثاء كانت لفلاح لبناني “على قد الحال” أصر أن يرثي زعيما توفي كانت تربطه بع علاقة صداقة خاصة انكرها عليه أقارب الفقيد، ولكن أمام إصراره على أن يرثي الفقيد مهما كلف الأمر، أعطاه بعض رحيبي الصدر من أقارب الفقيد الفرصة فوقف أمام الجثمان واجما لحظات والقوم ينتظرون فتنهد وقال بلهجته اللبنانية: ” لو كان الموت بحور كنا شربناه ولو كان جبال كنا هدّيناه، بس الموت ….. أخت الموت!” وأنهى.
إذا كان الفلاح اللبناني بزّ قس بن ساعدة الأيادي في خطبته البسيطة نصا البليغة معنى، فرفيقنا الذي لا يحب ال-“أنا أعتقد” في بقرته النافقة التي ولدت سبعة بزّ كل المجتهدين.
نشر الغسيل الوسخ الإسرائيلي قوة أم ضعف ؟
ما زلنا نحن العرب في منظوماتنا المختلفة نعاني خوفا مزمنا مما نسميه ” نشر الغسيل الوسخ” اعتقادا منّا أننا بذلك نحافظ على منظومتنا بيتا كانت أم عائلة أم حمولة أم حزبا أم دولة حتى، والحجة على الغالب تكون منعا لتشفى أعدائنا أو خصومنا حسب السياق، وإن كان الواحد منا في موقع مسؤولية معتبرا نفسه وصيا على الناس حاميا وراعيا لهم، فحجته أن “الغسيل الوسخ” يحبط الناس، وهذا نابع من قلة ثقة بهم وبقدرتهم على مساعدته في تنظيف هذا الغسيل في أضعف الإيمان وأقواها تغطية على مسؤوليته عنه وعلى دوره في قذارته وعدم قدرته على غسل الغسيل.
يجد نفسه المرء حائرا وعاجزا أحيانا أمام السؤال: لماذا نحن على خلاف “أبناء عمّنا” نخاف كل هذا الخوف من نشر “غسيلنا الوسخ”؟ ونخاف كل هذا الخوف من تشفي أعدائنا بنا إن نشرناه؟ ونخاف كل هذا الخوف من أن يحبطنا نشره ؟
وما “يقهرني” أني لا أجد جوابا على كل هذه الأسئلة إلا: أن أبناء عمنا على درجة من الثقة تؤهلهم لأن ينشروا غسيلهم الوسخ وعلى الملأ لأنهم يؤمنون أن نشره هو الوحيد الكفيل بتنظيفه غير مبالين بما يقول أعداؤهم ولا يخافون من شماتتهم، وهم أحصن منّا أمام ما نخافه من إحباط.
وإذا انتقلت من التعميم إلى التخصيص: لماذا لا زلنا لا نرى أن شعبنا وأمتنا كبرا بما فيه الكفاية على هذا الخوف، فكم بالحري الحركة الوطنيّة بأبنائها ومؤيديها التي إذا نشرت “غسيلها الوسخ” فالأمر مؤشر ونابع أولا من ثقتها بنفسها وثانيا من ثقتها بكوادرها ومؤيديها وثقتها بقدرتهم على المشاركة في تنظيف الغسيل، وأنهم محصّنون أمام كل إسقاطات نشر “غسيلها الوسخ” دون أن ترهب لا العدو ولا الخصم، خصوصا إذا كان نشره بهدف الدعوة للكل للمشاركة والتعاون على تنظيفه ومن منطلق أننا الكل عمال عند صاحب عمل واحد هو واجبنا الوطني ولا يختلف القدر المطلوب منا تقدمته لهذا الواجب إلا باختلاف واتساع مواقع ودوائر مسؤولياتنا ؟!.
استراحة المحطة الأخيرة:
لا أدعو إلى البوح بكل شيء وما من شك أن هنالك أمورا تدور في خلد الإنسان ليس بالضرورة نشرها، لكن الحذر الزائد والخوف وخصوصا إذا كانت من باب التجمّل أو البقرة النافقة أو اهتزاز بالثقة بالنفس وبالآخرين، يفضيان في نهاية الأمر إلى نتائج لا تحمد عقباها وفي هذا أظنني لا نختلف، ربما نختلف على حدود النشر أو البوح وهذا الاختلاف أكثر من شرعيّ ولا يفسد للود قضيّة.
سعيد نفاع
تموز 2008