بين الديموقراطية، المركزية والفوضوية هنالك ديموقراطية انضباطيّة!

تموز 2007

أية ديموقراطية في باب حريّة التعبير عن الرأي يستطيعها عضو “الحزب المعارض”، ومنها التجمع الوطني الديموقراطي؟

لا تجديد في القول أن الديموقراطية، هذا الإرث الإنساني الهام العائد إلى الحضارة اليونانية، ليست مجرد ترجمة لمعناها “حكم الشعب” وعلى الأصح حكم الأكثريّة. ولا تجديد في القول أنها كذلك تحوي في طياتها الحفاظ على الحقوق الأساسية للناس وأحدها حريّة التعبير عن الرأي.

نخب الشعوب التي قيّض لها أن تحكم شعوبها، إن كانت ثمرة انتخاب شعوبها في الأنظمة الجمهوريّة، وإن كانت ثمرة رضاء الشعوب بتوارث الحكم في الأنظمة الملكيّة، وإن كانت ثمرة استيلائها على الحكم في الأنظمة “الجمهوملكيّة”. كلها نقشت على أعلامها الديموقراطية دينا وديدنا، لكن بين النقش والممارسة المساحة واسعة والبون شاسع.

الديموقراطية كنظام حكم في أنظمة الحكم المختلفة إن لم تحو تداولا للسلطة سلما، وضمان حياة كريمة للناس عيشا بضمنها حرية  التعبير عمّا يجول في خواطر الناس، كأسس مجتمعة، ليست ديموقراطيّة. وحيث أن  البشريَة لم تجد حتى الآن آلية أفضل من الديموقراطية لتدبير شؤونها وبضمنها مؤسساتها المجتمعيَة كذلك، وأهمها الأحزاب موضوع المعالجة هذه، اجتهد مفكرو الشعوب المختلفة لإلباسها لبوسا يتلاءم وما اعتقدوه، بنيَة صادقة أو بغيرها، فانقسمت الآراء فصار لدينا ديموقراطية مركزية وأخرى لبرالية وثالثة توافقية ورابعة ديموقراطية شورى ووو …

 

الديموقراطية المركزية:

هي الآلية التنظيميّة التي اتبعتها الأحزاب الشيوعية حكما حيث حكمت، وممارسة داخلية حيث لم تحكم، سارت في ركبها كل الأحزاب “القوميَة” حكما حيث حكمت وممارسة داخلية حيث لم تحكم. تتلخص هذه الديموقراطية، وإذا استعرنا من بيان الحزب الشيوعي الإسرائيلي لمؤتمره ال-21، بالآتي:

“مداولات ديموقراطية وحرة، ولكن بعد اتخاذ القرار على يد الغالبية، يصير ملزما لكل هيئات الحزب وأعضائه. الديموقراطية معناها أن رأي الأغلبية يلزم الأقلية، وقرار الهيئات العليا يلزم الدنيا”

كلام جميل وجها لكنه يحوي في طياته عمقا إذا صح التعبير “ألغاما” تفجرت في وجه دول المنظومة الاشتراكيّة فانهارت أنظمتها كانهيار لوحات الدومينو، طبعا هناك من يزال مصرا وربما على حق أن السبب لم يكن الديموقراطية المركزيّة وإنما أسباب أخرى، ليس موضوعنا الدخول فيها.

الترجمة الميدانية لهكذا ديموقراطية هي أن قرار الهيئة العليا الأكثريّ يلزم الحزب بهيئاته الدنيا وكوادره على مدى الدورة بين مؤتمر ومؤتمر حتى لو كان بأكثرية 51% فقط، وعلى ال-49% ليس فقط أن يقبلوه إنما أن يدافعوا عنه وينفذوه ولا يستطيعون نقاشه إلا في هيئاتهم وما داموا لا يستطيعون تغيير موقفها ما عليهم إلا الدفاع عنه والعمل على تنفيذه ، ومن لا ينفذ يعتبر خارجا عن الصراط المستقيم وفي الكثير من الأحيان دفع حياته ثمنا كما جرى الحال في عهد ستالين حيث حكم الحزب، أو طردا من صفوف الحزب حيث لم يحكم الحزب. بالمناسبة فإن الحزب الشيوعي الإسرائيلي ورغم تبنيه الديموقراطية المركزية نظريا، لكن الرقيب يستطيع دون كثير عناء أن يرى أنه لا يمارسها فعليا.

 

الديموقراطية اللبراليّة بين الفوضوية والانضباطية: إذا صح التعبير “لبراليّة” فهي الديموقراطيات السائدة في الغرب ومن يلف في محورها كإسرائيل مثلا، مع كل نواقصها وتشوهاتها وبالذات في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. ولكن كون معالجتنا لا تطال أنظمة الحكم إلا عرضا، وما يهمني هو تصرف الأحزاب التي اتخذت منها منهجا وبالذات تلك غير الحاكمة، فقواعد الممارسة يجب أن تختلف، فحتى تلك المليئة بالتشوهات منها أوجدت لها ضوابط بالقوانين والأنظمة الداخليّة، فلا تستطيع أن تتصرف كما يحلو لك وتقول ما يحلو لك.

 

مساحة التصرّف  والقول وحتى في باب حريّة  التعبير عن الرأي تتناسب طرديا وعكسيا مع حجم الحزب وظروف عمل الحزب الذي قبلت أن تتأطر فيه، فمجرد قبول الـتأطير أو التأطر المضبوط في نظام داخلي، هو شرط التأطر، هو تنازل طوعيّ عن مساحة من حريتك المطلقة تصرفا وقولا. ما يستطيعه الحزب الكبير الحاكم أو المتطلع إلى الحكم مع فرص كبيرة، أن يسمح مثلا لأعضائه طرح مداولاته الداخلية ونقاشاته على الملأ مهما كانت صعبة، وحتى دون توخي الدقّة والموضوعيّة، لا يستطيعه حزب صغير معارض فرص وصوله إلى الحكم معدومة، كم بالحري إذا كان حزبا يمثل قطاعا في أقليّة قومية تصارع على مجرد وجودها ليس فقط هويتها .

 

ومن التعميم إلى التخصيص، التجمع الوطني الديموقراطي، رغم أنه خطا خطوة كبيرة في مؤتمره الخامس الأخير لم يسبقه إليها حزب حتى الآن بفتح مداولاته الداخلية لوسائل الإعلام، لكنه لا يستطيع أن يتحمل ومن الخطأ أن يقبل الخروج على نظامه الداخلي تحت شعار حريّة التعبير عن الرأي هذا المبدأ الذي لا نقاش أنه من لبّ الديموقراطية، مثلا في مجال الضوابط المفروضة على عضو الحزب في اتخاذ خطوات هي في المبدأ من حقّه، ولكن مكانها أولا هيئات الحزب ومؤسساته وليس وسائل الإعلام. أو مثلا في مجال طرح وجهات نظر في قضايا عامة هامة لم تلخص بعد في هيئات الحزب ولا أمام كوادره ومن على وسائل الإعلام.

وهذا لا يعني حصانة لأحد أمام النقد أو تقديسا لرأي حتى لو كان أكثريّ، خصوصا إذا كان النقد هو نقد آراء واجتهادات لا قمع آراء واجتهادات بالتصويب نحو صاحب الرأي والاجتهاد لا نحو الرأي والاجتهاد. ففي نهاية الأمر لست أنا ولا أنت ولا آراؤنا واجتهاداتنا محور الدنيا، مهما بلغ إعجابنا الذاتي بأنفسنا وبها، فالأيام وما تأتي به، وحدهما الحكم.

 

ما نشهده من تصرفات الأحزاب الغربية أو المحلية الصهيونيّة، يجب ألا يكون لنا مثلا لا من حيث ندري ولا من حيث لا ندري، فليست هذه “الديموقراطية” التي يجب أن نبغي بحكم جوهرنا وموقعنا فهي “ديموقراطية فوضوية” وإن لاءمت أحزابا كهذه فرضا، فهي لا تلائمنا جوهرا وموقعا، تماما مثلما لا تجب أن تكون “الديموقراطية المركزية” لنا طريقا. فبين هذه وتلك هنالك “ديموقراطية انضباطيّة” يضمنها النظام الداخلي الذي ما هو إلا اتفاق، في سياقنا عقده أعضاء الحزب عند انطلاقته وطورناه في كل مؤتمر ومؤتمر، والاتفاقات يجب أن تحترم فكم بالحري إذا كانت نظما داخلية لمجموعات ممهورة بتوقيع الآلاف والأهم ممهورة بأختام وطنيّة.

 

 

النائب المحامي سعيد نفاع

تموز 2007

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*