نيسان 2007
لا يمكن أن نفهم وندرك، لا أن نعرف فقط ،معاني الهجمة التي أطلقتها مؤخرا المؤسسة الإسرائيلية ممثلة برئيس جهاز مخابراتها، على عرب الداخل من دون أن نفهم الخلفية وندركها، لا أن نعرفها فقط، فبين المعرفة، والفهم والإدراك مساحة يجب أن نملأها، فإن أدركنا الخلفية وفهمناها أدركنا وفهمنا الهجمة، وعندها تهون المواجهة ويهون صدها.
الصهيونية ومنذ بدئها غزو بلادنا في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، وضعت في كل فترة زمنية استراتيجية يلازمها تكتيكا للتعامل مع سكان البلاد حينما اكتشفت ومبكرا أن شعارها : “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” سقط، إذ وجدت بلادا تعج بأهلها حياة.
بقاء 150 ألف فلسطيني في بلادنا بعد النكبة الكبرى في ال-48 شكل معضلة وتحديا للدولة الحديثة القيام على أنقاض جزئهم المقتلع، من الضرورة أن نتذكر أن الغالبية العظمى من فلسطيني البقاء أولاء هم أهل الجزء الفلسطيني الذي كان مخصصا، حسب قرار الأمم المتحدة للتقسيم 1947، للدولة الفلسطينية، والذي احتلته قوات “الهجناه” في حرب النكبة. لم تأمل الصهيونية أن تبقى في هذا الجزء طويلا، لكن التقاعس الدولي والعجز العربي أتاح لها ما لم تكن تتوقع، إذ لو توقعت، لكان نصيب الكل في هذا الجزء كنصيب بقية أبناء شعبهم تهجيرا وتشريدا.
مارست الصهيونية على فلسطيني البقاء أولاء سياسة “تدجين” أو باللغة السياسية “أسرلة”، وحتى تستطيع ذلك كان لا بدّ لها من ضرب مواطن القوة فيهم، فجردتهم من كل مقومات القوة بضرب مصدر رزقهم الأرض، فصادرتها جاعلة لقمة عيشهم رهنا بها ونجحت، إذ حوّلت قرانا إلى فنادق مستوى “ثلاث نجوم” في أحسن الأحوال، ننام فيها ونبكّر استيقاظا لننطلق لبناء بيوتهم وحرث مزارعهم لنعود مساء بلقمة عيش أبنائنا.
أما مَكمن القوة الآخر وهو الأصعب، كان ذهنيتنا. وانطلاقا من أن العبد المدجّن، هو ذاك المدجّن ذهنيا ليس جسديا فكم من الأحرار في السجون والمنافي، كان لا بد لها أن تدجّننا ذهنيّا، وتدجيننا كذلك هو “أسرلتنا”. كل ذلك انطلاقا من: “إن أردت أن تستعبد مجموعة بشرية فاقطع جذورها الحضاريّة واجعل لقمة عيشها رهنا في يديك”.
الشق الثاني والمتعلق بغالبيته بالمؤسسة وأذرعها، هو الأهون كان على المؤسسة، ولاقت فيه نجاحا بعيد المدى، أما الشق الثاني، مقومنا الحضاري الذهني، كان وما زال متعلقا أكثر فينا. من هذا الفهم لديها لهذا الشق وجدت الصهيونية سبيلها إلى ذلك باستراتيجية “الأسرلة”، وحتى نبسطها دون أن ندخل في متاهات التعريف الفلسفي يمكننا أن نختزل ذلك إلى:
تغريبنا ذهنيّا عن شعبنا وعن أمتنا بعد أن غرّبت شعبنا عنّا جسديا، وبكلمات أخرى أن تصير همومه ليست همومنا وفرحه ليس فرحنا، أن نصير نحزن لفرح شعبنا ونحزن لفرحه تماما كما الإسرائيليين، وهذه الأسرلة في أقصى معانيها، ولذا جعلونا نحتفل بعيد الاستقلال مغنّين في مدارسنا أطفالا:
“بعيد استقلال بلادي قلبي فرحان- غرّد الطير الشادي بكل البلدان”
أو في أقرب معانيها القبول بطروحاتها مطالبين شعبنا الاكتفاء بما تيسر، وليكن “براغماتيا” غير مدركين في غالب الأحيان أن بين البراغماتية والانتهازية شعرة.
انقسمت قوانا الوطنية حينها والتي كانت أقلية، إذ استطاعت الصهيونية أن تحتوي الغالبية منّا، بين قابل للأسرلة غير قابل للتدجين الاقتصادي رافعا شعار المساواة والحقوق المدنية، فأخذ حيزه للعمل وفقا للمساحة “الديموقراطية” الإسرائيلية أما الشق الآخر والذي لم يقبل كذلك الشق الآخر، الأسرلة. ضرب بالحديد والنار، إذ لم يتسع له الحيّز “الديموقراطي” الإسرائيلي.
” لم تأت العتمة على قدر يد الحرامي” واستباقا لما قد يحدث، حيث أن الأمور ليس مرتبطة باستراتيجية هذا الطرف أو ذاك، حتى لو امتلك المفاتيح وفي سياقنا بالقوة، عدّلت الصهيونية استراتيجيتها وتكتيكها وفقا للضرورات وخوفا على ما اعتقدت أنها نجحت به: تدجيننا ذهنيّا، رافعة في وجهنا وتبريرا للتمييز ضدنا، معادلة: الحقوق تساوي واجبات، يعني بما أنكم لا تؤدون واجباتكم بتحمل عبء الدفاع عن الدولة ب”الخدمة العسكرية” فلا حق لكم في الحقوق الكاملة ولا حتى أن تحلموا بها. لم يأت دليل أكبر على سقوط هذه المعادلة، من دليل عدم تحقيق المساواة لدى تلك الشرائح من أبناء شعبنا التي أجبرت على تأدية الخدمة العسكرية وتلك التي قبلتها طوعا.
الأمر الطبيعي وأمام سقوط المعادلة هذه، وانطلاقا من حقنا الطبيعي كأناس، وكم بالحري أننا أبناء البلاد الأصليين، بالمساواة الكاملة قوميا ومدنيا، كان علينا أن نرفع معادلة أخرى لا أن نبقى نتلهى بمحاربة معادلات ساقطة أصلا وساقطة تحقيقا وفيها اختزال وامتصاص لطاقات شعبنا في المسيرة نحو حقوقه الكاملة. فجاء من حمل الخطاب الجديد المكمّل والمطور لخطاب الحركة الوطنية الذهني أولا والتي قمعت الصهيونية بذوره بكل ما أوتيت من قوة إدراكا منها أن خطرا يكمن فيه.
لملمت الحركة الوطنية صفوفها رافعة المعادلة الجديدة على أطلال الساقطة، معادلة هي صاحبتها في مقابل معادلة ليس نحن أصحابها ولا نستطيع أن نكون، معادلة مركبة من: الحقوق القومية وأحد أوجهها الاستقلال الثقافي الذاتي ودولة المواطنين والتواصل مع فضائنا العربي الإسلامي مهما اختلفت طوائفنا ومذاهبنا.
الحقوق القومية ليس بمعنى أن نبقى عربا فلسطينيين نحافظ على حضارتنا فهذه مقدور عليها وضمن المعادلة الأولى، الحقوق القومية التي طرحتها وتبنتها الحركة الوطنية هي الحقوق الكينونية وما يترتب عليها بصفتها الضامن الوحيد لوجودنا وتواجدنا الذهني والجسدي طريقا وحيدا للمساواة الكاملة.
هذا الطرح هذه المعادلة أوقفت الصهيونية على قوائمها الخلفيّة، بمفكريها وساستها ودقّ في أروقتها ناقوس خطر قادم، ننكره، أن هذا الطرح يخطر جوهر يهودية الدولة، والحقيقة هي أن هذا الطرح كشف زيف المركب الآخر في تعريف الدولة، ديموقراطيتها. ولأنهم لا مفكرين ولا ساسة لا يستطيعون أن يرفعوا “الكفوف” في الحلبة الديموقراطية يحاولون رفعها في حلبة اليهودية، كحلبة أسهل لهم فيها النزال وكسب جماهير المتفرجين.
ومن هذا المنطلق كان الانقضاض مسألة وقت ليس إلا، فبقوا متربصين، مهيئين من خلال تربصهم حلبة النزال وتوقيتها وحكامها، وليضمنوا كذلك جمهور مصفقين “إجماعيا” من عندهم، مدعّم بمصفقين من بين ظهرانينا ذلا أو انتهازية أو خوفا، أو عدم تعاطف مع المنازل، وطريقهم إلى ذلك ضرب شخص المنازل وتشويهه لتحوير حقيقة المنازلة.
لم يتيقنوا عند انطلاق الخطاب القومي الديموقراطي مغنيا الحركة الوطنية في صفوفنا والتي لم تطفأ جذوتها يوما، أن هذا الخطاب سيعمر طويلا لأنه لن يجد الحاضنة المستعدة أن تحمله وترعاه على المدى الطويل، معتقدين خطأ أن الحاضنات المربيات من أبناء شعبنا متلهيات بمواليد أخر، ثمرة الحالة الحضارية، السياسية الاجتماعية لمجتمعنا. وكان دليلها ضعف الامتداد الالكتورالي- الانتخابي لهذا الخطاب لهذا الطرح.
لكن الأطروحات التي قدمتها مؤسساتنا الاجتماعية والسياسية وعلى رأسها لجنة المتابعة العليا ثمرة لنخبة مثقفينا، تلك الأطروحات التي بجوهرها تبنت هذا الخطاب، زادت يقين المؤسسة أن معادلاتها سقطت نهائيا، فجعلها الأمر تتململ في مربصها استعدادا للانطلاق، فانطلقت مستغلة أو مستثمرة الحرب العدوانية الأخيرة على لبنان وتداعياتها وإسقاطاتها، عليهم أولا وعلى العرب في الداخل وعلى موقف كل العرب منها.
التّبني الواسع هذا لهذه المعادلة وسقوط بل انهزام معادلاتهم أمام هذه المعادلة، معادلة الحقوق القوميّة الكينونيّة كأضمن الطرق وأقصرها لإحقاق الحقوق المشروعة في المساواة الكاملة، والمتبناة عند كل المفكرين المتنورين الديموقراطيين في العالم الذين شكلوا غطاء لديموقراطيتهم، هذا التبني بدأ ينزع الغطاء بقوة لتتكشف العورات، فأقضّ المضاجع والمواجع عندهم.
هذه هي الخلفية والتراكمات وراء انبراء رئيس جهاز المخابرات ليصرح في سابقة ندر مثيلها في أي دولة متحضرة: “أن العرب (كل العرب) في الدولة يشكلون خطرا استراتيجيا عليها”. الخطورة في هذا الكلام هي المعنى الذي يحمله. معنى هذا الكلام أن العرب في الدولة هم أعداؤها وقواعد “اللعب” مع العدو طبعا تختلف، وكم بالحري إذا كان عدوا استراتيجيا.
إذا أدركنا وفهمنا ليس فقط عرفنا، مالئين المساحة بين المعرفة والإدراك والفهم، عرفنا وأدركنا وفهمنا حقيقة الهجمة وخلفيتها، عرفنا وفهمنا وأدركنا سبل التصدي لها والأهم الانتصار عليها. ما علينا أن ندركه ونفهمه ليس أن نعرفه فقط، إضافة إلى الخلفية:
الهجمة ورغم خطورتها الكبيرة هي مقدمة أو جزء من هجمة على كل العرب، فرئيس جهاز المخابرات كان واضحا، فقد قال: “العرب خطر استراتيجي” لم يفرق بين عربي وعربي.
الهجمة تجيء تعبيرا عن أزمة تتخبط فيها المؤسسة ورجالاتها سياسيا وأخلاقيا، وتعبيرا عن أزمة متغلغلة أصلا جاءت نتائج حرب لبنان لتزيدها تأزما، والمتأزم لا يتورع عن الخبط خبط عشواء.
الهجمة ما هي إلا محاولة للترهيب والتخويف الذي كبرنا عليه منذ زمن، ولكن بالنسبة لهم لا بد من المحاولة فلعل وعسى يردعونا أو يردعوا بعضنا على طريقة قول أهلنا “أضرب اللي في الكراب تردع اللي في البور”.
الهجمة ليست الأولى التي نتعرض لها، فكل مسيرتنا هجمات، تصدينا لها وأفشلناها خصوصا عندما رصينا الصفوف… ولم يهزم عبر التاريخ إلا الخائف ومخلخل الصفوف، أما الفارق بين المهزومَين، أن الخائف ينهزم أمام عدوه وخصمه أما مخلخل الصفوف فينهزم أمام العدو والخصم والشعب شعبه الذي ربما يمهل لكن لا ولن يهمل.
سعيد نفاع
نيسان 2007