شباط 2011
لو لم تكن الميادين العربيّة من “التحرير” إلى “الحريّة” إلى “اللؤلؤ” تغلي، لكان الفيتو الأميركي على الاقتراح الفلسطينيّ- العربي بإدانة الاستيطان الكولونيالي الإسرائيلي يتربع على ناصية الأخبار في كل فضائيّة وإذاعة وصحيفة. بعض الفضائيّات تجاهلت ذلك كليّا في نشراتها الصباحيّة على الأقل، وهي التي تجاهلت منع وائل غنيم- المدوّن الشاب المصري من إلقاء كلمة في ميدان التحرير ليس قبل أن يُقترح له اسم آخر وفقط لأن في اسمه بقيّة من “رائحة جمال عبد الناصر”.
تستطيع أن تتفق مع السلطة الفلسطينيّة ورئيسها وتستطيع أن لا تتفق وهذا شرعيّ، تستطيع كذلك أن تتهمها بالتهمة الجاهزة عربيّا بالخيانة والعمالة وشرعيّة ذلك مسألة فيها نظر، ولكن لا تستطيع أن تتجاهل إصرارها على طرح مشروع القرار على مجلس الأمن ورغم الضغوط التي مورست على رئيسها من رئيس “سيّدة العالم” مباشرة، حفظا لماء وجهه وهو “الرافع” مؤخرا علم الدفاع عن الشعوب العربيّة والإسلاميّة في وجه طغاتها !.
سلّة مهملات إسرائيل مليئة بعشرات القرارات الدوليّة وما كان مصير هذا القرار حتى بدون الفيتو الأميركي، ليكون أفضل. وليست قضيّة المستوطنات هي العائق الأساس أمام الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ولكن أعجبَنا الموقف الفلسطيني أم لم يعجبنا فالمفاوض الفلسطينيّ عرف ليس فقط كيف يلعب في الساحة الغربيّة بل أن ينتصر فيها ولأول مرّة على إسرائيل وقبل هذا القرار، ما كان قد جعل نتانياهو أن يتوجه للّوبي الصهيوني في أميركا طالبا المساعدة على التخلّص من “أبو مازن” الخطِر حسب ويكيليكس، أم أن ويكيليكس صالح مصدرا لشتم السلطة فقط؟!. إحراج وحرج “الحَكَم” وبالذات هذه الأيام هو بيّنة، رغم أن التصادف مع الثورات والانتفاضات العربيّة كذلك ساهمت هذه المرّة في اتخاذ الموقف ولعبت لصالح الموقف الفلسطينيّ.
إنّي يقظ للموقف الآخر المتّهم السلطة الفلسطينيّة وبأضعف الإيمان بالتفريط بالثوابت الفلسطينيّة، ولكن أمام الطرف الفلسطيني أو الأطراف طريقين لا ثالث لهما إمّا المُرّ وعلى طريقة “لا يلزمك على المرّ إلا الأمرّ”، فبغياب ظهير عربيّ فاعل لشعب أعزل يرزح تحت الاحتلال ولقمته في يده ويد الغرب بعد أن ضاقت أيادي إخوانه عن دعمه تشييدا للأبراج والملاعب والفضائيّات وأوكار الفساد، ليس أمامه إلا التفاوض ومن الموقع الأضعف وبغض النظر إن نجح أو فشل فلن يعطّل نجاحه أو فشله أصحاب الطريق الآخر عند الزحف يوم يقرر أصحابه الانطلاق، وسيرش الفلسطينيّون ما تبقى لهم من أرز ليقتاتوا به وما تبقى في حدائقهم من زهور على الجحافل الزاحفة.
يوم “ألهب” أوباما مشاعر الكثيرين من العرب والمسلمين في خطاب جامعة القاهرة غاب عنّا وسط التصفيق الحاد قوله “لا نستطيع أن نفرض السلام”، فهل من مصدّق وشريان حياة إسرائيل المتمرّدة في يد أميركا؟! أو أنه فعلا صدّقنا أن شريان حياة الإدارة الأميركيّة في يد اللوبي الصهيوني وأعطيناها صكّ البراءة؟!
وعطفا على ما أدعيه حول الموقف الغير تقليدي للإدارة الأميركيّة من الثورة المصريّة والآن “الثورات” الأخرى التي تعمّ العالم العربيّ، ليس غريبا كان عليها إلقاء الفيتو على مشروع القرار وكم كانت تودّ هي وكلّ كارهي ومتهمي “أبو مازن” والسلطة الفلسطينيّة أن ينقذها أبو مازن ويعود على خطئه في موقفه من تقرير غولدستون، وعندما لم يفعل، يفعل فاعل منّا أن يبقى القرار يتيما لا يأخذ حقّه وعلى الأقل إعلاميّا.
في مقال لي تحت عنوان “مصر… والمخفي وراء الموقف الأميركيّ” ادعيت أنه وعلى ضوء عدم إمكانيتنا معرفة حقيقة ما يدور في أروقة واشنطن ولندن وتل أبيب، أنّ التفسير للموقف الأميركيّ الغريب وغير التقليدي من ثورة مصر وعطفا على موقفها من الثورة الإيرانيّة عام 1979، يكمن في استراتيجيّة أميركيّة جديدة طبقا وتبنيّا للمقولة الماركسيّة في “الصراع التناحريّ”.
منذ أن حلّت أميركا في الشرق بعد بريطانيا وفرنسا، تجذّر بينها وبين شعوب الشرق والجنوب تناقضا تناحريّا طفا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، هذا التناقض وتناحريّته تناسبا طرديّا مع تخندق أميركا المطلق مع إسرائيل ومع حكام ساموا الشعوب الأمريّن اعتبروا صنيعتها، إلى أن بلغ الأمر شأوا رأت أميركا أن مصالحها القوميّة في المنطقة لم تعد تتحمّل هذا الصراع التناحريّ الظاهريّ وبالأساس لأن ركائزها التوت عند أول ضربة من الشعوب، فكان لا بدّ أن تنقل نفسها من الخندق المقابل البائن في الصراع إلى خندق مخفيّ إلا إذا أحسنّا الظن بمواقفها وهذا موقف السذّج منّا.
“دعمها” للشعوب هو فقط تغيير تموضع ليس إلا، فبدل أن تظلّ في الخندق التناقضيّ التناحريّ الظاهر تعمل لإخلاء نفسها ودعاماتها منه تاركة إياه ليحلّ محلها في خندق المواجهة الظاهرحكام من صنع الشعوب لا من صنعها، متوقعة وبصدق هذه المرّة أن هؤلاء الحكام لن يستطيعوا وعلى الأقل في المستقبل المنظور تحقيق ما تصبو إليه شعوبهم لا بل ستعمل على أن لا يستطيعوا ولكن من خندق مخفيّ، فتخلّص نفسها بهذا ظاهريّا من الخندق الأماميّ الخالق تناقضا تناحريّا وجاهيّا مع الشعوب الشرقيّة وليصير التناقض بين الشعوب والحكام الذين هم من صنع أياديهم.
تماما من هذا الباب كان مهما لها وعينيّا الآن أن تسهلّ عليها الصديقة، السلطة الفلسطينيّة، الإخلاء السلس للخندق الأمامي والتموضع وربيبتها إسرائيل في الخندق الجديد الخلفيّ خصوصا وأنها كانت استطاعت أن تعيد نتانياهو إلى رشده بعد أن “فلت لسانه” في بداية الانتفاضة المصريّة وقبل صيرورتها ثورة.
على المستوى الشخصي لي تحفظاتي الكثيرة على سياسة السلطة الفلسطينيّة سلبا وإيجابا، ولكن لا بدّ من الإشادة بموقفها هذا ودون خجل وإصرارها على طرحه وبالذات هذه الأيام كان “ضربة معلم”، وبغض النظر عن أبعاده الأخرى فيه دعم للثوار على الأقل إن كانوا “اشتروا” المواقف الأميركيّة غير التقليديّة الأخيرة بغير سياقها التموضعي في خنادق الصراع، ويستأهل منّا أن يجد له مكانا على أجندتنا الإعلاميّة.
النائب المحامي سعيد نفاع
شباط 2011