الخميس ١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠١٧
سعيد نفاع كاتبٌ من نوع آخر، لم يتعلّم فن الكتابة فشقّ له طريقَه في حقلِ الكتابةِ بمجهودٍ ذاتيّ وخلالَ جَوْلاتِه الكتابيّة وتخبُّطاته عَنوَن غلافَ إحدى مجموعاته: “قصص، حكايا ونصوص”، وتلتها أختُها ب”قصص قصيرة وحكايات”، وتلتها ثالثة مُعَنوَنة ب”قصص قصيرة، نصوص وحكايات” وقالها بصريح العبارة حين أنهى نَصَّهُ “رسالة مؤجلة من عالم آخر” “نصّ… سمِّه قصّة إن شئت!” تاركًا لأهل القلم والأدب ومحترفيه “شرف” التسمية والمُسَمَيّات، وفي فهرسه قال صراحةً “جاهزة للولادة: قصّة طويلة (رواية)”.ص 116
وعلى غلاف نِتاجِه الأدبي “وطني يكشف عُرْيي” (يشمل 161 صفحة وصدر عن دار الاماني للنشر والتوزيع) تجرّأ، رافضًا القيود كعادته، وقال: هذا نصّي بين أيديكم وأعذروني بأني لا أستطيع قَولَبَتَه وتسميتَه برواية أو قصّة أو نصّ أدبي واختار أن يطلق عليه رِوانصيّة.
يعيش راشد – الطبيب القروي المتخصّص – بحضن عشيقته الممرّضَة جوليا في حيفا بعيدًا عن زوجته نجلاء وولديهما والعائلة تاركًا قريته الجبليّة الجليليّة وأهلها، ويحافظ على علاقته الحميمة مع صديقه أنس، ابن البروة المهجّرَة، الذي يصطحبه ليُشاهد المسرحية التي كتبها وتكشف عُريه “فقد عرّتني وكشفت أمامي عُرينا” (ص.158) ويواجَه بكل أشكال الخيانة التي خيّم شبحها على الرواية: خيانة الزوجة، العائلة الصغيرة والكبيرة، القرية، الحبيب، الصديق وضَعفه أمامه والوطن، و”سرقة” بريد جوليا الإلكترونيّ، وخيانة القيم هي الجوهر، وكلها تُرتكب في الغياب!
وهو “خائن في كل العُرف… سيّد الخائنين” (ص.87) ولكنه يتجاهل كونه غارقًا في الخيانة حتى عنقه! ويصل إلى قناعة بأن “الخيانة هي حين نترك “ربّ” الأوطان لقمة فريسة لبهيميتنا ولتخلّفنا” ص.156
يستخدم الكاتب السخرية السوداء ليهزأ من الخيانات المتكررة فيقول: “سمعت بكاء مريرًا شدّني مصدره وإذ بي أمام حشد ضخم ميّزت فيه خالدًا والداخل وصلاح الدين والمختار والأطرش والقسام وجمال وابن رشد وابن سينا والفارابي وأبا العلاء والمتنبي وأبا فراس يعفرون رؤوسهم بالتراب” (ص 28).، ويلجأ لمحمد الماغوط لتبرئته، صاحب “سأخون وطني”، أوليس هو القائل :”يا إلهي، كل الأوطان تنام وتنام، وفي اللحظة الحاسمة تستيقظ، إلا الوطن العربي فيستيقظ ويستيقظ، وفي اللحظة الحاسمة ينام!” ويصل إلى الحقيقة أن ما أشغله هو ال-“أنا”- ورجولة شرقيّة مجروحة تحلل لنفسها ما تحرّمه للغير حتى لو كان أقرب المقرّبين”!
تناول الكاتب قضية العلاقات الافتراضية/الفيسبوكية/الإنترنتيّة فتساءل هل هي “طق حنك” و”دلو تفريغ إحباطات لأناس يعانون من أنواع كثيرة من المعاناة، وأـشدها الخوف من التواصل المباشر مع الناس واهتزازٌ عميق في الثقة بالنفس” (ص.49)؟ هل تُعدُّ علاقة عشيقته جوليا مع آخر عبر مواقع التواصل الاجتماعي… خيانة؟ كانت الخيانة واضحة لا يختلف عليها اثنان، بدءاً من الخيانة في العلاقة بين الرجل والمرأة، إلى خيانة الوطن، مروراً بالخيانة في العلاقات الإنسانية وخيانة المبدأ والقيم، والآن تعدّدت الخيانات وأساليبها.
أخذتني الروانصيّة لطيّب الذكر الأستاذ شكيب جهشان، والأستاذ نبيه القاسم، أطال الله في عمره، وثانوية الرامة، فراشد عشِق الأدب العربي ومعه المتنبي، أبو العتاهية، ذئب البحتري ورباعيات الخيام، وهام مع قيس وليلى، جميل وبثينة، كثيّر وعزّة، صال وجال في الأسطورة اليونانية وأبحر مع أفروس، زيوس، هيرا، أبولو، أثينا وأفروديت، وتربّى على التراث والأندلسي من قرطبة إلى اشبيلية وغرناطة… وولّادة وابن زيدون، ابن خلدون وابن رشد.
تناول نفاع قضايا اجتماعية حياتيّة ملحّة كقضية رفض التجنيد الإجباري الذي فُرِض على جزء من أبناء شعبنا، الواسطة للقبول في الجامعة في حينه والثمن الذي يدفعه كجزء من تلك الخيانات الصغيرة، مكانة المرأة في المجتمع والصعوبات التي تواجهها في مجتمع ذكوريّ محافظ، فنجلاء تتحدّى الصعاب وتصرّ على الدراسة الجامعية رغم المعارضة وإلقاء الحُرْم على أهلها والمقاطعة الاجتماعية والدينية (وسخرية القدر أنها أصبحت مديرة لقسم الشؤون الاجتماعية في قريتها، لأهل قريتها التي لا تخلو دارٌ منها لا تحتاج للقِسم)، وتتحمّل عبء إعالة الأولاد وقسط تعليم زوجها، وسفاح المحارم حيث أن جوليا اغتُصِبَت من قبل خالها في طفولتها فتكتّمت الأم والعائلة فدُفِعت إلى الزواج من قريب يكبرها ولم تكد تنهي الثانوية لتلد طفلها توما، وتصير هاجِرْ(تصويره لعمليّة الاغتصاب ومخلّفاتها كان قويّا، صارخًا وجريئًا) (ص.122-3)، “القرَوِست” (مصطلح شبابي حيفاوي ساخر يُطلق على أبناء القرى) الذي لم يتحرر من قرويّته ورواسبها الاجتماعيّة رغم أن قريته التي كان بعيدًا عنها أحبّته ووقفت يمينه، رغم خيانته لها، وحيفا التي تخلّت عنه خانته، رغم حبّه لها! وتناول مأساة “وطنيّة الرفاه” المتأصلة في نخبويّينا الذين يتاجرون بالوطنيّة والسياسة بعد ترفُّههم، في “الوقت الضائع”.
مشكلة معظمنا هي أننا نُفضّل أن يقتلنا المدح على أن يُنقذنا النقد (كما يقول نورمان بيل) وسعيد نفاع يتساءل بجرأة: كيف يتقبل الانسان النقد أو الملاحظات ومن مَن، ويصل الى قناعة “اذا كان الناقد ليس كاذبا ولا انتهازيا وصاحب ثقة في نظر المنتَقَد، يعود الامر للمنتقّد الواثق من نفسه المتواضع، فيتقبل النقد الا اذا كان يحمل في حناياه انتقاما من الناقد” (ص. 79).
فالخيانة تفجّر غضبًا…كرهًا… انتقامًا… وهل الخيانة وجهة نظر؟! أو هل في الخيانة وجهة نظر؟! ويصل نفاع إلى قناعة أنه “إذا كانت الخيانة وجهة نظر أو كان فيها وجهة نظر، فكلّ ثقافات الشعوب خيانة لأنها خانت أهلها وفرضت عليهم فعلا اعتبرته الخيانة هو ليس خيانة، ولذا على الشعوب أن تقذف من لغاتها كلمة الخيانة لأنها دخيلة ولا مكان للدخيل”.(ص. 109)
لغة الكاتب “شعبية” وسلسة، واستعماله للأمثال الشعبية كان موفّقًا بامتياز “لا شبق له فيها ولا عبق”، “لا همّ دنيا ولا عذاب آخرة”، “إبعد عن الشرّ وغني له”، “العين لا تلاطم مخرز”، “الحيط الحيط ويا ربّ السُترة”، “ألف ام تبكي ولا إمي تدمع”، “قُصر ذيل يا أزعر”، “لا يكفيهم ما فيهم”، “ليوم الله بعين الله”، “لم تأت العتمة على قدر يد الحرامي”، “البكاء لغير الله مذلّة”، ” “يُشرب مع الماء العكر”، “خليها مستورة أفضل”، “ضربة على الحافر وضربة على السندان”. أزعجني غياب التنقيح، التنضيد والتصحيح وغزارة الأخطاء النحوية واللغوية والمطبعية مما ظلم سعيد (على سبيل المثال، لا الحصر، “أنغازيا” ص.19، “وقعَنقر” ص. 29، “مرّتفي” ص.59، “أينهما” ص. 135، “فيترك” ص. 152) وهنا ألقي اللوم على الناشر المستخف بالقارئ والظالم لسعيد ونصّه. يبرز جليًّا غياب وتهميش صاحب “لوحة” الغلاف الرائعة الذي لم يُعطَ حقّه؟!؟
أنهى الكاتب ب”الخاتمة” واعترف أن وطنَه كشف عُرْيه “وظلّت القصة يتيمة” (ص 161) تنتظر وضوح الرؤيا وتبدّد غموض تلك الخيانات في الجزء الثاني الذي لا بدّ منه من تلك الروانصيّة… ونحن ننتظر.
صدق ناجي العلي بقوله:”أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر”، كما وصدق غسان كنفاني حين قال: “سيأتي يوم على هذه الأمة تصبح فيه الخيانة وجهة نظر”، فهل هي كذلك؟ هل الخيانة وجهة نظر أم أن “الخيانة عمى بصر” كما جاء في لوحة صديقي الفنان الملتزم ظافر شوربجي؟!؟