لم أتدخّل في العنوان وتركته كما أراد المحرر في الموقع ملبيّا توجهه رغم صعوبة الأمر على الكاتب، فما يكتبه الكاتب عادة مقالا كان أو قصّة أو أي نصّ ليس وليد قرار أو طلب وإنما دافع داخليّ يجيء عادة على غفلة من الزمن أو كما يقال عن الشعراء عندما يركبهم الشيطان.
“حلف الدم” هو مصطلح بدائي أخذ له على مرّ التاريخ صيغتين أو شكلين لعقده، الأولى كان أن يجرح الزعيمين أذرعهما أو راحة يديهما ويتصافحان علنا فيختلط دمهما أو أن تتفق قبيلتين أن “تأكلا وتحطا في الدم” بمعنى أن تتشاركا في الثأر وفي الديّة.
أمّا في سياقنا تفتق الأمر من ذهنيّة رجال المخابرات المستعربين ولقّنوه لأزلامهم بين العرب الدروز وعلى خلفيّة رفع الإعفاء عن الدروز من الخدمة الإجباريّة الذي كان ساريا عليهم كما بقيّة الأقليّة العربيّة حتى عام 1956 وإجبار شبابهم منذها وبقوة القانون بالخدمة العسكريّة أسوة بالشباب اليهود والشركس.
تكرّس هذا الشعار البدائي خصوصا لاحقا في مآتم الجنود الدروز الذين سقطوا في العمليات العسكريّة كشعار “تجاريّ” لأزلام السلطة المنتفعين “مراكزيّا” ووظائفيّا، لكنه اتخذ زخما بين هؤلاء ردّا على حركات الرفض عند الدروز والتي انطلقت منذ أن رُفع الإعفاء عام 1956 وعاشت مدّا وجزرا إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم، وكان ازدياد استعمال هذا الشعار على يد زبانية السلطة يتناسب طرديّا مع ازدياد زخم حركات الرفض.
في مرحلة معيّنة وعندما بدأت تُذوّت عند العامة السياسة التمييزيّة للسلطة وسقطت معادلة الحقوق المربوطة في الواجبات صرتَ تسمع حتى من مثل هؤلاء: “نحن لا نريد حلف دم نريد حلف حياة، بمعنى نريد حقوقنا اليوميّة” بعد أن رأوا وسريعا أن هذا الشعار الفارغ والبدائي ما هو إلا ورقة تين استعملت تغطية لسياسة السلطة تجاههم في سلب أراضيهم والتمييز ضدّهم تماما كما بقيّة العرب إن لم يكن أكثر.
لكن المهم والذي غاب أو على الأصح غُيّب عن الناس العاديين هو الخبث الذي يختبأ خلف هذا الشعار وتكريسه. غُيّب عن بالهم ورغم الجهد الذي بذله الوطنيون العرب الدروز، أنّ ما يكمن وراءه هو محاولة غرس اعتقاد بين النشء الدرزيّ أنّ لهم ثأرا عند بقيّة شرائح أبناء شعبهم وهم مستهدفون بدمائهم تماما كما اليهود ومن عدو واحد يطلب دماءهم ولذا فخدمتهم في الجيش هي حفاظا على دمائهم، وبحكم الاستهداف المشترك لا بدّ من عهد دفاع مشترك فاختير له هذا الاسم وليد ذهنيّة “مستعربيّة” تجاه أناس بسطاء فلاحين وعطفا على الحقيقة أن عدد هؤلاء الفلاحين لم يصل حينها إلى أكثر من 16,000 نسمة ولا يوجد بينهم إلا ما لا يربو على أصابع اليد الواحدة متعلمين فأخذ مثل هذا الشعار منهم مأخذا.
بعد أن صرتَ تكاد لا تسمعه وقد سقط سقوطا مدويّا ولم يعد يردده سوى بعض حركات تعمل المؤسسة مؤخرا على إبقائها حيّة بتنفس اصطناعيّ كالحركة التي تسمى “الدرزيّة الصهيونيّة” الليكوديّة والحركة الجديدة الليبرمانيّة “الشبيبة الدرزيّة” لتحاول أن ترمم “حلف الدم” المزعوم بين الدروز واليهود وتستثمر فيها لهذا الهدف إمكانيات هائلة.
قبل مدّة وعلى أثر لقاء للموقع أدناه مع طلاب مدرسة ثانويّة عربيّة درزيّة في الكنيست وطرح قضيّة رفض الخدمة العسكريّة الإجباريّة، أرسلت واحدة من هذه الحركات المسخ شكوى لرئاسة الكنيست محتجة أن الموقع أدناه حرّض الطلاب ضد “حلف الدم بين الشعب الدرزيّ والشعب اليهوديّ” …هكذا !.
لا شكّ أنّ هذه المحاولات المحمومة لإحياء هذا الشعار البدائيّ وهو رميم عائد إلى نتائج الاستطلاعات العلميّة التي نُشرت مؤخرا عن مؤتمر هرتسليا وبحثه عن مستوى الشعور بالوطنيّة الإسرائيليّة لدى الشباب ومن ضمنهم الشباب العرب الدروز، والذي بيّن أن شعور العرب الدروز ب”الوطنيّة الإسرائيليّة” تراجع في العقد الأخير إلى 1.6 درجة من أصل 6 درجات وأنها المرّة الأولى التي يتعدى عدد المتهربين الدروز من الخدمة العسكريّة أل-%50. والتي نُشرت عن الدراسة التي أجرتها جامعة حيفا والتي بيّنت فيما بيّنت أنّ %63.7 من الدروز لا يؤيدون الخدمة الإجباريّة وقرابة نفس النسبة منهم يرون بانتمائهم العربيّ مركبا من هويتهم.
هذه الوقائع تحتّم على الحركات الوطنيّة بين العرب الدروز والحركات الوطنيّة العربيّة بشكل عام الارتقاء إلى مستوى المعطيات إن كانت فعلا تريد لهذه الشريحة أن تعود من التيه الذي عانته على مدى عقود بسبب سياسة سلطويّة وإهمال من قبل بقيّة الأقليّة العربيّة.
فالمعطيات أعلاه هي تعبير عن موقف وليس بالضرورة ممارسة هذا الموقف فالممارسة خاضعة لعوامل أخرى أقوى وهي لقمة العيش، ولكن إذا لاقى هذا الموقف دعما فحتما سيتحوّل إلى ممارسة وهذه مهمّة وطنيّة عليا لقلع الأسافين المدقوقة في وحدتنا ضمان بقائنا الأول وشكل هذا البقاء.