العمل العربي الوطني بين الدروز في ال-48

         

                    بين المزاودة والمتاجرة… والواقعيّة الميدانيّة

تقدمة وأسئلة:

صار من نافل القول، القول إن العرب الدروز في بلادنا حالةٌ فلسطينيّة خاصة كثرت في حالهم الاجتهادات لدرجة الاجترار، أبحاث ودراسات ومقالات ومن طرفي المتراس العربي والصهيوني بعضها علميّ والبعض الآخر موجّه. ولكن ما دامت هذه الحالة جرحا من جراح جسدنا الفلسطيني ستبقى حالة، وإن اجتُرّت، تتناوشها الأقلام والأحزاب والحركات من داخلهم ومن خارجهم بعضها نبشا في الجرح ليبقى متقيّحا، وبعضها دملا بأياد معقمّة وبعضها بأياد ملوّثة بالذاتيّة والانتهازيّة والفئويّة والحزبيّة مستعملا هذا البعض دواء جدّتنا “الرماد والبول” وعن سبق إصرار ليبقى الجرح متقيّحا قلبا ومدمولا شكلا كي يبقى لهذا البعض ما يشغل فيه تطلعاته “الوطنيّة والقوميّة أو الأمميّة”!

العرب الدروز ما قبل النكبة كانوا جزءا من شعبهم بغثّه وسمينه ودورُهم في حياته الاجتماعيّة والوطنيّة كان كبقيّة شرائحه كذلك بغثّه وسمينه، اللهم إلا أن حصتَهم في مسيرته الوطنيّة حتى ال-48 مثلما تُبيّن الوثائق التاريخيّة فاقت حجمَهم العددي والكيفيّ كحال كل أقليّة وطنيّة، رغم أنّ التاريخ “المتأرخ” صهيونيا ومتصهينا وعربيّا جاهلا أو متجاهلا قلب الآية.

فلماذا وكيف افترقت طرقهم بعد ال-48 عن البقيّة الباقية من شعبهم الفلسطيني؟

ولماذا وكيف غلب بينهم التيّار الموالي للدولة الجديدة وسياساتها على التيار المعارض، وهل استفاد الأخير من أسباب هذه الغلبة؟

فهل ارتقى التيّار المعارض إلى مستوى تحكيم الهدف بدل تحكيم الذات والفئة والحزب في التعامل مع هذا الجرح؟

وما هو الدور الذي لعبته وتلعبه القوى الوطنيّة العربيّة الفاعلة، أمميّة كانت أم قوميّة أم إسلاميّة في دعم التيّار المعارض الذي رأى نفسه جزء منها؟

فهل عومل الوطنيّون فيها كجزء أم أنّ انتماءهم المذهبي ووضعَ الطائفة التي هم أبناؤها بحكم الولادة لاحقهم كالظل كذلك في الأطر الوطنيّة؟!

وما المطلوب؟!

أسئلة لا يمكن أن تُستوفى عليها الإجابة في معالجة واحدة وكل منها بحاجة إلى دراسة خاصّة وربّما أكثر من ذلك. سأحاول في هذه المعالجة وضع مداخلَ أو رؤوسِ أقلام لإجابات نحن كلّنا كأبناء لأقليّة قوميّة تواجه معركة حقيقيّة على شكل وجودها في وطنها في وجه سياسة عنصريّة تدأب أن تسود شكل حياة هذه الأقليّة، بحاجة لها. هذه الحاجة ماسّة ونحن نشهد في العقد الأخير تطورا لافتا في دخول قوى وطنيّة عربيّة داخليّة وخارجيّة على الخط الوطني العربيّ الدرزيّ بعد أن كان الحزب الشيوعيّ وحيدا على مدى سنوات، ظاهر هذا التطور غيرة على هذا الخط وباطنُه عند البعض الله أعلم وهو الوحيد العليم!

أفعل ذلك، وضع مداخلَ أو رؤوسِ أقلام للإجابات، وأنا واع أنني داخلٌ حقل ألغام من مخلفّات الحرب الباردة سينفجر بعضها في وجهي، أسأل الله تعالى أن يحيطَني برحمته وهو الرحمن الرحيم ويقيني شرّ قلمي وهو يدوس هذه الألغام وبالتالي شرّ شظاياها رغم علمي أني لن أخرج دون جروح ورغم أني عقلت قبل أن توكّلت!

خلفيّة لا بدّ منها:

بعد النكبة 1948 وبقاء 156 ألف فلسطيني في “الدولة اليهوديّة” اعتُبر هذا البقاء خطأ تاريخيا من وجهة نظر مؤسسات الدولة الجديدة، فعملت هذه على ضرب مواطن قوة هذه الأقليّة وأهم هذه المواطنَ ربّما، وحدتَها وطبقا لقواعد كانت أرستها منذ أن غزت ولّادتُها، الحركة الصهيونيّة، بلادنا.

من هذا الباب جاءت مؤامرة فصل الدروز وعددُهم لا يتعدّى حينها ال-14,000 نفر، عن هذه الأقليّة ونجحت المؤامرة وخلال سنوات قليلة استطاعت الحركة الصهيونيّة فصل الدروز، وأوجُ هذا الفصل كان بإخراجهم من دائرة الإعفاء من الخدمة العسكريّة الإلزاميّة التي كانت ساريّة قانونا على كل العرب، وبدء تجنيد شبابهم بقوة القانون ابتداء من العام 1956.

تكشف الوثائق التاريخيّة المُفرج عنها بحكم قوانين التقادم، أن عددَ الشبّان الذين شملهم أمرُ التجنيد حينها كان 472 شابا أمتثل منهم في مكاتب التجنيد 127 شابا أي %27 فقط، ومن بيت جن مثلا طُلب 35 شابا لم يمتثل أحد منهم، وبدأت ضد الرافضين عمليّة صيد ساحرات استمرّت لسنوات. وقامت حركة معارضة شعبيّة من أبرز شخصياتها كان المرحوم الشيخ فرهود قاسم فرهود، إلا أنها فشلت خلال فترة قصيرة بتضافر جهود الرجعيّة الدرزيّة والمؤسسة القمعيّة ضدّها وبغياب سند سياسيّ أو جماهيري عربيّ.

اتخذت المعارضة منذ ذلك الوقت أشكالا عدّة وحاولت أن تنظّم نفسها في العام 1965 وفعلا أطلق سميح القاسم مبادرة تأسيس حركة “الشباب الدروز الأحرار”، وتنشط تنظيميّا اليوم حركتان أساسيتان: “لجنة المبادرة الدرزيّة” شيوعيّة الفكر والتوجهات و-“ميثاق الأحرار العرب الدروز (المعروفيّون الأحرار)” قوميّ الفكر والتوجهات. لم يستطع هذان التنظيمان إيجاد سبل عمل مشترك وراوحت العلاقة بينهما مدّا وجزرا وتوترا وانفراجا تبعا للخلفيّة الفكريّة وبالتالي التموضُع الحزبيّ لغالب أعضائهما على الساحة العربيّة الفلسطينيّة في الداخل.

محطّات في المسيرة:

تُمكن الإشارة إلى ثلاث محطّات كان يمكن أن تكون فارقة في حياة المسيرة الوطنيّة العربيّة الدرزيّة في مواجهة مخطط المؤسسة الإسرائيليّة، والمقياس والمعيار لهذه المحطات هو الرد القمعيّ لهذه المؤسسة ضد السائرين فيها، والذي تعاظم طرديّا مع رؤية المؤسسة أن فاعليّة المسيرة في هذه المحطّات تُخطّر أو تكاد مخططَها الفصليّ العنصريّ.

المحطّة الأولى في السنوات 1954-1956 سنوات فرض الفصل، حين انطلقت أكبر حملة شعبيّة ضد فصل الدروز عن أبناء شعبهم بوجهه القبيح فرض التجنيد الإجباري على الشباب العرب الدروز، وكان أبرز الفاعلين في هذه المحطّة كما قيل المرحوم الشيخ فرهود قاسم فرهود مدعوما على الأقل معنويا من المرحوم الشيخ أمين طريف الرئيس الروحي الذي كان من أشد المعارضين لدرجة التهديد بفرض الحرمان على المتجنّدين ورفضه في بعض الحالات عقد قرانهم والأمثلة كثيرة.

ردّت المؤسسة وأزلامها على قوّة المعارضة المُخطِّرة خطتها بحملة قمعيّة وصلت حدّ التهديد الجديّ بالتصفية الجسديّة للنشيطين، وتهديد الشيخ أمين بالقضاء على بيت طريف إن هو استمر في معارضته أو دعمه المعارضة (هذا الكلام نقله سميح القاسم عن لسان الشيخ). فقُمعت إذا صحّ التعبير، فاعليّة المعارضة و”قُوّدت” على الدروز شخصيّات ثانويّة صارت “تحِل وتريط” ولكن تماما كما تريد السلطة وفرضت سيطرتها على مقدّرات الدروز.

المحطّة الثانية في الأعوام 1969-1972، حتى هذه السنوات صادرت السلطات قرابة الثلثين من أجود أراضي العرب الدروز موطن قوتهم الاقتصادي أسوة ببقيّة أبناء شعبهم وبقيت كذلك قراهم متخلّفة وفقيرة، وذلك رغم سياسة الفصل وشكلها الأبرز التجنيد الإجباري التي حقّقت نجاحا نسبيّا عاليا، وشهدت الفترة التي سبقت تدخلا سافرا في شؤون مذهبيّة كإلغاء عيد الفطر وتشكيل محاكم مذهبيّة مستقلة كتعزيز للفصل.

هذه الممارسات المتمادية أثارت حالة من الامتعاض والتململ وجعلت الكثيرين يعيدون التفكير معبرين عن ذلك بدعم انتخابيّ سريّ غير مسبوق للحزب الشيوعي المعارض في الانتخابات البرلمانيّة عام 1969 تعبيرا عن احتجاجهم، خصوصا وأنه نشط في صفوف الحزب الكثير من المعارضين أعضاء حركة “الشباب الدروز الأحرار” كان أبرزهم المؤسس الشاعر سميح القاسم والكاتب محمّد نفاع والشاعر نايف سليم.

أوائل ال-1972 عاد وتفاعل مع الركب الشيخ فرهود قاسم فرهود ببيان عام دعا فيه إلى تنظيم الصفوف وانطلقت على أثر ذلك “لجنة المبادرة الدرزيّة” برئاسته وانتخاب المرحوم عاصم الخطيب سكرتيرا لها وعينيّا يوم 10\03\1972، حين بلغ عدد الشباب المسجونين رفضا للخدمة في شهر شباط من هذه السنة ال-73 شابا وهذا رقم ضخم بكل المعايير بينهم كاتب هذه السطور والشاعر سليمان دغش ونجل الشيخ فرهود فرهود جمال، وتمثّل قلق السلطة بأن أرسلت حينها المرحوم الشيخ جبر معدّي وقائد وحدة الأقليّات المقدّم عاموس جلبوّع لمقابلة الرافضين في سجن عتليت العسكريّ فسمعا ما لا يرضيهما وخرجا مثلما دخلا، وحضر لاحقا المقدّم جلبوّع محاكم البعض (الكاتب مثلا) شاهدا مطالبا بتشديد العقوبات ردعا للرافضين.

ومرّة أخرى وإذا كان المعيار الردّ القمعيّ للسلطة وأزلامِها، فمورست ضد الفاعلين والنشيطين كل أشكال القمع، وعلى الرافضين فُرضت أحكام قاسية تعدّت السنة للحكم الواحد بعد أن كان المتبع أشهرا متلاحقة، وأكثر من عانى منها بيننا نجل الشيخ فرهود، جمال انتقاما من الشيخ ومحاولة لكسره. دامت هذه الفترة القمعيّة عشر سنوات نما خلالها جيل آخر هو جيلنا بعد تخلّصنا كلٌ بطريقته من السجون والخدمة الإجباريّة، وبدأ هذا الجيل يمسك بزمام الأمور في صفوف المعارضة مع المبادرين الأوائل.

حتى العام 1980 ردّت المؤسسة إضافة إلى الأساليب القمعيّة بإطلاق برامج وتشكيل لجان مناهضة للمدّ الوطني المتناميّ أخطرِها لجان من أعوانها لفصل مناهج التدريس التعليميّة عن المناهج العربيّة لتنشئة جيل مُدجّن للمؤسسة معدم الانتماء الوطني والقوميّ.

وما فتىء أن كانت مرّة أخرى الغلبة للتيار المماليء الموالي واستوعبت المؤسسة الهبّة خصوصا وكان قد سُجن سكرتير لجنة المبادرة على خلفيّة أمنيّة وما فتِىء أن استقال سكرتيرها التالي تحت الضغط، وتأزم النقاش بين المستقلّين من أعضائها وخاصّة رئيسها والحزبيين فدخلت لجنة المبادرة بأزمة انتهت إلى استقالة الشيخ فرهود فرهود من رئاستها عام 1981، وانتُخب مكانه الشيخ جمال معدّي، وقد عايشتُ هذه الأزمة عن قرب إذ حدث هذا عندما كنت مركزا متفرّغا لأعمالها وقد أنهيت تفرّغي لاحقا.

على خلفيّة هذه الهزّات بدأ عمل اللجنة بالتراجع أو المراوحة في المكان رغم الجهد الكبير الذي بذله من تبقى في عضويتها، وتفرّغ في هذه الفترة لتركيزها الناقد نور عامر.

وإذا أردنا أن نكون موضوعيين بعيدين عن المزاودة ونعطي الحُكمَ للحَكَم الأبديّ: النتائج. كانت الغلبة مدويّة في السنوات التي تلت للمؤسسة وأزلامِها ولا شكّ أن شكل العلاقة مع الحزب الشيوعي شكّل عاملا مهمّا في هذا الوضع مثلما شكّل سابقا العامل الأساس في استقالة الشيخ فرهود فرهود، وكلّنا نتحمّل المسؤوليّة وبالأساس الحزبيين الشيوعيين منّا حينها.

جاء ولا شكّ دخول محمد نفاع الكنيست أواخر العقد مثيرا للآمال وكان يمكن أن يشكّل رافعة لعمل اللجنة إلا أن استبعاده لاحقا في العام 1992 من لائحة الكنيست للجبهة الديموقراطيّة وما رافق هذا الاستبعاد من مسوغات وتبعات كان نقطة فارقة عمّقت الأزمة.

ومرّة أخرى وحيث أن القمع السلطويّ هو المعيار بتناسبه الطرديّ مع الفاعليّة الميدانيّة، فغياب تأثير الفاعليّة الميدانيّة للجنة على الساحة العربيّة الدرزيّة في هذه الفترة هدّأ من إجراءات السلطة ولم نعد نسمع لا عن إقامات جبريّة ولا أي شكل من أشكال القمع إلا القليل وكان ضحيّته بالأساس الشباب الرافضين وليس النشيطين، وغلبت على العمل في هذه الفترة المؤتمرات والاجتماعات والبيانات ولكن ما دام هذا لا يفعل فعله القويّ على الساحة العربيّة الدرزيّة ميدانيّا فالمؤسسة وأزلامها بهداة بال.

هذا لا يعني أن في هذه الفترة وقفت أشكال رفض الخدمة المختلفة فالمئات من الشباب قاوموا التجنيد ولدوافع مختلفة دافعين أثمانا ليست قليلة سجنا وملاحقة ناجحين في انتزاع تحررهم، ومتحملين شتى أساليب التضييق التي كانت تواجههم في التفتيش عن مستقبلهم ولقمة عيشهم.

المحطّة الثالثة جاءت وقد تشّكل جنينُها في العقد الأخير من الألفيّة السابقة فالعشرات من نشيطي “لجنة المبادرة الدرزيّة” كانوا قد التزموا بيوتهم أو استقالوا من صفوفها وبالذات من غير الشيوعيين، ومن ثمّ انقسمت اللجنة بخروج رئيسها الشيخ جمال معدي ومعه غالبيّة المستقلين مشكلين “حركة المبادرة العربيّة الدرزيّة” أواخر العقد لسبب ظاهر هو احتجاج على تعامل الجبهة وبالذات الحزب الشيوعي مع اللجنة، وانتخب لاحقا جهاد سعد سكرتيرا للجنة ما زال حتى اليوم في منصبه.

جاءت هبّة القدس والأقصى في أيلول 2000 والتي راح ضحيتها 13 شهيدا من أبناء شعبنا بعضهم رُمي برصاص مجندين دروز كما بيّنت التحقيقات، لتظهر مدى الغربة العميقة بين الغالبيّة من الدروز وأبناء شعبهم ولتضعنا أمام حقيقة مرّة أمرّ من الصبر كان علينا أن نقف مع أنفسنا نحن الوطنيون الدروز لنسأل: أين فشلنا؟

جرت أواخر الألفين بين الوطنيين العرب الدروز محاولة ل-“لملة” الصفوف كرد أول على السؤال، “أين فشلنا؟”، بادر إليها الموقع أدناه بالتعاون مع الشيخ جمال معدّي رئيس “حركة المبادرة المستقلّة”، إلا أن “اللملمة” فشلت وعينيّا بسبب موقف “لجنة المبادرة” التي باتت مقتصرة على الشيوعيين وموقفها كان وما زال أن “اللملمة” مقبولة فقط تحت جناحها وحسب برنامجها.

فانطلق “ميثاق المعروفيين الأحرار” من الوطنيين القوميين مدعوما من التجمع الوطني الديموقراطي، وبدأ العمل بتكتيك، واستراتيجيّة مختلفة في صلبها الحفاظ على وترسيخ الانتماء الوطني القومي عبر محاربة معوقاته المؤسساتيّة كالتجنيد والتجهيل وعبر التواصل داخليا ووطنيا وعربيّا وعبر بناء مؤسسات كجمعيّة الجذور الشبابيّة ولجنة التواصل وفي صلبها رجال الدين لكسر جدار العزلة السلطوي بينهم وبين القوى الوطنيّة، وانطلق مشروع التواصل بقوة فلسطينيّا داخليا وفلسطينيّا عامّا ولبنانيّا وسوريّا.

أسّس لهذا العمل مشروعُ التواصل الذي انطلق في عمّان آب 2001 بمؤتمر “التواصل القوميّ” بالتعاون مع الحزب التقدميّ الاشتراكي اللبناني، ومن ثمّ التواصل الوطني الإنساني مع العمق العربيّ وبالذات سوريّة عبر زيارات التواصل ووفود التواصل بدعم التجمّع الوطني الديموقراطيّ.

خلال هذه الفترة جرت محاولات حثيثة لإيجاد صيغة وحدويّة بين الأطر المختلفة “لجنة المبادرة” و-“حركة المبادرة” و-“الميثاق” على يد قائد الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني وليد جنبلاط كنتيجة لمؤتمر التواصل وبمساندة الشاعر سميح القاسم وحتى طيّب الذكر الشاعر محمود درويش وفعاليّات أردنيّة، فعقدت سلسلة من اللقاءات في عمّان تبعها لقاء وحدويّ في بيت الشاعر سميح القاسم لكن المحاولة بالمحصّلة فشلت.

شهد هذا العقد، الأول من الألفيّة الثالثة عمليّة مخاض على الساحة العربيّة الدرزيّة أنتجت حالات متناقضة كل التناقض. انطلاقة وطنيّة نضاليّة غير مسبوقة من ناحية ومن الأخرى ردّة طائفيّة كذلك غير مسبوقة. الأولى تمثلّت وطنيّا في إرساء التوجه الوطني ومشروع التواصل وحياتيّا في مواجهة السلطة وسياستها العنصريّة في الكرمل والبقيعة وبيت جن. وتمثّلت الثانيّة في اعتداءات طائفيّة غير مبررة وبالذات على الأخوة المسيحيين في البقيعة والمغار وعيلبون وشفاعمرو. وانتخابيّا تمثّلت الأولى بتعزيز قوة الأحزاب العربيّة وبالذات التجمّع والامتناع عن المشاركة في العمليّة الانتخابيّة والتي تعدّت في غالبيّة البلدات الكبيرة ال-%50 تعبيرا عن نزع ثقة من الأحزاب السلطويّة التقليديّة، والثانيّة ازدياد قوة حزب ليبرمان “يسرائيل بيتينو” بالذات، رغم شعاراته الترانسفيريّة ضد العرب.

من المهم هنا الإشارة إلى أنّ تصويت غالبيّة الدروز لهذه الأحزاب مردُّه، أن هذه الأحزاب “العمل” و-“التكتل” وأخيرا “إسرائيل بيتنا- ليبرمان” وبالتنسيق مع المخابرات وضعت على لوائحها الانتخابيّة مرشحين دروز في أماكن متقدّمة مضمونة لجذب الأصوات الدرزيّة بإبعادهم عن الأحزاب العربيّة إمعانا في وترسيخا لسياسة الفصل، فالدروز لو توحدوا جميعا ليس باستطاعتهم عبور نسبة الحسم الانتخابيّة.

ولكن الأهم في نتائج هذا المخاض كانت المواقف التي كشفت عنها نتائج الأبحاث والدراسات العلميّة التي صدرت في نهاية العقد تلخيصا لهذا العقد الصاخب. الأولى كانت الدراسة التي طرحت في “مؤتمر هرتسليا للشؤون الاستراتيجيّة” في دورته التاسعة شباط 2008 حول “معيار الشعور بالوطنيّة الإسرائيليّة لدى شرائح المواطنين المختلفة”. جاءت النتائج بين العرب الدروز مفاجئة للمؤسسة وللدروز أنفسهم، إذ أفادت أن معيار الشعور بالوطنيّة الإسرائيليّة لدى الدروز تدنى في العقد الأخير من 4 نقاط من أصل 6 نقاط في بداية العقد إلى 1.6 نقطة من أصل 6 نقاط في فترة الدراسة، وأن نسبة “المتهربين” في لغة الدراسة، من الخدمة الإجباريّة تعدت لأول مرّة بين الشباب الدروز ال-%50، وخلصت الدراسة إلى استنتاج مفاده: “إننا أمام خطر خسارة هذه المجموعة وعلينا العمل على تلافي هذا الخطر”.

لحقت هذه الدراسة دراسة أخرى صادرة عن قسم العلوم السياسيّة في جامعة حيفا بالمسئوليّة الأكادميّة للبروفيسور ماجد الحاج رئيس القسم والدكتور نهاد علي. عُرضت في أمسية ويوم دراسيين في الجامعة والمركز الجماهيري في البقيعة أوائل نيسان من نفس السنة ال-2008، وجاء فيها أن 63.7% من الدروز يرفضون ولا يؤيدون الخدمة الإجباريّة ونسبة متقاربة تفيد أنهم يعتبرون أنّ المركّبَ العربي مركّبٌ أساسي في هويتهم، وبقيّة نتائجها جاءت “مسرّة للصديق مغيضة للعدوّ”.

تدعي بعض القوى مزاوَدةً أن هذا الوضع جاء ثمرة عملها وجهدها هي وليس إلا، ولكن الواقعيّةَ تحتم أن نقول إن هذا الوضعَ لا شكّ ناتج بجزئه عن دور القوى الوطنيّة وبالذات التي عملت ميدانيّا. ولكن لا هذه ولا تلك هما اللتان أوصلتا لوحدهما إلى هذه النتائج وإنما العامل الأساس هو خيبة الأمل الكبيرة من المراهنة على خدمة المؤسسة وتأييد سياساتها تحقيقا للحقوق وطبقا لشعار “من يقدم واجباته يحصل على حقوقه” وإذا بهؤلاء وطائفتهم في أدنى السلّم “السُتسيوإيكونومي” الحياتي، ثقافيا واجتماعيّا واقتصاديّا.

ولكن من دون شكّ أن تبني الغالبيّة كما جاء في الدراسات، لموقف القوى الوطنيّة الرافض ورغم عدم ممارسة هذا الموقف ميدانيّا على يد كل المستطلَعين المتبنين هذا الموقف، هو أمر هام ويكتسب أهميّة كبرى إن ارتقت القوى الوطنيّة إلى مستوى التعامل معه وتحويله من تبني إلى ممارسة. بمعنى أنّ ال-63.7% المتبنين الموقف الرافض للتجنيد الإجباري ليس كلهم بالضرورة يمارسون هذا الموقف تنفيذيّا وميدانيّا وعلى القوى الوطنيّة التعالي والتعاون لجعله كذلك وهذا ما ليس حاصلا.  

بغض النظر عن هذا تظل هذه النتائج مقلقة للسلطة وهي فعلا راحت تكثف اتصالاتها بمواقع التحرّك. ولعلّ في تصريح الوزير جدعون عزرا نائب رئيس الشاباك الأسبق في اليوم الدراسيّ الذي عُقد في البقيعة على خلفيّة الصدامات الدامية مع الشرطة فيها أواخر ال-2008، أبلغ تعبير إذ قال: “في ال-1974 عندما كنّا نحقق مع نفّاع وناطور (سلمان ناطور) حسبنا أنّ هنالك نفّاع واحد، اليوم أرى أنّ كلهم نفّاع”، ولعل في هذا دليلا على القلق السلطوي الذي عُبّر عنه كذلك في خلاصات مؤتمر هرتسليا آنف الذكر.

هذه المحطّة الثالثة في المسيرة الوطنيّة العربيّة الدرزيّة وعطفا على ادعائنا أن ميزان القمع السلطوي يتناسب طرديّا مع نجاح اختراق القوى الوطنيّة مجموعة الهدف العرب الدروز في سياقنا، هذه المجموعة التي أرادتها السلطة “ملكا خاصّا” و”بقرة مقدسّة” و”قطيع مدجّن” (اصطلاحات واجه بها كاتب هذه السطور المحققين والمستشار القضائي ولجنة الكنيست في مراحل التحقيق معه واتهامه الجنائي على خلفيّة التواصل مع سوريّة)، هذا الاختراق يفسّر الملاحقة للميثاق والتواصل وقيادتهما وقرار تقديم الكاتب للمحاكمة على مشروع التواصل والقرار الأولي بتقديم 7 شيوخ من أصل 8 من رئاسة وفد التواصل أيلول 2007 إلى سوريّة،  أيضا للمحاكمة. 

ما دام عمل القوى الوطنيّة شعاراتيّا احتجاجيّا ويقتصر على البيانات والمؤتمرات والزيارات التضامنيّة و”السُباب على الحكومة” والمزاودة في طرح الشعارات فهذا “عسل” على قلب السلطة رغم بعض المرارة فيه، ولكن عندما يصير العمل الوطنيّ ميدانيّا خارقا الصفوف فهذا “بصل” حارق في أعينها فتستشرس ويزيد قمعُها وضد الميدانيين وليس الشعاراتيين حتى لو بلغت شعاراتهم الخطابيّة حدّ تكنية دولة إسرائيل ب- “الكيان الصهيوني” كتعبير عن عدم اعتراف بها دولة وغيرها من “التكنيات” المُعاقب عليها قانونا عادة.

دور القوى الوطنيّة العربيّة في المسيرة:

وهنا يُسأل السؤال: ما المعنى الكامن وفي عزّ انطلاقة الفرس أن يفقّس في الطريق تنظيمات من أناس لا خلفيّة نضاليّة لهم ومن منشقّين تصير مهمتهم دقّ الأوتاد في طريق الانطلاق ومرفوع عليها شعارات “نضاليّة” رنّانة، ويروّجون من حيث يدرون أو لا يدرون لنشاطات القوى الموالية للمؤسسة تحت شعارات محاربة بعض نشاطها التي أكل الدهر عليها وشرب وصارت مسخرة القريب والبعيد كشواء اللحم في يوم الجندي الدرزيّ مثلا!

ولكن المقلق أن هذا “الفتات” لا يلبث أن يُحتضن من قوى وطنيّة فعلا ك- “لجنة المبادرة الدرزيّة” ومن قوى وطنيّة عربيّة حزبيّة وحركيّة، وتؤسس هيئات وتحالفات يلتقي فيها الشيوعي والقومي والإسلامي و”المُفقّس” والمنشق لا تلبث أن يصير شغلُها افتعال معارك بالهجومَ على الميثاق وقيادتِه ولجنةِ التواصل وقيادتِها الأصليّة (راجع للمثال بيانها المشترك المنشور في الصحافة من يوم 10\4\12)، وتماما وتزامنا مع الخطوات السلطويّة القمعيّة ضد الميثاق والتواصل ومع مهرجانات الدعم الشعبيّ للقادة الملاحقين؟!

هذا التساؤل يقودنا مباشرة إلى دور القوى الوطنيّة العربيّة العامة في المسيرة الوطنيّة العربيّة الدرزيّة. الوطنيّون العرب الدروز جزء من الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة في الداخل وما بعض خصوصيتهم إلا بسبب السياسة الخاصة للسلطة تجاه العرب الدروز ووجهِها القبيح التجنيد العسكري الإجباري. فالشيوعيون منهم يشكلون لجنة المبادرة الدرزيّة والقوميّون منهم يشكلون ميثاق الأحرار العرب الدروز (المعروفيّون الأحرار). وبطبيعة الحال لجنة المبادرة الدرزيّة جزء من الجبهة الديموقراطيّة والمعروفيّون حتى فترة قصيرة خلت كانوا بغالبيتهم جزءا من التجمع الوطنيّ. فهل عوملوا كذلك أم أنّ انتماءهم المذهبي ووضعَ الطائفة التي هم أبناؤها بحكم الولادة لاحقهم كالظل كذلك في الأطر الوطنيّة؟!

تجذّر عندنا عرب ال-48 تقليد اعترفنا بذلك أم لم نعترف، أنّ عضوية الكنيست صارت المرتبة الأولى والرُّتبة الأعلى للقيادة ودأبت الأحزاب أن تختار لها من تعتقد إنهم الأوائل في صفوفها قدرة، على الأقل هذا كان حال الحزب الشيوعي التي خلت قائمته حتّى أوائل الثمانينيّات من مرشح سنّي مثلا ولم يمنع هذا السنّة من إعطائه غالبيّة أصواته، ولكن في أواخر الثمانينيات أوائل التسعينيات عوّمت بعض القيادات عاملا آخر للترشيح وهو الانتماء الطائفي.

في انتخابات 1992 أسقطت الجبهة كما قيل محمد نفاع من على لائحتها الانتخابيّة وليس لأنها جاءت بأفضل منه كفاءة وإنما المختلف عنه انتماء طائفيّا تحت شعار الأخذ بالحسبان ما سميّ حينها “تركيبة شعبنا الطائفيّة” وتغليب “منابع الأصوات” والدروز ليسوا منبعا دفّاقا للأصوات عددا وعدّة. ومنذ ذلك الوقت صار تشكيل القائمة من هذا الباب وباءت بالفشل محاولات محمد نفّاع اللاحقة ورئيس لجنة المبادرة حينها الشيخ جمال معدّي الترشح للكنيست ضمن قائمة الجبهة رغم حقهما كوطنيين عربيين وأصحاب قدرة أولا ورغم ادعاءاتهما أن في ذلك تعزيزا للتوجه الوطني بين العرب الدروز إن أردنا فعلا أن نصحّح خطأ تاريخيّا لا نستطيع أن ننفض أيادينا براءة من مسؤوليّة عنه ولو جزئيّة ولكن هامّة، مسؤوليّة تخلينا عن العرب الدروز وتركنا إيّاهم لقمة سائغة تلوكها المؤسسة!

عند انطلاق التجمع الوطني الديموقراطي بشكل رئاسة قائمته البرلمانيّة استبشر الناس خيرا خصوصا وأن رئاسة قائمته (عزمي بشارة) غير الآخذة بالحسبان منابع الأصوات لم تمنع نجاحه ممّا أثبت أن شعبنا أكثر تقدّما في توجهه في هذا السياق من قيادته. ولكن هذا التوجه لدى الحزب لم يطُل وما أن دخل المُوقّع أدناه الكنيست خلفا للدكتور عزمي بشارة ولاحت الانتخابات في الأفق حتى بدأ تحرك محموم على يد غالبيّة القيادة لاستبداله وتماما مثلما حدث سابقا في الجبهة مع محمد نفاع وتحت نفس الأسباب اللهم إلا أن شعار تغليب “منابع الأصوات” استبدل بشعار تغليب “ضرورة أن تعكس القائمة وجه شعبنا” وهذا يتأتى بترشيح “مسيحي” في مكان متقدّم في القائمة وبالذات مكان سعيد نفاع “الدرزيّ”.

الفارق هو أن هذا التوجه لدى غالبيّة القيادات الذي قبِلتْه في ال-1992 كوادرُ الجبهة، رفضتْه عام 2008 كوادرُ التجمّع ومنحت ثقتها للموقع أدناه بأكثريّة الثلثين وانطلاقا من عمله وتاريخه وقدرته وانتمائه الوطنيّ القوميّ وليس شكل ولادته المذهبيّ غير الإراديّ، ومنح شعبُنا بكل طوائفه القائمة نجاحا غير مسبوق رغم “غياب تركيبة وجه شعبنا!” عنها.

ولعلّ في “الدراسات” اللاحقة الموصى عليها وبها والتي أطلقها أحد “مفكري وباحثي” التجمع عن عدد الأصوات التي حصل عليها التجمع في القرى الدرزيّة يشكل البيّنة على الخلفيّة الحقيقيّة لمحاولة استبعاد الموقّع أدناه من القائمة الانتخابيّة، لدرجة أن هذا “المفكّر الباحث” نبغ(!)  في فرز أصوات الدروز من بين كل الأصوات في القرى المختلطة طائفيا وهي الغالبيّة وبالصوت (2556 صوتا !)، في محاولة بائسة لإثبات أن “سعيد” لم يجلب أصواتا بين الدروز وكأنه مرشح عن الدروز وليس مرشحا كابن للحركة الوطنيّة، هذا عدا عن تناقض أرقامه والمعطيات الرسميّة والتي قدّرت العدد بقرابة ضعف “نبوغه”!

لا يوجد شعور وإحساس أصعب من أن يحس ويشعر الوطنيّ العربيّ الدرزيّ في بيته الوطنيّ الذي دفع الغالي والرخيص في إعلاء بنيانه أنه أقل من غيره وفقط بسبب انتمائه “الولاديّ” المذهبيّ وحتى لو كان هو على المستوى الشخصيّ علمانيّا حتّى النخاع.

هذه الصعوبة تزداد على ضوء صدامه الدائم مع “المُتمسّكين” مذهبيّا من أبناء “مذهبه” الدروز خدمة للمؤسسة والذين عاملوه حتى فترة خلت كالخوارج خصوصا وأنه كان اختار أن ينام الليالي أمام بيوت القيادات الوطنيّة الكفرساويّة مثلا حماية من هجوم ليلي على يد عملاء السلطة أبناء مذهبه إثر النزاع الطائفي الذي حدث بين جولس وكفرياسيف حينها، ولأنه قضى حياته في حالة تصادم معهم وهم الذين اختاروا المؤسسة حليفة لا بل وسيّدة وهو رأى بشعبه وأمته الإله.

المثلان أعلاه (محمد نفّاع في الجبهة وسعيد نفّاع في التجمّع) حوّلا هذا الشعور وهذا الإحساس إلى واقع. ويستطيع المُنكِرون أو المتجمّلون أن يأتوا بكل تبريرات الدنيا لنفي هذا الواقع فلن تغيّر هذه التبريرات من هذا الواقع المأساوي الذي وصلنا إليه، وهو لشديد الأسف ليس رهنا علينا وإنما على غالبيّة أبناء أمتنا فحتّى حسن نصر الله لا ينجو من ذلك عند مثل هذا البعض ولكنه بعض كبير.

هذا على مستوى الأحزاب الانتخابيّة، أمّا على مستوى الهيئات الوطنيّة فمنذ ثلاث سنوات تجري محاولات لتمثيل القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة الأساسيّة والعريقة ولاحقا المستوفية الشروط الدستوريّة بعد إعادة البناء في مؤسسات لجنة المتابعة، باءت حتى الآن بالفشل رغم الضريبة الكلاميّة الإيجابيّة من كل المركبّات ولكن التردّد يصيب بعضها وليس من منطلقات موضوعيّة، وما زال هذا الطرح يتيما.

ودخلت على الخط قوى إسلاميّة وبالذات الحركة الإسلاميّة الشماليّة وإذا بها تدخل من الباب الضيّق ورغم أن ذلك لا نعزوه لسوء نيّة منها وإنما اندفاعا مخلصا قبل أن تدرس الساحة حقّ دراسة. كذلك دخلت على نفس هذا الخط وبنفس الحال قوى لبنانيّة وجولانيّة داعمة أفراداً منشقّين عن الأطر لدوافع انتهازيّة أو جددا على الساحة لا بيئة ولا تاريخ وطنيّان لهم ولم يُعرف حتى الآن خيرهم من شرّهم، شكّلوا حركات لا تتعدى عضويتُها أصابعَ اليدين في أقوى الإيمان، وهذه حالة لا نعرف كيف يمكن أن تتطوّر ولكن البدايات لا تبشّر ولن تكون أكثر من حالة إعلاميّة.

لكنّ الأمرَ الخطير هو ذلك الدور الذي تقوم به بعض قيادات حزب التجمع الوطنيّ اليوم، والأغرب أنه يحظى على دعم غير متوقّع من غالبيّة من سكرتاريا لجنة المبادرة الدرزيّة ذات التوجهات الشيوعيّة، فيلتقون ويتحالفون معا في دعم انشقاقيين ولشقّ القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة القوميّة: “الميثاق” و-“لجنة التواصل”، رغم الحرب الضروس الملتهبة بينهما على بقيّة الساحات العربيّة العامة، مستغلين خلافات، قيادات في التجمع سببها، بين الميثاق وبعض أعضائه والتواصل وبعض أعضائها لاستيعاب هؤلاء وإعطائهم الغطاء ودفعهم للتحريض على الميثاق ورئيسه و- “الأجر” وعود بترئيسهم الوفود إلى سوريّة على يد الأول الفاعل التجمّع طمعا في تبييض الوجه وبعض الأصوات الانتخابيّة بعد إقصائه كاتب هذه السطور، واصطيادا في المياه العكرة على يد الثاني المساند خصم الميثاق، لجنة المبادرة. وللحقيقة والتاريخ وحسب المعلومات المتوفرة نقول إن الجبهة والحزبَ الشيوعي بيتَ لجنة المبادرة وكثراً من أعضاء لجنة المبادرة الدرزيّة براء من هذا.

لا بل أكثر من ذلك أخذ هذا التبنّي شكلا من أشكال إصدار بيانات متلاحقة مشتركة تهجميّة تحريضيّة على الميثاق وقادته مثلما حدث مؤخرا يوم 10\4\12 وأحيانا بمشاركة موقعين لا بيئة ولا خلفيّة وطنيّة لهم وجدد على الساحة لم يُعرف للبعض حتى الآن “خيرُهم من شرّهم” كما قيل، وبمشاركة موقعين آخرين سقطوا في التحقيقات البوليسيّة الشباكيّة ضد الميثاق والتواصل وقيادتهما. وكل ذلك وبما تبطّن ومهما تبطّن، مناكفة رخيصة لتصفية حسابات حزبيّة وشخصيّة ضدّ من يُعتقد ضدّهم أنهم باتوا يشكّلون خطراً “قياديّا” وميدانيّا.

ولكن الأخطر والأغرب والأدهى أن كل ذلك يجيء تزامنا مع هجوم المؤسسة الإسرائيليّة على الميثاق والتواصل وقيادتهما بالملاحقات القضائيّة، ومع مهرجانات الآلاف الداعمة للقيادات الوطنيّة الملاحقة من قبل المؤسسة.

هذه الأطر أطلقت قبل مدّة ما يسمّى “الهيئة العربيّة لدعم رافضي الخدمة الإجباريّة” تزامنا مع إطلاق رديف لبنانيّ لها وضمّت أطرا وشخصيّات وطنيّة لها مكانتها ولم نُدع لتشكيلها رغم ما روّج، ولكن حتّى لو دُعينا لم نكن لنشارك، وما لبثت هذه أن دعت إلى صفوفها المنشقين عن الميثاق ولجنة التواصل. عدم مشاركتنا لا تعني أننا ضدها وإنما قناعة منّا بعدم جدواها خصوصا وأنها جاءت لتكون بديلا لمبادرتنا بتمثيل القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة النوعيّة في مؤسسات لجنة المتابعة العليا ولتكون التفافا على المبادرة من وراء ظهر بعض أعضائها من الشخصيات والحركات الوطنيّة المنطلقين من حسن نوايا، ونجحت مرحليا في تأخير البتّ في الموضوع.

وقد استُعملت صور لقاءات هذه الهيئة الظاهرة فيها هذه الشخصيّات الوطنيّة الاعتباريّة كالمطران عطا الله حنّا والشيخ رائد صلاح في البيانات التحريضيّة الصادرة عمّا يسمى “الأطر الوطنيّة العربيّة الدرزيّة” ضد الميثاق وقيادته كما في البيان آنف الذكر من أواسط نيسان، لدرجة أن عبّر أحد الشخصيّات الدينيّة المرموقة من أعضائها عن دناءة (هكذا بالحرف الواحد) هذا الاستعمال.

ما المطلوب؟

التعدديّة هي حالة حضاريّة وأثبتت التجارب التاريخيّة أنها من أهم عوامل العصف الدماغيّ تفتيشا عن أفضل السبل لتحقيق الهدف الأسمى المشترك لأية مجموعة كانت، عائلة أو بلد أو حركة أو حزب أو دولة أو منظومة. والتعدديّة ليست تعدديّة أُطر هي تعددية فكر، فإن لم يكن للإطار فكر يهتدي به يختلف عن الآخر يراه سبيلا لتحقيق الهدف المشترك، والاختلاف ليس بالضرورة اختلاف الآليات، إن لم تكن للإطار خلفيّة فكريّة مختلفة يهتدي بها وكيانه لا يتعدّى “الشخصنة” فلا مكان له، وإن وُجد لن يتعدّى كونه فقاعة ستتلاشى سريعا.

الأطر الفكريّة وإن حلّت بها الأزمات وتراجعت تستطيع أن تتخطاها عاجلا أم آجلا وهنا ما من شك أن للفرد دورا هاما في دخول الأزمة والخروج منها. “لجنة المبادرة الدرزيّة” هي إطار فكريّ شيوعيّ ولذلك استمرّت رغم كل الأزمات التي عصفت بها وبالحركة الأم الكبرى، وكانت وحيدة على الساحة لفترة طويلة بسبب السياسة المؤسساتيّة الصهيونيّة التي منعت تأطيرا على أسس قوميّة فوجد القوميّون مكانا لهم بين ظهراني اللجنة حتى انطلق الميثاق.

انطلق ميثاق المعروفيين الأحرار (الأحرار العرب الدروز) أواخر ال-2000 مستنيرا بالفكر القوميّ، من أعضاء سابقين في اللجنة شيوعيين كانوا وبدّلوا فكرهم إلى القوميّ أو قوميين من الأساس وجدوا لهم مكانا في اللجنة رغم مرجعيتها الفكريّة. قوّة الميثاق واستمراره وإنجازاته الميدانيّة ومستقبله لا شكّ يعود الفضل فيها إلى مرجعيته الفكريّة القوميّة رغم ما اعترى ويعتري هذا الفكر من أزمات على مساحة العالم العربيّ.

هذان الإطاران، لجنة المبادرة وميثاق الأحرار، يستطيعان ومع الحفاظ على صبغتهما الفكريّة أن يوحدا جهدهما العمليّ في سبيل تحقيق الهدف المشترك، وخصوصا أن مجموعة الهدف، العرب الدروز، وبعد سنوات طويلة تبنّت الموقف الوطني مثلما أفادت الأبحاث أعلاه. المهمة التاريخيّة للقوى الوطنيّة ومع اختلاف فكرها هي أن تستثمر هذا الوضع الجديد لتحويل تبنّي الموقف إلى ممارسة موقف وهذا يتطلّب وحدة مجهود ولكن الأمر غير حاصل كما بُيّن أعلاه ولأسباب أبعد ما تكون عن الموضوعيّة المطلوبة في التعامل.

أمّا على مستوى الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة المحليّة بأحزابها وحركاتها ومنظماتها وانطلاقا من كون الأطر الفكريّة الوطنيّة العربيّة الدرزيّة جزءا منها، وكما قلنا ما خصوصيتها إلا بسبب خصوصية قضيّة الفصل المؤسساتيّة بأوجهها المختلفة، فالمطلوب دعم هذه الأطر ودون التدخل السافر في عملها وكم بالحريّ في دقّ الأسافين فيما بينها أو مناكفتها بتبنيّ منشقين عنها ومتسلقين على العمل الوطني ودون خلفيّة فكريّة، طمعا في كسب انتخابيّ برلمانيّ أو كسب نقاط “وطنيّة” لا تشبع من جوع ولا تروي من ظمأ.

المطلوب هو دعم يأتي بالاعتراف بالأطر الوطنيّة العربيّة الدرزيّة أولا كجزء تنظيميّ ومن ثمّ عمليّ من قِبل المظلّة الموحِدة لكل القوى على الساحة العربيّة، لجنة المتابعة العليا. فلا يُعقل أن تبقى مؤسسات لجنة المتابعة خلوّا من تمثيل مستقل لهذه القوى حتى لو كان بعضها جزء من حركات سياسيّة قطريّة ممثلة.

الغالبيّة من قيادة لجنة المتابعة ترى بهذا الطرح حاجة ضروريّة ولا توجد عندها موانع من تنفيذه، والقضيّة العالقة هي موقف لجنة المبادرة الدرزيّة وحليفها على هذه الساحة، التجمّع الوطنيّ. ولكن حتى هذا الموقف يمكن تخطيه بأن يمثل هذا التحالف مجتمعا في هيئات لجنة المتابعة من يريدون من مركبات “تحالف الأطر الوطنيّة العربيّة الدرزيّة”، إلا إذا كان الموقف عندهم “شمشونيّا- فيّ وفي عداك يا رب” وعندها سيكون الخاسر العمل الوطنيّ الفلسطينيّ العام وليس فقط العمل الوطنيّ العربيّ الدرزيّ.

خلاصة:

المؤسسة الإسرائيليّة عدونا جميعا كأقليّة قوميّة لا تنوي لنا الخير هذا مفروغ منه ماضيا وحاضرا ومستقبلا. لكن هل نحن كأبناء للحركة الوطنيّة نريد الخير لمركباتها ومنها الحركة الوطنيّة العربيّة الدرزية، وأولا بالتعامل مع قياداتها كجزء من القيادات العربيّة لأنها كذلك، وحسب كفاءاتها وليس حسب شكل ومكان ولادتها غير الإراديّ وكم من الأصوات يمنح مكان ولادتها الأحزاب؟!

وهل القوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة الفكريّة نفسها أهل لمثل هذه القيادة إذا استمرّت بمناكفة بعضها وعند البعض انطلاقا من وتبعا لقانون القصور الذاتي الفيزيائي ومَثَلُه العَجل الذي ينطلق “داحلا” بقوة دفع ثم يصير مدفوعا بقوة الاستمرار متهاويا ضاجّا ليس إلا، وفي سياقنا بالبيانات والخطابات الرنانة وفي الميادين البعيدة؟!

الساحة العربيّة الدرزيّة تشهد في العقد الأخير نُضجا كالمدّ ناصيته أمواج تنطلق في الاتجاه الصحيح ألا وهو شاطيء الأمان عودةً إلى الأصول والجذور، متنا وعشنا نحن كلّ الوطنيين المخلصين بغض النظر عن الاختلافات الثانويّة، حتى رأينا هذه الأمواج وقد ارتفعت. والقوى الوطنيّة عامة ومنها العربيّة الدرزيّة خاصّة على اختلافاتها الفكريّة وليس القوى الانتهازيّة الذاتيّة أو الفئويّة أو الحزبيّة، أمام سباق كسباق راكبي الأمواج إمّا أن تركب الأمواج وفي الوقت المناسب ومتحررة من العوالق من المتسلقين والمنشقين وتنطلق نحو برّ الأمان أو أن تركبَها الأمواجُ إن أثقلت حملها عوالقُ متسلقة منشقّة فترميها في القعر جيفاً لكائناته: السلطة ومؤسساتها وأزلامها.

أخشى أن ما نشهده اليوم يؤشر أن بعضَنا نسوا السباحة أو حتّى لا يعرفون السباحة أصلا فكم بالحري معرفة ركوب الأمواج وخصوصا وهم يثقلون حملهم بعوالق، ولكن ورغم ذلك سيظلّ هنالك راكبو أمواج ومن كل المشارب الوطنيّة الفكريّة متحررين من العوالق بشرا كانت أم عُقدا، وسيصلون وزلاجاتهم مزدحمة ملأى بالركاب المنقَذين من المركب المتهاوي منطلقة إلى الشواطيء واثقة، وسيبقى لحيوانات البحر ما تأكله.

النائب سعيد نفاع

أوائل أيار 2010

 

 

 

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*