(قراءة في كتاب)
قيّض لي أن أقرا مؤخرا كتاب؛ “العرب الدروز في إسرائيل- مقاربات وقراءات نظريّة وسياسيّة ناقدة”. الكتاب صادر عن مدى الكرمل – المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة عام 2018، تحرير الدكتور يُسري خيزران.
شمل الكتاب، وكما هو مدوّن في عنوانه، مقاربات وقراءات نظريّة وسياسيّة ناقدة بأقلام (مع حفظ الألقاب)؛ أمل جمّال، وغادة السمّان، ومحمد خلايلة، ويسري خيزران، وعبد الرحمن الزعبي، وابتسام بركات.
وممّا جاء في مقدّمة الكتاب بقلم المحرر د. يسري خيزران:
“يكتسب هذا الكتاب أهميّة خاصّة في ظل الظروف العصيبة التي تعصف بمحيطنا العربيّ وحالة التوتّر التي تهيمن على علاقة الدولة في المجتمع العربي الفلسطينيّ في إسرائيل، وذلك للمرّة الأولى تبادر مؤسّسة بحثيّة أكاديميّة عربيّة في الداخل إلى طرق الموضوع الذي طالما ظلّ حكرا على المؤسّسات الأكاديميّة والسياسيّة الإسرائيليّة، وبقي أسيرا للعقليّة السائدة والرائجة في مؤسّسات إنتاج المعرفة وصياغة السياسات في إسرائيل حتّى سنوات طويلة.”
وإضافة يكتب؛
“تقدّم هذه الكوكبة من باحثينا في هذا الكتاب إسهامات مجدّدة تأتي في إطار تقديم قراءة أكاديميّة نقديّة بديلة لتلك التي أرسى مفاهيمها الاستشراق الإسرائيلي حول الحالة الدرزيّة… ولا سيّما إنه تمكّن إلى حدّ معيّن من خلق إفراز مؤدلج للبحث الأكاديمي عن الحالة الدرزيّة وفقا لمقاييسه وأهوائه.”
بعد القراءة وجدتُّني أتفق كليّة مع ما يقول الدكتور يسري خيزران أعلاه، لا بل أستطيع القول إن الطروحات بهرتني، وخصوصا قراءة بروفيسور أمل جمّال والتي حملت عنوان؛ “عقليّة البقاء والقطيعة الأخلاقيّة في سلوكيّات المجموعات الصغيرة”.
في خاتمة قراءته، يكتب جمّال:
“تجد الطائفة نفسَها في مأزق أخلاقيّ مزدوج؛ فهي غير قادرة على الحصول على مطالبها وحقوقها من جهة، وتجد نفسها في وضع من تأنيب الضمير من جهة أخرى، دون القدرة على الهروب إلا من خلال القطيعة الأخلاقيّة والتأكيد على العقليّة المنفعيّة باعتبارها المبدأ الأساسي والوحيد للتعاطي مع الواقع.”
ويضيف في خاتمة خاتمته إن الخروج من المأزق يمكن:
“إذا جرى بناء وضع ماديّ مختلف وبناء وعي جماعيّ بديل. هذه المهمّة تقع على عاتق المثقّفين الوطنيّين أنفسهم في صدام مع مجتمعهم (كما كان الحال مع العديد منهم على مرّ العقود الأخيرة) الذي بمؤازرة السلطة يقوم بتهميشهم أو سحب الشرعيّة عنهم.”
وهنا مربط الفرس، بروفيسور جمّال ود. خيزران والعديد مثلهما من المثقّفين الوطنيّين قادرون على حمل اللواء وخصوصا إنهم غير “موسومين” حركيّا ولا حزبيّا، فلا عائق يقف أمامهم لتجميع كلّ الشرائح الوطنيّة المثقّفة العاجز أفرادها حتّى اليوم عن تجميع أنفسهم نتيجة لاختلاف الانتماءات الحزبيّة والسياسيّة، والتي خلّفت رواسب سدّت الطريق إلى عمل جامع منسّق، وبالتالي ضربت هيبة هذه القوى في وجه المؤسّسة وحتّى الحلفاء الموضوعيّين من باقي العرب، وأمام وفي مواجهة المجتمع “المأزوم” كما تناوله بروفيسور جمّال، وفي هذا ما يحقّق الحلّ الذي طرحه.
كان على جمّال ألا يكتفي بالإشارة إلى الطريق، وإنّما أن يلقي بضوء يزيل عتمتها بآلية عمل هو وزملاؤه قادرون، إن أرادوا، على ذلك قولا وفعلا!
وإلى الادعاء حول عدم إلقاء الضوء على بعض زوايا معلوماتيّة وإبقائها مُعتمة في الكتاب!
المشارك عبد الرحمن الزعبي وفي قراءته الفريدة الهامّة، تحت عنوان؛ “القواسم المشتركة بين الطريقة الخلوتيّة والموحّدين الدروز في إسرائيل”، يتناول موضوعا قلّما ولجته أقلام الباحثين هو عنوان هذه القراءة، ومن خلال قراءته يدخل جوانب تتعلّق بصلب الانتماء المذهبيّ وبالأدبيّات المرجعيّة المذهبيّة المكتوبة للدروز (ص203). في هذا تختلط على الكاتب الأمور ويعتور ما كتب عدم الدقّة. كان على الدكتور يسري خيزران- المحرّر، وهو العارف، أن يشير بملاحظة “هامشيّة” لهذا الأمر تدقيقا كي يضيء “العتمة” حول ذلك ولم يفعل.
ولكن الأهم هو وعلى ضوء التوافق التّام في القراءات، من أن الدروز في إسرائيل تعرّضوا إلى عمليّة استعباد للصهيونيّة والدولة وليدتها وبكلّ ما لهذه الكلمة من أبعاد واحتياجات، دون أن يرعوي المستعبدون عن وسيلة مهما سفُلت مرتبتها أخلاقيّا إنسانيّا، الأهم هو؛ أن القراءات لم تراعِ الرواية الأخرى لأطروحات جاءت كجزء من “تأرخة- بندقة” دور الدروز في المسيرة الوطنيّة الفلسطينيّة، فاكتفت القراءات بالإشارة إلى الرواية “المُتأرخة”، وفي ثلاث محطّات أساسيّة؛ ثورة 1936م والنكبة 1947-1949م والبقاء ومساعدة آخرين على البقاء.
بعض الصياغات في القراءات جاءت وبتصرّف لفظيّ لا جوهريّ، وطبعا منقولة عن آخرين كليلى بارسونز مثلا وغيرها وأكثر ممّن لم يذكرهم كتّابنا كإيلان بابِه وحسنا فعلوا إذ أن “سمينَ” هذا مليء “غثّ”، جاءت: “إن الدروز كمجموع وأحيانا كغالبيّة حافظوا على حياد أو تعانوا مع المؤسّسة الصهيونيّة، وبالتالي استطاعوا أن يَبقوا ويُؤووا مهجّرين ويبقوهم.” (ص31 و37.مثلا)
حول المحطّات الثلاث هذه، هنالك قراءات أخرى تنفيها جملة وتفصيلا وبدلائل وثائقيّة مهمّة وغالبا قاطعة، تمّ تجاهلها سابقا جهلا أو تبييتا على يد من كان تناولها من المؤرّخين الذين ذكرهم كتّابنا كبارسونز أعلاه. كان الأولى بالكتاب في كِتابنا أن يجيئوا بها وعلى الأقل للمقارنة حينما تطرّقوا إلى هذه المحطّات وضعا للمعلومات الكاملة وليتركوا للقاريء الاستنتاج. منعا للالتباس فأنا لا أنسب بتاتا لكتّابنا نيّة مبيّتة وإنما أرى في المرور على هذه المحطّات دون الإلقاء بالإضاءة (الرواية الأخرى) عليها قصورا أبقى عتمة على هذه أو في هذه الزوايا خصوصا وإنهم طرقوها، وهذا لا يقلّل أبدا من أهميّة الكتاب وما جاء فيه، ولكن كان ذلك ضرورة من وجهة نظري إنصافا للضحيّة والتاريخ.
لا أستطيع هنا في مجرى قراءة أن أعرض ما أدّعي بالتفاصيل، ولكنّي كنت تناولت المحطّة الأولى؛ ثورة ال-36، والثانية الدور في النكبة ال-48، في كتابي؛ “العرب الدروز- والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتى ال-48″، وتماما من المنطلق أعلاه. المعنيّ يستطيع أن يجد هنالك الرّد الكافي والوافي من وجهة نظري، على كلّ ما أحاق دور العرب الدروز في المحطّتين. ولكن أكتفي هنا بالتساؤل: هل الحياد يُقاس بالكليّة أم بالنسبيّة عددا وعملا؟! هل كل بقيّة الشعب الفلسطينيّ عدديّا ونسبيّا ساهم في المحطّتين أكثر نسبيّا من جزئه؛ العرب الدروز؟!
الأدبيّات الصهيونيّة المتكشّفة بحكم قوانين التقادم، والعربيّة التي تمّ تجاهلها عن سبق إصرار وترصّد صهيونيّا وعربيّا، تجيب على التساؤل أعلاه وبالقطع بما ينفي الحياديّة المدّعاة حول العرب الدروز في ال-36 وال-48 وفي الصراع!
أمّا فيما يتعلّق بالبقاء، والإبقاء إذا صحّ التعبير، فالكتاب حين طرق هذه الحقيقة غابت عنه حقيقة تاريخيّة هامّة، تغيب عن بال الكثيرين، فيها ردّ إن لم يكن حاسما فعلى الأقل أساسيّا في قضيّة البقاء والإبقاء. حينما لفى آلاف المهجّرين إلى القرى العربيّة شمالي البلاد والدرزيّة منها إبّان أواخر ال-47 وخلال ال-48، كانت غالبيّة هذه القرى لم تُحتلّ بعدُ. ولكن الأهم إنّ كلّ هذه القرى كانت في الجزء المخصّص للدولة الفلسطينيّة حسب قرار التقسيم نوفمبر 1947م.
كلّ من ينظر إلى خارطة قرار التقسيم يرى وبوضوح، إن الجزء الذي كان مخصّصا للدولة اليهوديّة “نُظّف” من العرب اللهم بعض التجمّعات ولأسباب مختلفة لا مجال للدخول فيها هنا وإن كان أحدها التعاون، ويكفي النظر إلى قرى القدس ال-35 (من أصل ال-37) التي هجّرت في عمليّة “نحشون” والإبقاء على قريتين وما كان وراء إبقائهما!
القرى التي هُجّرت في مناطق الدولة العربيّة هي تلك التي انخرطت في القتال أو هُجّر بعض أهل أُخَر كانوا انخرطوا في القتال. الدولة الوليدة ما كانت تخيّلت أو افترضت أن تبقى في هذه المناطق وعلى الأقل دوليّا، فمنطقيّا وعلى ضوء هذا فما الدّاعي كان أن يخوض أبناؤها معارك يُقتلون فيها ولا طائل منها. وإلا كيف تفسّر بقاء عشرات القرى في المنطقة وتماما في الجزء الذي كان مخصّصا من الجليل للدولة العربيّة؟!
فالدروز بقوا كما بقي الآخرون وليس بسبب علاقة خاصّة سوّق لها كذبًا “أزلام” الدولة حديثة القيام وبإيعاز من أجهزتها، ولعلّ عودة إلى سنوات الثلاثين وخطّة الترانسفير ضدّهم لأوفى من ألف بيّنة.
الفضل للدروز هنا، وغيرهم من قرى الشمال، هو حُسن الإيواء وتقاسم لقمة العيش مع المُهجّرين وهذا بحدّ ذاته فضل كبير، ولكن قضيّة الإبقاء لم تكن بيدهم ولا بقدرتهم هذه حكمتها سياسات أخرى أكبر، وإحداها أو جانب منها ما ذكرته أعلاه حول خارطة التقسيم. صحيح وإنه وبشكل غير مباشر ربّما ساهم ذلك في وقفهم من “التدفّق” نحو لبنان ولكن بين هذا وبين إبقائهم من قبل الدولة الحديثة بسبب حماية الدروز فالبون شاسع.
وقبل الخاتمة، أعتقد إنّ الحيّز الذي أعطي في القراءات للقوى الوطنيّة العربيّة الدرزيّة ودورها كان ضيّقا جدّا، وكان من الأجدى تكملة للصورة إعطاء هذا الحيّز فضاء أوسع، ففي النهاية نحن لا نتحدّث عن قبيلة.
وخاتمة؛ أعتقد أن كتّابنا في موضوعنا والذين ألقوا ضوءً ساطعا على كثير من الزوايا ومن زوايا أخرى مختلفة، كان يجب ألّا يغفلوا إضاءة عتمة هذه الجوانب، ففيها خدمة للهدف الذي توخوه من كتابهم القيّم هذا، وأقصى ما أتمناه أن يلقى هذا الكتاب الاهتمام الذي يستحق من أبناء شعبنا بكلّ شرائحه، ففيه وفي مثله من الأدبيّات الحفاظ على سلامة البيت ولا شيء يُغني عن سلامته فيما يواجه أهله من تحدّيات مصيريّة، وقانون القوميّة لم يكن أولها ولن يكون آخرها.
سعيد نفّاع
أواخر نيسان 2019