أكبر وأكثر من تقديم كتاب عطر الإرادة – الأسير سائد سلامة.

أكبر وأكثر من تقديم

أن يُقيّض لك أن تكتب تقديما لإبداع وجد الطريق إلى الحريّة، وما زالت الحريّة أمنية بعيدة المنال للمُبدع، الأسير، ليس بالأمر التقليديّ ولا العاديّ. ولكنك تجد نفسك مفعما بكل الأحاسيس الجيّاشة والحيرة سيّدة عقلك وقلمك.

تعرّفت على المبدع سائد سلامة أسير حريّة في القسم الأمنيّ في سجن الجلبوع، بدءا كزميل سجن كغيره من عشرات النزلاء في القسم، وحين جاءني يسألني وبعض تردّد على محيّاه قائلا وببعض تصرّف: “استاذي أنا أخربش وإذا ممكن تراجع لي ما أكتب وتعطيني رأيك”.

وهكذا صار، وفعلا وجدت أمامي نصوصا أدبيّة راقية بحاجة لبعض تشذيب، وبعد أشهر قلتُ له: “إنّ ما تكتبه أبداع راقٍ ويستحق أن يرى النور”. مرّت الأيام وتحرّرت مخلّفا ورائي ليس فقط سائد وإنما عشرات من نصوصه التي كنت أتمتّع بقراءتها ومراجعتها، وكانت المفاجأة!

زارتني عائلته وفي جرابها النصوص موضوع كتابنا هذا، ولكن الأعزّ على قلبي كان طلبا من سائد أن أراجع وأقدّم الكتاب المنوي إطلاقه لفضاء الحريّة الذي ما زال بعيدا عن سائد، وها أنا أفعل وتتقاذفني أحاسيس لا أستطيع لها تعريفا.

ووجدّتني لا أجد تقديما أفضل من أن أختار بعضا من ومضات عقل وقلب وأنامل سائد المحرّرة من القيود خلف القضبان والأسلاك وظلمة الزنازين.

ففي نصّه اتصال هاتفيّ” يكتب مبدعُنا:

“لأول مرةٍ يجد نفسه أمام معادلة الزمن بصفة المُتعجل في أمره، دون أن يقوى على الحركة، ولأول مرةٍ يُعاين دقّات الساعات ويحسب تواترها بنبض قلبه الذي يخاله مُشارفاً على التوقف لكن رائد يعلم أنَّ لا وقت للرثاء، شغفهُ بالحياة حمله على أن يتحلّى بروح التفاؤل.”

وأمّا في الأرض مقابل البقاء” فيقول:

“لم يَعُد في نظر الكثيرين ذلك المناضل الفدائي الذي كان يقف على تخوم الوطن حاملاً قَبَسًا من الشمس ليصنع فجرًا آخر. فالمرحلة الجديدة ابتلعت في جوفها كل الذين خاضوا الوحل بنعالهم الممزّقة. واستمرأت رجالاً ذوي خصالٍ تتلاءم مع الأدوار المطلوبة.”

وفي القبعات التسع” يومض:

“لعل هذا بالضبط ما جعلني أبتكر مساراتي الذاتية الخاصة في خضم التقاطعات الموغلة في سلبيتها والتي يفرضها السجن كنمط حياة، في البداية كنت ساذجًا حقًّا، إذا اعتقدت بأن السجن كما يصفونه تجاوزًا، بالمدرسة أو الجامعة التي تخرج المناضلين، ولكنني فيما بعد، أدركته على حقيقته، وبأنني طالما أقبع فيه فسأظل أدركه وسأظل أعاود ملائمة ذاتي له من جديد، ولكن من وجهة نظري الشخصية. لذا قررت أن أواجهه بانتزاعه من داخلي، حتى وإن كنت أعيش فيه، فالقبعات التي ألبسوني إياها سوف لن تأسرني من ذاتي، وسأظل أنتزعها في كل يوم وفي كل حدث وفي كل موقف، وسأحولها الى شموع تنتثر على مسار السنين فتضيئه، إلى أن يحين موعد الإفراج.”

وفي اللقاء المنتظر” يكتب ذلك الطفل الفلسطينيّ:

“إِننا نخرج اليوم في هذه الرحلة، لنؤكد للجميع أَن شيئًا لن يثنينا عن مواصلة حياتنا بشكل طبيعي وأَن طفولتنا المسلوبة لن تكون عائقًا أَمام شغفنا بالحياة… إِننا نفرح لأن فرحنا يعني فرح ذوينا، فرح آبائنا المتعطشين للحرية، هكذا أَخبرني أَبي، إِن فرحنا أَمل، وهذا الأمل سنظل نبثُّه إلى آبائنا خلف القضبان حتى يعودوا إِلينا…كان ما زال في جسده بقيّهٌ من أَنفاسٍ وهو يحتضر، أَحسَّ بجسده خفيفًا مثل ريشةٍ، فراح يحلِّق في مهب السَّفر والكاميرا “تُتكتِكُ” وشريط الصور يتوالى، ثم راح يصعد في الفراغ ويحلّق فوق الغمام، وهو يعانق طيف والده الذي رآه في الحلم، ويتمتم: “كأنكَ عدتَ يا أَبي””.

وحين يحسّ بوجع الروح فيكتب في النصّ أوجاع الروح“:

“أَشكال مختلفة من التعذيب الجسدي وضروبٌ عديدة من التعذيب النفسي تعرضت لها، ومع ذلك فأَنا لم أبالِ لآلام جسدي، وإنما هي النفس المثقلة بالهمّ، هي التي كانت تنوء بآهات السقوط في اختبار الصمود. لقد أَخفقت في اجتياز عقبة الاعتراف، وتهاديتُ إلى منحدرات انكسار الذات وتصدُّع الروح. عاد يسأَلني: “هل تشعر بأَلم؟”. قلتُ له: “وما هو الأَلم؟”. قال بتهكُّم: “ما تشعر به الآن!”. قلتُ: “لا أَقسى من أَن تغدو بعيدًا عن نفسك!”. فقال مُستفسرًا: “ماذا قلت؟”. قلتُ له: “لا عليك … دعنا نكمل المسير!”.

وأمّا في جولييت في الزّمن الخطأ” فنجده يقول:

“جولييت صدى الزمن الذي هتف يومًا بمفردات العشق على أبواب الفُتوَّةِ والصبا، فترسَّمت وشمًا في الروح إلى الأَبد. تصارف الزمن وتوالت الأَيام، والفضاء أَظلَمَ وضاق أُفقه، لا نجمةَ طَلَّت ولا ميعادَ أَتى. كأَنني ما عشتُ تلك السنين العشرين التي خَلَت. كأَنّ الزمن بين حدَّيْ الفترة تلك قد سقط في نسيانٍ لا تَؤوب منه ذاكرة. الآن أَتذكَّرُ كيف حملتُ جولييت في سجني صورةً تتوالد أَلْفَ صورة، حُلُمًا يتشعبُ عنه ألف حُلُم… ولأَن المرأَة هي النقيض الذي يضع الرجل في موقع المُعاينة الذاتية انطلاقاً من الأَثر الذي تحدثه من خلال حضورها المادي، وما ينتج عن ذلك من تفاعل شعوري، فإن غيابها سيظل يبرهن للرجل على حقيقة كونه لا يستطيع أَن ينفذ بشكل حقيقي إلى مكامنه الداخلية، وعلى عدم توافر الإمكانية لاستنباط الذات في مجال معرفتها. فعلاقتنا بالمرأَة هي الوسيلة التي تفتح الباب أَمامنا لكي نُؤنسِنَ ذواتنا بشموليةٍ أَكبر، ونذهب عميقًا في استكشاف الحدود لبعض مزايانا الشخصية… العلاقة بالمرأَة هي الانتقال إلى المجال الاختباري في إعادة بلورة الصفة الإنسانية في إطارها الأَوسع. وطالما تعذَّر على الرجل ضمان حضورها، فإن وسائل التعبير السلوكية له في نهاية الأمر ستتخذ أشكالاً مُغايرة عمّا يستدعيه الانتقال الطبيعي المُتدرج على مسار التطور الشعوري.”.

وفي حبّ في زمن الحرمان” حبّ شيخ لزوجته التي رحلت، يكتب:

“أَخذ يمر بيده على تراب القبر، كان يمسحه بباطن كفّهِ كأَنه ينتشل من عواطفه ويحنو عليه، كرّر الحركة مِرارًا حتى أَخذته اللحظةُ من ذاته وألقت به على ضفة الهذيان. أصبح يراها تتجسّد أمامه. كان يشعر بحضورها ويتلمّس وُجودها واهمًا، وربما كان الأمر في حقيقته موجة ذكرياتٍ داهمة. وفي لحظةِ وفاءٍ جائشة راح يهمس بصوتٍ خافت تُحشرِجُهُ الأشواق: “متى سنلتقي”؟”.

وعن الأم التي منّت النفس بلقاء أسيرها في الأحلام بعد أن تعذّر اللقاء، يكتب سائد في سنلتقي في الأحلام”.

“كانت تتشبث بالحياة لأَنها كانت تتشبَّث به، تستنهض آخر المواطن في عزيمتها كي تتمكن من مواجهة العدو الداهم الذي يفتك بجسدها كل حين. بحسِّها الأَبدي الماثل في طبيعتها كأُم منذ بدء الخليقة، كانت تنفي ذاتها ساعيةً إليه. وما كان يضيرها إلا التنحّي عن الدرب في منتصف الطريق. ستتركه بلا معطف الروح في وحشةِ الاغتراب، وسيمضي وحيدًا في مَهاوي الظلم والظلام، فكيف به إلى مشقَّةٍ أَشقَتْ روحها وأَضْوَتها، منذ أَن دخل إلى السجن، وستظل بعد رحيلها تُناوره وتستنزفه. ثمّ إلى أَي شواطئ ستقذف به في النهاية؟ …  تلك الدموع كانت آخر إشارات البوح التي ودَّعت بها أَمينة الحياة. فرحلت عنها وهي مصلوبة على خشبة أشواقها وأُمومتها، دون أن يتحقق أَملها أَو أَن تبلغ غايتها… لقد حالت الظروف دون لقائنا، ومع ذلك فأَنا كما وعدتُكَ لن أَستسلم أَبدًا، وسأَظلُّ أُكرِّر المحاولة تلو الأُخرى ما بَقِيَ فيَّ رمق حياة. الآن وقد وقف القدر حائلاً بيننا، فإنني سأَظل أَجذبُكَ في خيالي. سأَجترح من الذكريات مواعيد للقاءاتٍ، ربما ستأَتي على محمل الأَحلام، فلعلّي ألتقيك هناك.. أَنا متأكدة بأَننا سوف نلتقي، سنلتقي في الأَحلام السعيدة”.

وفي صيد سهل” يكتب:

“جلس إلى بُرشِهِ يتوسَّدُ قهرهُ، أَو كأَن القهر هو الذي كان يتوسَّده، لا فرق، فقد أَدركَ للتوِّ أَنه كان فريسةً للنوايا الانتهازية، بل كان صيدًا سهلاً فوقع في شَرَكِ العواطف الكاذبة… راح يرسم وإيّاها معالم زمنهما القادم مُتجاوزًا عن حقيقة كونها لا تُلائمه، ليجعل من نفسه مُخلِّصًا، ومن لحظةِ تحرُّرهِ التي ستحين بعد فترة وجيزة لحظةً لالتئام جِراحها التي ترويها مُذكّرات امرأةٍ تعُجُّ بالإخفاقات”.

وعن عرس آمنة” يكتب:

“هي ذي آمنة تتذكر تلك الفتاة التي لم يتجاوز عمرها حينذاك السابعة عشرة عندما قالت لهم: “أنا زوجته ولن أتركه أبدًا. تلك الفتاة التي ظلّت عذراء بعد أن غيّب السجن زوجها لعشر سنوات ولم تَسلَم من ألسِنة الناس التي افتَضَّت سيرتها مراتٍ ومراتٍ. لم تسلم منهم ولا من تَقوُّلاتهم وخيالاتهم الجامحة، ولا حتى من مكائد بعضهم… كانت عيناها لا تبصران إلا السواد، والدموع المنهمرة تغسل شوارع المدن التي جابتها خلفه من سجن إِلى سجن. رجعت آمنة وفي يدها عشر سنوات من الرمل الذي تسرَّب من بين يديها في لحظةٍ واحدة. رجعت وفي جيدِها حبلٌ، كان عُقْدَ زواجها، فصار مشنقةً لعمرها الغض… “.

وعن رنا في القصّة التي حملت اسمها “رنا” يكتب:

“نامت رنا في تلك الليلة ملفّعة بأحزانها، رأت أنها تمشي في حقلٍ واسع تلتهب فيه النيران، وكانت تحاول جاهدةً أن تجد مَسربًا للخروج من اللهب الذي يحيق بها من كل الجهات… في صبيحة اليوم التالي، كانت أمام جدتها تُفضي…”

وعن توق الأسير لحريّته والحلم الضائع يكتب سائد في النصّ كأنني تحرّرت“.

“شيء ما يهز جسدي، أحس به كأنه يَدُ إنسانٍ، يَدٌ ثقيلةٌ تهوي على جسدٍ مُثقل. فتحتُ عينيَّ بصعوبة، حاولتُ أن أتمطّى، كنتُ كمن أُهيل عليه جبلٌ ولا يستطيع حِراكًا. نظرتُ حولي لأتبيَّن ما يجري! “أين أنا”؟ وفجأةً، سرى تيار اليقظةِ في جسدي. وأصواتُ رفاقي تتعالى وهي تحثني على النهوض. كان “ضابط العَدْ” واقفًا بالباب وينظر باتجاهي، فانتفضتُ واقفًا وأنا أمسحُ وجهي بباطن كفّي، ثم استدار ذاهبًا بعد أن أحصانا في الزنزانة”.

والمجابهة قدر الأسير ولا تفقده إنسانيّته ويرضعها من والديه، فيقول الكاتب في نصّه مجابهة“.

“هأنذا أمشي، بل أجرجر نفسي إلى مكتب ضابط الأمن، والاحتمالات تتداعى في خاطري، أسئلةٌ بعدد الأيام التي أهدرها السجن، تتكاثف وتصير مطارق تضرب في رأسي، “لماذا يتحول كل شيءٍ في ناظريّ إلى نضالٍ تتقاطع على صفحة جسدي، لترسم خارطةً للذكريات البعيدة؟”… أنا القائلُ وأنت المُصغي، أنا الحاضرُ والماضي أنت يا أبي سرد الحكاية، هل تسمعني؟ إني أراك الآن يا أبي من خلف الأفق المحتجب، أسمع حفيف أنفاسك كأنها هدير موجٍ جاء من خلف السنين. سأحكي لك قصةً، صاغتها الحياةُ بكلمات الرجولة والشهامة، وكتبها الواقع بحبر الكبرياء والأنَفَة. كنتَ أنت بطلها، أنا الشاهد فقط. كنتَ المُعلمَ وأنا الطالب، كنتَ حقيقة ما أنتَ، فصرتُ على يديكَ ثائرًا، يتغذى من جموح الأفراس التي لا تُروّض.”… قال لكَ يومها: “إني خارجٌ للحرب، سأذهب لمحاربة العرب، وقد لا أعود منها، وليس هناك من أحدٍ على وجه الأرض يمكن أن آمنهُ سواك””… تلكَ كانت مفارقة حادّة… ها أنت صريع المجابهة الجنونية بين القيم التي تسامت فيكَ وأصبحت قرينةً لاسمكَ. أَتُراكَ تردُّ دَخيلكَ الذي أَتى واثقًا، يودِعُكَ أَمانةً، هي أَغلى ما يملكه الرجل. حتى وإن كان هذا القادم من أَقاصي الثلوج البعيدة، ليستوطنَ الأرض التي انتُزعتَ منها، يتهيأ الآن لمحاربة العرب”.

وعن المفارقات والأمهات يكتب في نصّه نجمة في القلب نجمة في السماء”.

لي نجمةٌ أحملها ذكرى تُضيء لي وحشة السجن وفراغ الوقت الذي ينهشني، كانت تأتيني على محمل نيران يُصَعِّدها الشوق ويصبِّرها الأمل، لكنها صعدت وتألَّقت في السماء ذكرى للقاءٍ لم يتم، وإنني الآن كمن يحتفي بحضورِ غائبٍ لم يأتِ أبداً.”.

تبرئة ذمّة!

الأمانة التي حمّلني إياها سائد غاليّة، فتبرئة لذمتي أمام سائد والقراء، دفعت المادة للشاعر عليّ هيبي معلّم اللغة العربيّة لإلقاء نظرة إضافيّة، فكتب: ” لغة القصص متينة وجيّدة وتنساب انسيابًا قصصيًّا جميلًا… الرسالة الأدبية والهداف الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والروح النضالية والتعبير عن حياة الأسير الفلسطيني في غياهب السجون الإسرائيلية وصلت إلى القارئ … لك مودتي واحترامى وإلى مزيد من الابداع ومنك ألى كلّ أسرانا الفلسطينيين الذين ننشد لهم الحريّة والتخلّص من السجون والعيش بكرامة في الوطن بعد كنس كل أشكال الاحتلال والاستيطان… علي هيبي”

خلاصة القول:

الأسير ليس فقط مناضلا ورمزا للتضحيّة بأغلى قيمة لدى الإنسان، حرّيته. الأسير صاحب القضيّة شعلةٌ من الإنسانيّة لا تنطفىء حين يتمنطق البندقيّة ولا في ظلمات أعتى الزنازين. هذه الإنسانيّة بكل أشكالها كانت حبل الوريد الرّابط بين كلّ النصوص التي أبدعها سائد وراء القضبان.

أمّا وقد حمّلني سائد حملا ليس أقل ثقلا، إذ أوصل إليّ أوجاع روحه مولودا دون اسم، فها أنا ألقي بالحمل اسما للمجموعة: “أوجاع الرّوح”.

المحامي سعيد نفّاع – الأسير المحرّر

الأمين العام ل- “الاتحاد القطري للأدباء الفلسطينيّين –الكرمل”

بيت جن – الجليل أواسط شباط 2018م

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*