هل التنظيماتُ (الاتحادات) الأدبيّة حاجةٌ موضوعيّة للحركة الثقافيّة؟

اليوم الدراسي (المؤتمر) جامعة حيفا 6 آذار 2019

مداخلة

هل التنظيماتُ (الاتحادات) الأدبيّة حاجةٌ موضوعيّة للحركة الثقافيّة؟

يدّعي بروفيسور إبراهيم طه إنّنا نعيش؛ “أزمة نقد وقراءة لا أزمة إبداع”، وقبل سنوات كتب طه مقالا تحت عنوان: “عيب علينا ما يحدث في نقدنا الأدبيّ”. كانت معرفتنا طه وأنا “هيك من بعيد لبعيد”، فرددت عليه بمقال تحت عنوان: ” البروفيسور طه عاب علينا “نقدَنا” دون ان يرينا طريق الخروج من العيب!”

كتبت فيه:

طرح بروفيسور ابراهيم طه في ملحق الاتحاد 2014\8\29 موضوعا هامّا جدا تحت عنوان “عيب علينا ما يحدث في نقدنا الأدبي”، لكن الطرحَ جاء أقربَ إلى “أضرب الخميرة في الحيط يا تلصق يا تعلّم”، وبروفيسور طه أقدرُ كثيرا من الاكتفاء بضرب الخميرة، ولم يفعل.

وكتبت:

النقد أداةُ تشذيب للحراك الثقافي ليس فقط في شكل انتاجه الفنيّ وإنما في دوره المجتمعي، لا أنوي في هذا السياقِ الدخولَ في حقل ألغام ربّما لا أخرج منه سليما (حفاظا على ذاتي!)، ولكن ما أود قولَه هو أن التشذيبَ مؤلم والمتحملون الألمَ قلّةٌ في مجتمع كمجتمعنا حتى لو كان من نوع الألم العلاجيّ.

وهنا لا بدّ من لفتة عابرة، في البدء كان الانتاجُ الإبداعيّ ثمّ جاء النقد لهذا الانتاج واضعا معاييرَ حسب مواصفاتِ الانتاج القائم، فمثلا الانتاجُ الثقافيّ عند العرب بدأ قرونا قبل أن يتطور النقد، أن يتحول النقد إلى معاييرَ جافّة ففي ذلك جفافُ ينابيعِ الإبداع، وهذا بحدّ ذاته موضوعٌ للنقاش على ضوء ما يروح إليه البعض من محاولة “نمذجة” الإبداعات حسب قوالبَ وضعها النقاد متناسين أن هذه القوالبَ “صُبّت” أساسا على انتاجاتٍ وليس العكس.

النقد ليس مهمّةً سهلة بطبيعته، فهو تشذيب مؤلم كما أسلفت، فكم بالحري في مجتمعات كمجتمعاتنا هذا حال مثقفيها ومتعلميها، “استفزاز” بروفيسور طه حملةَ الشهادات لن يزيل عنّا ومنّا هذا العيبَ ولن يوردَنا نواصيَ الطرق للخروج، ولذا أعتقد أنه “يعيب علينا ولا يدلنا على طريق الخروج من عيبنا”، ومرة أخرى ليس لأنه ليس بقادر وربمّا لأنه أرادها ضربة خميرة، على ما استنتج.

ما هو حاصل اليوم في هذا الباب معلوم للكل و”النقد” الذي نشهد هو استعراضُ انتاجات يغلب عليها في الكثير من الأحيان بابُ “حُك لي في هذا المكان فأحك لك في مكان آخر” أو في لغة العصر “ليّكلي أليّكلك”، وبعضُها يخلو كليّا من أي ملاحظة سلبيّة وفي الأخرى بعضُ شذرات نقديّة هنا وهنالك كرفع عتب “لا تشبع من جوع ولا تروي من عطش”.

ولا يمكن أن يتناول المرءُ هذا الموضوع دون أن يمرّ على المنابر الأدبيّة عندنا على قلتها، فالمراقبُ أو المتابع يلاحظ دون عناء ال-” مونوبولات” المعطاةَ والممنوحة فيها حسب العلاقات والأسماء والانتماءات وليس حسب مستوى الانتاج، وهذا بحدّ ذاته نوع من “النقد” غيرِ المباشر الذي يأخذه المحرر على عاتقه ولكن من “الطاقة” وليس من “الباب” وهو تصنيفيّ، قواعدُه أبعد ما تكون طبعا عن النقد الذي نرمي أليه.

الناقد معرّض، وهذه حالُنا أن “يُبحش على قبر جدوده” وخوفا منه على جدوده وراحة لهم في قبورهم يفضّل ال-“ابعد عن الشرّ وغني له”، وخصوصا أنه لن يستطيع أن يصمد أمام الجحافل ال”فيس- بوكيّة” القابعةِ له بالمرصاد. الاتحاداتُ قادرة أن توفر الآليات ليس فقط للإبداع وإنما لحماية النقّاد بإعطائهم الغطاءَ إذا أحسنت تنظيمَ الصفوف ورُفدت بكلّ أو معظم أولئك الذين راقبوا انطلاقها مؤخرا دون أن يعطوا هذا الحراكَ أدنى اهتمام ولكل أسبابُه، وحتى دون أن يكلفوا أنفسَهم عناءَ السؤال، فمن أصل ما يربو على ال-500 مبدع عندنا لم يساهم إلا أقلُّ من 200 مبدع في إعادة البناء، وما شاب إعادةَ التنظيم (ولادة اتحادين) من شوائبَ صحيح أنه دليلٌ آخرُ على حال حراكنا الثقافيّ، لكن هذا لا يعطي الحقَّ لأحد أن يتخلّف مكتفيا بالمراقبة أو رغبةً في أن “يبقى مع سيده بخير ومع ستُّه بخير”.

أرى أن تنظيمَ حراكنا الثقافيّ والفعلَ فيه يمكن أن يشكّل نقلة نوعيّة أو على الأقل بدايةَ عودة عن الركود والجمود والنكوص التي أشار إليها بروفيسور طه وكذلك في مجال النقد، فإذا لم يُسهم المبدع في الحراك الثقافيّ الميدانيّ فكيف له أن يتصدّر مقدّمة الصفوف كدوره المنوطِ به تاريخيّا؟ وإساسا كيف ستصل كلمتَه إلى الناس إذا لم يصل هو إليهم؟

وكيف للناقد أن يشذّب عن بعد؟ فالتشذيب لا يكون إلا عن قرب (من داخل أغصان الشجرة)، وسيجد عندها السند في كثير من فروع الشجرة الذي يحفظ له كرامة “قبور جدوده”.

ومؤخّرا فقط، وأنا أقرأ كتاب طه “اللي بدوّخ الراس”؛ البعد الرابع- مساومات سيميائيّة مع الأدب الفلسطيني والعربي”، وإذا بي أجد وفي مقدّمته ردّا على ردّ من إبراهيم، تحت عنوان؛ “تشذيب الحركة الثقافيّة والتنظيمات الأدبيّة” يكتب فيه:

قرأت تعليق الأستاذ الكاتب سعيد نفّاع على مقالة عن أزمة النقد الأدبي كنت قد نشرتها في الاتّحاد يوم 29/8/2014، وفهمت أنّ الأستاذ نفّاع “يتّهمني” بأنّي “أعرف وأحرِف”، أو كأني لا أقول من الحقيقة إلا ربعَها أو أقلّ من ذلك بكثير. يبدو أنّ الأستاذ نفّاع “مجمور” من بعض الكتّاب والمثقّفين والمتعلّمين حملةِ الشهادات. إذا كان قلبك “مجمورًا” فقلبي مسجور، وقد قلت هذا الكلامَ وكتبته مرارًا. قلته وعانيت منه وما زلت، لكنّ “المبلول لا يخاف الندى”. ولو لم تكن مقالتي، تلك التي استفزّت الأستاذ سعيد، غيرَ “صرارة أسندت خابية” لكفاها ذلك. ثمّ أليس المثلُ الذي يقول “القطعة ولا القطيعة” صحيحًا في هذا العهد البائس يا أستاذ سعيد؟!

وتابع:

على العموم، يصعب عليك ألا تتّفقَ مع الأستاذ سعيد نفّاع في مداخلته، في توصيفه للحالة الثقافيّة وتشخيصه لأسباب الأزمة التي تمرّ بها. وليس من السهل النأيُ بالنفس عن المرارة التي يترافع بها ضدَّ الشهادات ومن يحملونها. لكنّنا نختلف معه في الدواء الموصوف. يعتقد الأستاذ نفّاع “أنّ الطريقَ للخروج من هذا العيب هو في المساهمة في تنظيم الحركة الإبداعيّة (ولو في عشرة اتحادات!) وليس الوقوفُ موقفَ المراقب خارج التنظيمات”.

وأضاف:

أنا أعلم علم يقين أنّ الأستاذ سعيد نفّاع على قدر كبير من الدراية والتجربة الطويلة، وهو ليس ساذجًا ليؤمن أنّ عيوب حركتنا الثقافيّة ستزول كلّها بإقامة اتّحاد للكتّاب ولا بعشرة اتّحادات. أظنّ أنّ خيبةَ الأمل التي أصيب بها الأستاذ نفّاع وهو يسعى لتنظيم الكتّاب في اتّحاد يجمعُهم ويمدّهم بالعزيمة ويشحذُهم بالهمّة المتوثّبة هي وراء هذه المرارة التي يتحدّث بها وبحقّ. ليت هذه الاتّحادات كانت قادرة على أداء دور المخلّص من بؤس حالتنا الثقافيّة. الحقيقة أنني لا أعرف وصفة سحريّة واحدة مجرَّبة تنجينا من هذا التردّي وترفعنا إلى السطح، لا هذه التنظيمات التي يعوّل عليها الأستاذ نفّاع بكثير من الثقة ولا غيرها. ولا أعرف أحدًا يؤمن أنّ هذه الروابطَ والاتّحادات هي عصا موسى التي تقلب السحر على الساحر، بقدرة قادر، قبل أن يرتدّ إليه طرفه.

وأخشى ما أخشاه ألا تكون هذه الاتحادات أفضلَ من عصا غشيمة، لا تصلح إلا للهشّ على الغنم، كهذه التي يحملها كلّ راعٍ من رعيان كابول أو بيت جن. لأسفي الشديد، أقول هذا الكلامَ وقد جرّبنا هذه الوصفة من قبل أكثر من مرّة. لا أحد ينكر ما لهذه التنظيمات من قدرة نظريّة على التحريك والتفعيل والتحفيز والتمثيل. وقد تكون من الضرورات الواجبة، غير أنّ تلك التنظيماتِ ستظلّ عقيمة ما لم تشحنْها الرغباتُ الصادقة بالعمل والمساهمةُ غير المشروطة وغير المأجورة.

لقد كنت فيما مضى عضوًا مؤسّسًا وفاعلا في اثنين من هذه التنظيمات… إنّ التقاطبَ الذي حصل بين تلك التنظيمات في تلك الفترة جعلت بعضَ الفِرق النقديّة التابعة لكلّ فئة تعلّي مراتبِ الحليف وإن كان من السافلين وتمرغ في التراب أنف الخصم وإن كان من العالين كما يقول الأستاذ نفّاع… لا تنفع التنظيمات إذا فُقدت النيّة الصادقة والرغبة الفطريّة في العطاء بقدر ما تنفع هذه النيّةُ وهذه الرغبة إذا فُقدت التنظيمات. أقول بكلّ أمانة: مثلما لم تمنحْني تلك التنظيمات، وأنا في داخلها، ما لم أكن أملكه في الأصل هكذا لم تمنعْني وأنا خارجَها من العمل والعطاء بغير حساب. وأقول الصدقَ أيضًا إنّ ما رأيته من صراعات وصدامات في هذه التنظيمات يكفي حتى لا أضع كلّ بيضاتي في سلّة واحدة، على نحو ما تفعله يا أستاذ سعيد في التعويل المطلق على اتّحادات الكتّاب بكثير من الرغبة وقليل من الحظّ. وأنا أحيّيك على هذه الشحنة من التوثّب.

ويضيف:

واسمح لي يا أستاذ سعيد أن أذكّر بتجربتي الشخصيّة وما أقدرُ على فعله دون أن أكون موصولا بأيّ تنظيم أدبيّ. وكلّ ذلك إلى جانب المهامّ الأكاديميّة الأخرى الملقاة على كلّ أستاذ جامعيّ، وهي ثقيلةٌ وسمجة في كثير من الأحايين. صحيح “لا يشكر نفسَه إلا إبليس”، لكنّي لا أطلب الشكر، وإنّما أبتغي الحقيقة. والحقيقةُ التي أعرضها كما ترى تثبت أنّ التنظيماتِ الأدبيّة ليست شرطًا قبليّا لكلّ نشاط. أقول هذا الكلامَ وألوم نفسي على تقصيرها، وإن كنت لا أحمّلُها وزرَ العاصين.

وينهي:

إنّ مطلب الساعة هو الحدّ من آثار هذه الأوبئةِ وتحجيمِ مردودها بضبطها في آليات ومعاييرَ. وهذا ما يدعو إليه الأستاذ نفاّع نفسُه وما دعوت إليه في تلك المقالة بالضبط. لكنّه يعتقد أنّ “الاتحادات قادرة أن توفر الآلياتِ ليس فقط للإبداع وإنما لحماية النقّاد بإعطائهم الغطاءَ إذا أحسنت تنظيمَ الصفوف ورُفدت بكلّ أو معظم أولئك الذين راقبوا انطلاقَها مؤخّرا دون أن يعطوا هذا الحراكَ أدنى اهتمام”.

على كلّ حال، “أنا أوّلُ من طاع وآخر من عصى” يا أستاذ سعيد! لست من المثبّطين، وأرجو أن تخيّب الأيّامُ ظنّي في هذه التنظيمات.

الأعزاء…

هذا هو الحوارُ أو النقاشُ الذي دار حينها، البروفيسور طه عضو يشرّف الاتحاد ومنذ سنوات، ولعلّ في هذه الحقيقةِ إجابةً على عنوان مداخلتي، وبالإيجاب. اعتقدت وما زلت أعتقد إنّ تنظيمَ حركتنا وحراكنا الثقافيّين يشكّل رافدا مهمّا في رفعتهما ورقيّهما، إن أحسن المثقّفون القيامَ بالدور المناطِ بهم في كلّ شعب؛ تصدّرِ الصفوف لا تذيّلِها، ولن يكونوا كذلك إن اعتقدوا إنّ أمجادَهم وراؤهم وهم فوق التنظيمات ومهما “اوثرّت” مقاعدُهم.

سعيد نفّاع

5 آذار 2019

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*