صِفُ بعضُ العلماء والنقاد العصرَ الحديث بأنه (عصر النقد)؛ وما ذاك إلا لبروز النقد واتساع مجاله وكثرة طُرُوقِه، ولدخول النقد في علوم كثيرة ونشاطات متعددة بمفهومه الذي يَعنِي التقويمَ، والحُكْمَ، وإظهارَ العلل، وإبرازَ المحاسن، والتطلعَ إلى الجيد، واستشرافَ التطور وَفْقَ معاييرَ وأسسٍ معينة، ورؤىً واضحة محددة.
والنقدُ الأدبي – لكونه أحدَ فروع النقد وأكثرها انتشاراً وسيراً في الآفاق – كثُرَ وتعددت مدارسُه، واختلفت فلسفاتُه، حتى أصبحت المذاهبُ تتغير وتتبدلُ بمرور الزمن وتقادُمِ العهد، وكأنها ألبِسَة وأمتعة تخلُقُ فيُبدَّل غيرُها بها.
بعد هذا الكلام المقتبس لا بدّ من الإشارة إلى أنّي لست باحثا أكاديميّا ولا ناقدا، ولذا فجلّ ما أتوخى من اجتهادي هذا هو أن أطرح جملة من المقولات والأفكار النابعة من قراءاتي، والمثيرة فيّ جملة من الأسئلة والتساؤلات. ولا يغيب عن بالي في انطلاقي: أنه في البدء كان الانتاج أو المنتوج الأدبيّ، النّصّ، ومن ثم جاء نقد أو تنقاد هذا النّصّ، أو بكلمات أخرى في البدء كان الإبداع ومن ثمّ جاء التقييم أو التقويم (عذرا من الياء والواو)، والأخير بمعنييه.
فهل المعايير، التي استنبطها النقد أو التقويم ممّا وبناء على ما سبق وتقدّم من نصوص، هي “توراة أنزلت في سيناء” معاذ أن تُمسّ كقول أبناء عمومتنا؟!
ألا خوف أن تصير هذه المعايير إن تزمتنا فيها، سدودا أمام الإبداع ؟!
وكذا، ألا خوف أن نشوّه الإبداع إذا تراخينا فيها وصار النقد تقريظا ليس إلّا؟!
في كتاب قرأته مؤخرا، رغم أن عمره يناهز عمري، اسمه “التأسيس في النقد الأدبيّ”، جاء:
“النقد والتنقاد لغويّا: تمييز الدراهم وإخراج الزائف منها. ونقد الشيء ينقده إذا نقره بإصبعه كما تنقر الجوزة، وناقدت فلانا إذا ناقشته في الأمر، وأنشد سيبويه: (تنفي يداها الحصى في كلّ هاجرة – نفي الدراهيم تَنقادُ الصياريف)، وقد ورد في حديث أبي الدرداء أنه قال: (إن نقدت الناس نقدوك، وإن تركتهم تركوك)”. وأُضيفَ:
“يتضح هنا أن للنقد من حيث اللغة معنيين: الأول طريقة معرفة الدراهيم والحكم عليها بالزيف أو الجودة، والثاني ذمّ الناس والعيب عليهم. وهو ضدّ التقريظ من قرظ الجلد إذا دبغه بالقرظ (نوع نبات س. ن.)، وقد استعير التقريظ للإطراء والمديح، بينما استعمل النقد في الذم والتجريح”. وأُضيفَ:
“إن النقد عنصر أدبيّ هام، ينهض بعبء جليل من أعباء نهضتنا الأدبيّة المعاصرة. فهو الميزان المقدر، وهو المحك الكاشف عن العيوب، والمميّز الخبير بالزائف والصحيح، والمقوّم الصريح الذي لا يستحي الحق. وهو للأدب بمنزلة الطبيب الذي يشخّص الداء، ثمّ يضع الدواء، يرسم الطريق ويوضح المناهج ويقف حارسا أمينا على المثل الأدبيّة العليا، ويجعلها قبلة أنظار الأدباء والمنتجين”.
فهل ما نشهده اليوم من نقد عندنا، يسهر حارسا على المثل الأدبيّة العليا، يقيها العبث، ويجعلها قبلة أنظار الأدباء والمنتجين ؟!
صحيح أن النقد الأدبيّ الحديث تطوّر اتساعا وعمُقا، فإن كان القديم يقتصر على جانب من الشكل، فالحديث يتغلغل في أعماق الأثر الأدبيّ ويتناوله من جميع جوانبه: الأديب، وعصره، وبيئته، وأثره الأدبيّ، وشكل هذا الأثر، وموازنته مع غيره، وكثير غير ذلك.
لكن كلّ ذلك لم يغيّر ويجب ألّا يغيّر، حسب اعتقادي، من الهدف الأساس للتَّنقاد، بوضع الحدود واضحة ما بين النقد وما بين التقريظ من ناحية، وأن لا تتحوّل المعايير التي يضع، أو على الأصح يستنبط، إلى معايير تقنيّة تقف سدّا في وجه الابداع، فعلى الكاتب أن يكتب (يشطح) متخطيّا المعايير غير هيّاب ولكن دون أن يدوس معالمها، وعلى النقّاد أن يقوّموا، وبالمعنيين، هذا التخطّي سلبا وإيجابا.
الغالب في نقدنا اليوم، وإن لم تخلّ من هذا الغالب أيامنا السابقة، هو التقريظ بعد أن ضاعت في الكثير من النقد الحدود ما بين النقد وبين التقريظ، أو ضاع بعض النقّاد فيها، وذاك لأسباب شتّى، ولكن الأخطر فيها هو ما يصحّ في تسميةً “النقد الشِّلليّ”، أو في لغة العصر “الفيس- بوكيّة”، “ليّكْلي وأنا ليّكْلك”، وليس بالضرورة أن يقتصر على “التّلْييك” إن لم تسعف التكنولوجيا، فينفع كذلك في “اللّوْك” الكلاميّ على الصفحات، خصوصا إذا كانت تلك الصفحات ما زالت تعيش أيام الكاهن-الرسّام “فان كوخ” الحِرمانيّة، وعلى منصّات الندوات والاحتفاءات والاحتفالات والتكريمات، خصوصا تلك المبادرَة، والمبادر إليها.
ويمكن ل”النقد الشِّلليّ” سلبيّا كان مضمونه أم إيجابيّا، أن ينبع من واحدة أو كلٍّ من هذه العلاقات: تحزّب، أو زمالة مهنيّة أو تبعيّة مهنيّة، أو قرابة شخصيّة مكانيّة أو عصبيّة أو اجتماعيّة، أو تنظيميّة وليس بالضرورة سياسيّة فيمكن أن تكون أدبيّة (انتماء لاتحادات أو منتديات أو نواد، قطريّة أم محليّة)، أو اقتصاديّة، أو عقائديّة فكريّة، (وزدْ ما شئت).
يتخوّف المتابع الدراسات والمقالات النقديّة من أن يصدق حدس “يركبه” أحيانا، أن ظاهرة لا تقلّ خطورة عن كلّ ما جاء أعلاه، تصحّ فيها التسمية “النقد البِطاقيّ”، تحوم في أجوائنا الأدبيّة النقديّة. والمعنى أن الناقد يتناول العمل المعيّن نقدا، كبطاقة دخولِ الصالة أو اعتلاءِ المنصّة أو المنبر المتربع على عروشها “المنتَقد” وليس هذا التربّع بالضرورة ودائما أدبيّا، خصوصا إذا كانت هذه الصالات أو المنصّات أو المنابر حكرا على بعض، “المنتقَد” جزء منه.
بالكلام “المْشَبْرَح” كي يضمن الناقد أن يُنشر نقده “تعبه عرق جبينه” والانتشار أمر وحقّ طبيعيّان لا بل هو الهدف ذاتيّا وموضوعيّا، فيختار أصحابَ الحكر موضوعا لتعبه ضمانا لبطاقة الدخول أو الاعتلاء، وإلا ظلّت دراسته عرق جبينه خارج الصالة وفي الصفوف الخلفيّة أمام المنصّة أو المنبر.
إذا صدق هذا الحدس، فنحن أبعد ما نكون عن رسالة النقد حتى لو كانت الاطروحة النقديّة على أعلى مستوى من النقد العلميّ، لأن النقد لا يمكن أن يُكملَ رسالته إلا إذا كانت بطاقة دخوله النصّ بغض النظر عن صاحب النّص ومكانه ومكانته وأدواته.
لا يخرُج عن الضياع هذا لدى البعض وفي شقّيه، الذاتي والحدودي، “النقد التقديميّ”، فبعض المقدّمين للكتب وعادة من نقّاد أو كتاب “مخضرمين”، أو أولئك منهم الذين يُلقي الكاتب مسودته النهائيّة بين أيديهم ليكتبوا عنها أسطر قليلة يزيّن بها الكاتب غلاف كتابه الجديد تعريفا أو تسويقا، (اخترْ ما شئت)، وحتى يكون كلامي ميدانيّا، فقد قرأت مؤخرا مسرحيّة لأحد كتابنا ذيّلها بآراء ستّة أدباء، كتاب وشعراء (لم تشمل القائمة أي مسرحيّ)، وقد أغفل كل هؤلاء أخطاء جاءت في المسرحيّة، لا يمكن أن يُغفر لهم اغفالها تحت أية ذريعة.
ليس بالضرورة أن يكون الكاتب ضليعا في اللغة ودهاليزها (وأنا من هؤلاء)، ولذا فمن المعروف والمتعارف عليه أن يضع إنتاجه في يد من هم أهل لذلك، هؤلاء هم عمليّا النقّاد الأوائل بحكم قبولهم المهمّة، ومن هذه اللحظة تقع على عاتقهم مسؤوليّة أدبيّة من الدرجة الأولى، يتحملّون كل تبعاتها سلبا وإيجابا كمؤتمَنين، ولا يغفرنّ لهم الادعاء أن: “لم تكن تلك مهمّتي” أو “لم يطلب منّي ذلك”، ذيّلوا بما كتبوا أسماءهم أم لم يذيّلوا.
كنت سابقا قد تعرّضت لهذا الموضوع بمقال تحت عنوان: “ملاحظات قاريء… النقاد الأوائل بين الإفراط والتفريط”، قلت فيه:
“مسؤوليّة المقدّم وهو “الناقد الأول” المؤتمَن على العمل الذي وُضع بين يديه، لا حدود لها تجاه من ائتمنه وتجاه القراء، ومن هنا فالإفراط في المديح خطأ يُغتفر وأما التفريط في الأمانة فخطيئة لا تُغتفر.
وحتى أنتقل من التعميم إلى التخصيص، فقد كتب كاتب في تمهيده لرواية أصدرها: “شكري العظيم أبعثه إلى الدكتور الصديق، …… على دوره الهام في التدقيق وصلاح اللغة“. عندما يكتب الكاتب في تمهيده ذلك فهو يعترف أن ما كتبه بحاجة إلى “التدقيق والصلاح اللغوي” كقوله، وهذا تواضع يُحمد عليه.
ويقول المقدّم في مقدّمة الكتاب: ” ألحق يقال، فقد قرأت الرواية قراءة متمعّنة، فوجدت فيها أسلوبا لغويّا بسيطا، لا تعقيد فيه ولا لغة فنيّة وإنما لغة عاديّة وسهلة“، ويضيف في مكان آخر: “ما لاحظناه لدى كاتبنا، ……، اللجوء إلى مختلف المرادفات بحيث يبدو تقدمه في سرد الأحداث بطيئا، ولاحظنا ابتداع رواية عاديّة وجميلة، رغم بساطة اللغة“.
وللمثال فقط أسوق أمثلة ممّا جاء في الرواية وبعد قراءة المقدّم المتمعّنة، في هذا الباب:
“ص12 وتوسلّتْ إليها علّها تكشف لها أخبار ابنها ومكان وجوده وسرّ اختفاءه”. “ص14 حاولوا شفاءه”. “ص17 رابض الجأش”. “ص18 وأصبح الانفعال والتوتر صاحبا الموقف”. “ص19 لقد ملؤوا ساحة الدار”. “ص27 وبدا على الضبع الذهول”. “ص37 فوظفوا من أجل ذلك كل قدراتهم وأصدقاءهم ووسائلهم”. “ص61 تمنى ، في نومه، أن لا يستفيق إلى الأبد”. “ص91 أحب الاحتراس ودريء المخاطر”. “ص105 أصبح عضوا من أعضاء جسدها ونبضةٍ من نبضات قلبها”. “ص106 لا يعلم، أصلا، نظام بناءها”. “ص107 في قريته جميع البيوت ذوي طابق واحد ولبعضهم القليل طابقان…حتى شرح له أحد أصدقاءه…وكأن الله أرسله إليه على عَمَدٍ”. “ص108 أحبه بسبب هدوءه …فقد كان غالبيّة أصدقاءه”. “ص112 ويفخر بأشياءه…وعرف أن أصدقاءه يغيرون منه”. “ص115 وحركت أشواقه إلى… وإلى أصدقاءه”. “ص122 لم تجد…أي ملاذ أو ملجأ من البليّة”.ص133 وإذ بدبّ يزأر”. “ص134 قطّع ….أواصر الدب إربا إربا”. “ص137 أُعجب بقدرته وبرباضة جأشه”. “ص155 سقط أمام اثنين من زملاءه”. “ص156 انهارت أوصارهم وأعصابهم…لم يكن حدودا لألمها وبكاءها المتواصل”.ص174 نار اللظى تتوقد بين أحشاءه”. “ص177 كل اهتمامه وفكره كانا منغمسان”. “ص186 وقد اعتاد…أن يزور قريته مع أبناءه”.”.
عدت في اجتهادي هذا على ما جاء أعلاه حتّى أدعّم هذا الجانب منه بالبيّنة. وعودة على المسرحيّة آنفة الذكر، ولست بصدد الكتابة عنها أو تقويمها، ولكني كقاريء أستطيع أن أقول أن المسرحيّة لم تخلُ من الأخطاء الإملائيّة واللغويّة الكثيرة، ليست بالقدر الذي جاء في الرواية أعلاه، ولكن القضيّة ليست مقاييس كثرة، وإنما حين تتخطّى الأخطاء السهوة الطبيعيّة ففي ذلك وجهة نظر.
وأكثر من ذلك وأهم، فقد وقع الكاتب في خطأ مسرحيّ أساسيّ وإن كان تقنيّا، ليس بالضرورة أن تكون ضليعا بالمسرح حتى ترى الخلل، ويكفيك أن تكون قارئا، فكم بالحري إن كنت كاتبا أو شاعرا وأنيط بك، ثقة فيك طبعا، أن تكتب بعض الكلمات فيها، يتوخى الكاتب منها أن تساعده في الوصول إلى القاريء.
ومع هذا لم يلتفت الستّة من الكتاب والشعراء الذين ذيّلوا المسرحيّة بملحوظاتهم، إلى تلك الأخطاء لا الإملائيّة ولا اللغويّة ولا المسرحيّة، وهي كثيرة نسبيّا ولافتة.
كتبت في مقالي الآنف:” أيها المقدّمون… اتقوا قدسيّة الكلمة فالأمانة التي تُحَمّلون كبيرة فاحفظوا هذه الأمانة وأكثر كثيرا من النقّاد !”، وها أنا أعود لأطلق هذا النداء، خصوصا وأن ساحتنا الأدبيّة تعجّ بالإنتاج، وإن كان هذا بحدّ ذاته مباركا، ولكن بركته تزيد إن شذّب، وبداية على يد المقدّم، فالتشذيب يؤلم النباتات ولكن لا شكّ يقوّيها ويزيد من طيب انتاجها ثمرا كان أو زهرا، وأكثر إن فعَّل المشذّب المكمّل، الناقد، “مشذابَه” بأمانة.
وعودٌ على بدء، ليس سرّا أن كلاما كثيرا يدور في “الأروقة الأدبيّة” شفهيّا أو كتابة، يغلب عليه التذمّر من الكثير من نواحي حركتنا الثقافيّة، وبالذات من زخم الانتاج ومستوياته والإساءة الذي يحمل ذلك في حق الحركة الثقافيّة والثقافة بشكل عام، ولهذا الكلام قسط وافر إن لم يكن الأوفر في الأروقة.
إذا كان لهذا التذمّر ما يعتمد عليه، وبغض النظر عن رأيي الشخصيّ، فأين هو النقد وأين هم النقّاد من ذلك، وعلى ضوء ما تحمل أعناقهم من أمانة، سهرا على المثل الأدبيّة ووقايتها من العبث وجعلها قبلة الأدباء؟!
أم أن هؤلاء المنتجين الجدد لا يستأهلون التعب، ولا يضمنون بطاقات دخول؟!
أو إن تمّ تناول أحدهم فيتم باستحياء أو بحكم علاقة ما؟!
أعتقد أن من المهمّات الأساسيّة للنقد والنقاد صونا للأمانة، هو تناول هذا الانتاج بالذات، ودون الاستحياء من لومة لائم في قول كلمة حقّ، ليطرحوا الغث منه إلى حيث ألقت رحلها، وليسوّوا السمين منه بتخليصه من غثّه. لكن ما نراه من نقد يدور بغالبه حول انتاج “المخضرمين” من الكتاب والشعراء ذوي الباع الطويلة في الساحة الأدبيّة مكانا ومكانة، والضاربة جذورهم عميقا في حقلنا الثقافيّ، فما أن يصدر عمل لأحدهم حتى يتسابق النقّاد في تناوله وعلى الغالب قريظا، فلا “تغيب رِجل مقال حتى يطلّ رأس آخر”، وقد شهدنا في السنتين الأخيرتين أربع حالات كهذه إن لم يكن أكثر.
وبغض النظر عن هذا وعن الأهميّة في تناول أدب هؤلاء و”استغلاله” أو “استثماره”، (اختر ما شئت)، كمصدر للتعلّم والتعليم والإفادة والاستفادة، لكن “كثرته ليست لله”. وهنا تحضرني الحكاية عن ابن الرّعيّة الذي جاء الكاهن راعي الرعيّة بعد الصلاة ليبادره قائلا: “قنطار مِسْك في ذقنك يا أبونا”، ليجيبه: “بارك الله فيك يا ابني”، وتكرر الأمر لاحقا، فما كان من الكاهن الراعي إلا أن ردّ على ابن رعيّته قائلا: “مِسْك في ذقني فهمنا… لكن ذقني يكفيها القليل منه وليست بحاجة لقنطار… فكثرته ليست لله… ما الذي تريد؟!”
يفعل حسنا نقادنا إن بذلوا جزءا من الجهد الذي يبذلون في تناول الانتاج الأدبيّ ل”المخضرمين” من أدبائنا، بأن يراقبوا الفروع والأغصان والأفنان في شجرتنا الأدبيّة، ينمّون الأفنان الطريّة الرطبة ويقوّون الأغصان الماويَة ويعاينون الفروع، فالدّواب كثيرة يمكن أن تفتك في الأغصان والأفنان وتجرح حتى الفروع التي اصلبّت، وأن يشذّبوا اليابس من كلِّها ودون هوادة، وأبدا ليس على حساب الجذوع والجذور، وإن كانت هي الأخرى بحاجة ل”طلّات” هنا وهناك إذ أنها ليست حصينة على الدّواب، فالعلاقة بين هؤلاء (الأفنان والأغصان) وأولئك (الجذوع والجذور) والفروع ما بينها، عضويّة تبادليّة وتكامليّة وتكافليّة، لا تنفصم عراها.
وإن فعلوا يصير النقد عنصرا أدبيّا هاما، ينهض بعبء جليل من أعباء نهضتنا، ويصير الميزان المقدر، والمحك الكاشف عن العيوب، والمميّز الخبير بالزائف والصحيح، والمقوّم الصريح الذي لا يستحي الحق.
ويصير للأدب بمنزلة الطبيب الذي يشخّص الداء، ثمّ يضع الدواء، يرسم الطريق ويوضح المناهج ويقف حارسا أمينا على المثل الأدبيّة العليا، ويجعلها قبلة أنظار الأدباء والمنتجين… وتتعالى الشجرة وتغزرّ دائمة الخُضرة.
سعيد نفاع – أواسط تموز 2015