مكتبتي المتواضعة تحمل ثلاثة مجموعات قصصية تزيّن الرف الأول ، و هي للمناضل الكاتب سعيد نفاع .
” الحائل ” صدرت العام 2006 ” مأتم في الجنة ” 2011 ” سمائيّة البوعزيزي ” 2014 .
سأتناول من كل مجموعة قصة واحدة أعالجها بما تيسر .. ولنبدأ بمجموعة ” الحائل ” أي الجاهزة للإخصاب و الإنجاب . كما أشار الكاتب محمد علي طه في تظهيره للكتاب .
في هذه المجموعة قصة بعنوان ” كيف ساهم العبد جراح في معركة ” خلة علّيق “.
من المعلوم ان القصة القصيرة تنقسم الى نوعين أساسيين ، القصة العادية او العامة ، و القصة التحليلية الفنية ، لكن القصة العادية ليست أقل شأنا من القصة التحليلية . وكاتبنا نفاع اختار القصة العادية ، بداية _ عقدة _ نهاية ، والتي تعتمد طريقة السرد .
من خلال هذه القصة وقصص أخرى يتضح أن الكاتب ينتمي الى المدرسة الواقعية و التي من صفاتها تصوير الواقع كما هو مع العناية باللفظ ؛ بيد ان الكاتب يطعم – أحيانا – الواقع بالخيال ، و الخيال عموما يضفي المزيد من القيمة على النص الأدبي بمختلف ألوانه .
بديهي ان لكل قصة من بطل او شخصية محوريّة ، و بطل هذه القصة هو ” العبد جراح ” الانسان المهمل من قبل أهالي البلدة ، بل هو هدف للتندر في المناسبات ، رغم اعتراف الجميع بشجاعته و جسارته و هو يقارع وحوش البرية المفترسة من ضباع و ذئاب اثناء رعيه للماشية .
اذا شئنا الأبعاد الثلاثة المتعارف عليها فنيا للشخصية القصصية ، فقد عرفنا بعدا واحدا لهذه الشخصية وهو الجانب الاجتماعي و المركز الذي يشغله الجراح ، لكن غاب عنا البعد الثاني وهو المظهر العام للشخصية ، والبعد الثالث وهو الجانب الداخلي و يشمل الأحوال النفسية و الفكرية ؛ و بالرغم من اختفاء هذين البعدين فإن عنصر التشويق لم يتأثر بتاتا ، شدتنا الأحداث طوعا و ترقبا لما سيجري ؛ و بدأت تتشكل ” العقدة ” او ما يعرف بالحبكة ، حين تطورت القصة الى المواجهة بين الأهالي و السلطة التي اقتحمت البلدة بهدف نهب الأراضي . وفي هذا الظرف حدثت مفاجأة لم تكن متوقعة ؛ العبد جراح المهمل يصبح محط اهتمام وتقدير الأهالي ، وفي الشدائد تظهر معادن الرجال كما يقولون ؛ العبد جراح يقوم بواجبه الوطني تجاه ارضه و وطنه ، يرفض اهانة الشاويش له و يرد الصاع صاعين :
” ولا تكون كسلان يا جراح وفي هذيك العصا على اكتافه ، فترنح الشاويش وهو داخل البركة المليئة بالأوساخ ” .
وهنا تصل القصة الى ذروة الصراع ، وحين تصل القصة الى هذه النقطة من المفترض ان يسرع الكاتب الى النهاية بقدر المستطاع ، وهذا ما حصل إذ قام الكاتب بتركيز الضوء على النهاية ، أو على ” اللحظة المنيرة ” كما يسمّيها بعض النقاد . ويقال ان القصة كلها تقوم على هذه اللحظة الحاسمة .
يعتقل العبد جراح ، وفي المحكمة يبدو وقد حلق ذقنه التي كانت ” في خلاف دائم مع سكاكين الحلاقين “
ويسأله الأهالي الذين حضروا المحكمة :
_ ليش حالق ذقنك يا جراح ! ؟
_ هذول ياخذوا كل شيئ يطلع .. إن طلعت بلانة في الأرض تصير احراش ويوخذوها .. خايف اليوم ان شافوا شعرات ذقني طالعين يصادروهن !!!
هذه الجملة الاخيرة من القصة تحمل طابع الطرفة ؛ لكن لو نظرنا الى هذه الجملة على ضوء النقد ” الثيمائي ” كمثال ، أي ان النقد المتجذر في حدود الدلالة الأدبية ، لوجدنا انها جملة مثقلة بالألم والإحساس بظلم الإنسان للإنسان !
بقي ان نشير ان هذه القصة تتقاطع الى حد ما مع مشهد من رواية ” الأرض ” لعبد الرحمن الشرقاوي : مقاومة الفلاحين حين شعروا بأن أراضيهم مهددة بالضياع جراء مشروع سيمر عبرها لصالح ” محمود بيه ” المدعوم من الحكومة .
** في مجموعته ” سمائيّة البوعزيزي ” راقني الدخول في قصة ” بئر الخشب ” تشغلك هذه القصة لأكثر من ربع ساعة ، وهذا يتفق مع الكاتب الانجليزي ه. ج. ويلز في تعريفه لحجم القصة :
” يمكن قراءتها في مدة تتراوح بين ربع ساعة وثلاثة ارباع الساعة “
تعود أحداث هذه القصة الى العام 48 عام النكبة الى ما أصطلح العامة على تسمّيته ” سنة الهجيج ” هجيج الناس من ديارهم و بيوتهم عنوة امام قوة وهمجية السلاح !
وشخصيات او شخوص هذه القصة هم من الناس العاديين الذين يقاومون ما استطاعوا عصابات المحتلين ، هؤلاء الناس يغيرون في أوقات متفاوتة على هذه العصابات ، يحققون بعض النصر ، يخسرون شهداء وينسحبون ليلوذوا بشجرة الخروب القائمة في ” قلعة الشيخ ” كي يرتبوا امورهم ويعاودون الكرة .
وبهذا المشهد قلعة الشيخ تبدأ جغرافية المكان بالظهور ، جبل الجلون ، بئر الشيخ ، وادي عبيب ، مغارة الجن ، بئر الخشب وغيرها من الأمكنة ؛ وللأمكنة او المكان في القصة أهمية بالغة في النفوس لما يحمل المكان من عشق و حضور في ذاكرة و وجدان الشعوب .
ربما ان الكاتب انتخب شجرة الخروب دائمة الأوراق في كل الفصول ليرمز الى الأمل الدائم للإنسان الفلسطيني باستعادة حقه .. ان قصة من هذا النوع تحتاج الى فعل تراجيدي ، وتبرز حدة البناء التراجيدي مع قوافل الناس المتجهة شمالا الى المنفى تاركة بيوتها و أرضها ، تلاحقها زخات الرصاص !!
ومع هذه الأخطار وهذه الظروف الحرجة نتوقع التضحية من بعض الناس ، وهم الثوار ، او ” الحامية ” كما يقول الكاتب ؛ وفي خضم هذه المقاومة غير المتكافئة تظهر ” فاطمة ” .
اظن ان اختيار الكاتب اسم فاطمة لم يأت عفو الخاطر .. فالأسماء فاطمة ، عائشة ، خديجة ، اسماء تاريخية تحمل شحنات انسانية عميقة الأثر . وفاطمة في القصة تخاطر في الليالي المقمرة لتوصيل الماء للحامية ، و في هذه اللقطة و صف أدبي مدهش قوامه الموهبة و الخيال :
” كانت فاطمة تتسلق ” شمّيس ” جبل الجلون وال ” زكرة ” الملأى بماء بئر الخشب على ظهرها وقد لفّت على وسطها صرّة كبيرة ، و القمر بدر نوره يقبّل العرق المتفصد من جبينها وخديها المحمرين تحت حجابها المبتل الأطراف ، تتلمس خطواتها القصيرة الطريق آخذ الغتل منها ” تتلطى ” بالظلال القمرية ، خوفا من عين ” بنت ملعونة ” ترقبها ، و خوفا من حجر يخون قدميها متدحرجا نحو الوادي العميق فيفضحها في هذا الليل الساكت ، والفضيحة هنا مصيبة ويمكن ان تساوي دما كثيرا ” .
قصة مؤثرة دون شك .. كنت أحبذ لو ان الكاتب أعار قائد الحامية ” ابو أوصاف ” المزيد من الاهتمام ، على الأقل كي لا يظل شخصية ” مسطحة ” في مقياس الشخصيات القصصية .
** من مجموعته الثالثة ” مأتم في الجنة ” أتجه الى قصة ” المولود ” .
دعونا اولا نسوق الفقرة التالية من القصة :
” سمعت طرقات على الباب و دخل اثرها زيدان فقام خالد مرحبا بأعز أصدقائه و رفيقه في النضال منذ ايام الشباب و الذي يحمل نفس الشهادة التي تعطى لكل مناضل ضد سياسة السلطة ، و يحمل الإقامة الجبرية لانه يهدد أمن الدولة و الجمهور ” .
مثل هذه الفقرة ، وبهذه اللغة التقريرية قد تقلل من قيمة القصة ، او تقلص رغبة القارئ في المتابعة !
لكن الكاتب عوّض عن هذه الثغرة بوسائل من شأنها تحويل الأنظار عن أي خلل يحدث في النص ،وذلك بأنه أدخل في نسيج القصة : دقة الملاحظة ، الفكرة الناضجة ، والدراما العاطفية ؛ و الدراما هي روح القصة ، برأي الكثيرين ممن بحثوا في الأدب القصصي .
هذه القصة ” المولود ” هي قصة اجتماعية ذات طابع انساني ، و الملمح الانساني يبدأ مع خالد زوج سميحة التي حرمت الانجاب ، فأخذ أقارب خالد يلحون عليه ان يطلقها :
” طلقها و تزوج … لعل الله يرزقك مولودا يعينك على مصائب الدهر ” .
لكن ” خالد ” المحب و المخلص لزوجته يرفض رفضا قاطعا .. و بعد انقطاع الأمل يستجيب القدر و تحمل سميحة بمولود ذكر ؛ ويحل الضيف الغالي عبر مظاهر الإحتفال و الغبطة :
“وعج البيت بالناس يهنئون بالمولود الجديد ، و الفرحة و البهجة تغمر الوجوه “
لكن الفرحة لم تدم طويلا ، فقد مرض الغالي مرضا طالت أيامه .. ولنا ان نتصوّر مدى القلق و الغم يسيطران على الأب و الأم !
و في هذا الوضع المترع بالحزن و الأسى يتجلى ايمان الناس البسطاء بالتنجيم و الأبراج ، والاصابة بالعين :
“وتحلقت النساء كل واحدة تخرج تمتمة وتبتهل الى الله ان يشفيه ، وأم حسن ” ترقي ” للطفل فتمسد بيدها المجعدة وجه الطفل وذراعيه ويديه وتفتح فمها على اتساعه وتتساقط الدموع من عينيها ويعلو زفيرها ” .
ثم تصدر حكمها القاطع :
” الولد منصاب بالعين “
وتقترح ان ” يطقطقن ” له رصاصة :
” وفعلا احضرن قليلا من الرصاص فذوبنه على النار والقينه في صحن مليء بالماء البارد ، تقلص الرصاص مكونا شكلا ما “
ومن خلال هذا الشكل يظهر اول خيط للجريمة ، وتلصق التهمة بانسانة بريئة :
” فتقوست ام حسن فوق الصحن و هي تفرك ذقنها : الله يسترنا … حُرمة ناصحة حاملة عكازة ! هاي ندى النفّجة شو بدها من خطيته !؟ ريته ياخذ عمرها هالخاينة “
و تنتهي المهزلة بانفضاض النسوة بعد ان ساد الاعتقاد بأن الطفل سيشفى بعد عملية الرصاص المذاب .
لكن حالة الطفل تزداد سوءا ، فينقل الى المشفى ويستعيد عافيته ؛ وينتصر العِلم على الخزعبلات و المعتقدات …
بضع ثوان وأغادر القصة بشعور طيب ؛ ولولا ضيق المساحة لكشفتُ الستار عن قصص اخرى جيدة ، تؤكد تمكن كاتبنا سعيد نفاع من هذا اللون الأدبي الهام والجميل