النُخبويّ وسوريَة
يشغلني ومنذ أن “اعتلى” سدّة الحكم في سوريَة “الإسلامويّون” السؤال: أين هم؛ القوميّون، اليساريّون، التقدّميّون، النهضويّون، التنويريّون…؟! وضف ما شئت!
من باب ما أشبه اليوم بالأمس، وجدتّني أعود إلى وقفة كتبتها أوائل تشرين الأوّل 2011م، فكنت كتبت:
“عندما كنّا على مقاعد الدراسة الثانوية حبانا الله بمعلم للغة العربيّة حوّل المختارات والنصوص المدْحيّة والغزليّة التي أتخمنا بها المنهاج الدراسي المؤسساتي لنشبّ مدّاحين، وغزّالين بمعنييها، حوّلها وحوّل حتّى قواعدها إلى قنابل سياسيّة موقوتة يوم كان خوض المعلّم في السياسة ولقمة عيشه عدوين لدودين دونهما حرب ضروس.
علّمنا المرحوم (الشاعر شكيب جهشان) أن المثقّف هو الرّمح المشحوذ وكلّما كان تثقيفه جيّدا كلّما كانت إصابته في الأجساد أعمق وأمضى، وعلى ذمته من هنا جاءت صفة “المثقّف” للإنسان الذي ثقّفته ميادين الحياة ليرمي القلوب والعقول وكلّما كان تثقيفه أحدّ كلما أدمى القلوب وآلم العقول أكثر، وما زلت اعتمد ذمّته مصدرا ولم أجد حاجة للعودة إلى المعاجم.
وقد أضاف عليها تعريفا تقنيّا إذ علّمنا أن المثقّف هو “الذي يعرف كلّ شيء عن شيء وشيئا عن كلّ شيء”، وأمّا الأيام فعلمتني أن المثقّف كلّما كان تثقيفه “ميدانيّا” يقرأ بين الناس ويكتب مع الناس ويصرخ بين الناس ويتألم مع الناس، وليس “مكتبيّا” يقرأ بين الأرائك ويكتب مع المكيّفات ويصرخ في الندوات ويتألم على الشاشات، فإصابته للعقول وكذا للقلوب أعمق وأمضى تماما كما أصاب سقراط العقول والقلوب حين تُجُرِّع السّم.
كلمة تُكتب أو تُقال في الميادين مدفوعة الثمن قمعا ومعاناة قبلتها أم لم تقبلها، أشرف بما لا نهاية من نفس الكلمة عندما تُكتب أو تُقال في أبراج عاجيّة، فكم بالحري في باحات القصور أو ساحات الجامعات مقبوضة الثمن دولارا وريالا.
أحترم المثقّفين المثّقفين وافقتهم أم لم أوافقهم، وحقيقة لم تشغلني كثيرا هي التصنيفات التي بدأت تجول في الأدبيّات منذ مدّة ليست قصيرة عن “مثقفين نُخبٍ ” و”مثقفين غير نخب” و”مثقفّين مفكّرين” و”ومثقّفين متلقّين”، وكأننا أمام طبقة أو شريحة هي صفوة اصطفت نفسها دون أن يصطفيها أحد راح ضحيّتها الكثير من المثقفين الذين اصطفتهم وعورة الميادين.
هذه الشريحة في نظر نفسها هي النقاء الإنسانيّ وهي الصفاء الإنسانيّ وهي الحريصة على القيم الإنسانيّة لا بل هي مصدر القيم الإنسانيّة تضعها من على أرائكها الوثيرة وعظا، وما عليك أنت إلا أن تتعظ حتى لو كنت قائد دولة قائما على لقمة حياة الملايين، وإن لم تتعظ فالويل والثبور وعظائم الأمور.
وإذا قلبَ هذا “المثقّف النخبويّ-الصفويّ” يجب أن تقلب معه فهو العارف بما لا تعرف والعليم بما لا تعلم ووو… (ربّما يحتاج المرء هنا إلى أن يستغفر الله العارف العليم) وإذا لم تقلب معه فأنت الكافر والمشرك والجاهل والعاقر وباختصار “الفاعل التارك”.