هكذا قرأت أيام الغبار – خالدية أبو جبل

ثنائية روائية

للأستاذ الاديب سعيد نفاع

إصدار، دار الهدى، عبد زحالقة.

رواية تقع في 362 ص من الحجم الكبير.

اتكأت على رف مكتبتي ما لا يقل عن شهرين تراوغ النوم بنصف عينها المفتوحة. وانا ما بين رغبة في سبر اغوارها، ورهبة من اسرارها …

كاتبها ذلك الاديب الوطني حتى النخاع والسياسي الفذ سعيد نفّاع. واسمها لوحده حكاية ” أيام الغبار ” كلما اقتربت منها شعرت بطعم الغبار في فمي وبثقله في رئتيّ يعيق دروب الهواء بفعل ما يلّفنا ويغشى ابصارنا من غبار مقيت تزاحمت فيه ألوان المصائب مهرولة من كلّ حدب وصوب.

ابتعد عنها كافيّة نفسي شرّ غبار آخر…

لم تطاوعني نفسي على رؤية الغبار يعلو غلافها مُشفقة عليها من غباريين، مددت يدي امسح ما علقّ على وجهها من غبار وانا انظر لها بنصف عين، فاذا بها تنظر لي بعينين قائلة: عليك بغبار الصفحات عزيزتي. غلبتني …وكانت البداية

لأجد امامي سعيد نفّاعٍ غير الذي في القصص القصيرة، كاتب لا يُكرر نفسه يخرج بقارئه الى فضاء رحب مليء بالتساؤلات والحوارات الفلسفية والمونولوجات الذاتية، من خلال لغة واسعه تتسع لهذه الافكار والايدولوجيات، سهلة عذبة بحيث تستطيع ايصالها للقارئ على طبق من ذهب ومتعة.

بين كلمات قصة يتيمة غلّفها قلق داخلي حزين، أخرجه موج البحر من أعماق راشد وأنس، نبتت وترعرعت أحداث” أيام الغبار “. لكن الكاتب يؤثر ان يتركها ليُتمِها ويمضي وهو مُدرك أنها قصة بل رواية حياة.

رواية شاب فلسطيني درزي يعيش فيه وطنه وهو المعتقد الى حين انه “عاري” وهو إبداع من الكاتب فلا عريّ يفوق عريّ الانتماء فضيحة وألمّا.

تبقى النفس تائهة حائرة تفتش لها عن هدف عن أرض صلبة تحملها، او صدر تحضن آلامها، تُخرجها من كابوس الحياة، لكن كل ذلك يضيع هباء في غياب الشعور بالانتماء.

رواية تنبثق من قبلة مسروقة من حلال عشق الروح، وحرام العقائد والديانات. لتفتح سيلا من التساؤلات وتشعب المتاهات في فهم كُنه الخيانة وكم هو الكمّ الهائل الذي نعيشه من الخيانات.

أهو خيانة النفس للنفس حين تفعل ما لا تحب وترغب؟

اهي خيانة الصديق بإخفاء سرّا عليه؟

أهي خيانة أمٍّ في السماح لدمع ينهمر؟ ضاربا عرض الحائط بكل “قوانين الرجولة”؟

أم هي خيانة الزوج لزوجه والعكس؟

أو خيانة عاشق لعشيقته؟

أهي خيانة قلم لمبدأ؟

أم هي خيانة الوطنية، والتزيّن بها ترفًا، في زمن باتت فيه الوطنية رفاهية بعد أن خاض صاحبها ” السبعة وذمتها”؟

أم هي خيانة الوطن الأكبر؟

في انشغالنا بأمورنا وخياناتنا وهمومنا الذاتية، وجعلها الهمّ الأعظم، أمام همّ وطنٍ تنزِّف مزّق أشلائه في كل مكان؟

أم هي العبارة التي نبلعها كالدواء المُسّكن ” امش الحيط الحيط وقول يا رب الستيرة”؟

بكل وبمثل هذه التساؤلات وأكثر أشعل الكاتب وأشغل نفس بطل قصته الدكتور الشاب الدرزي راشد سلمان، صاحب القبلة المسروقة من ثغر صاحبة هدبٍ انغرز في عينيه ليرى به تصريحا للعبور. قبلةٌ وصمت علاقة راشد بجوليا، بالخيانة لنجلاء الزوجة. وكشفت عن عريّ جوليا المستور! التي اتخذت لها التمريض مهنة، ولم يُسعفها في تمريض وتضميد جرحها النازف الذي ما زالت حصى الطريق الداميّة وأشواكها، شاهدة عليه، إثر اغتصاب طفولتها من قبل خالها، وهي لم تفقه كنهَ جسدها بعد … وأُمرت بالصمت وحُكم عليها بالزواج وهي فتاة صغيرة. لتُنجب” تمّام” – وكأن الاسم جاء ساخرا من تمام الامر على هذا النحو – وتصبح جوليا الطفلة أمّا ترعى طفلا.

جرحٌ سَردَ نَزْفَ ألمه الكاتب بطريقة مؤثرة ذات ابعاد أخلاقية واجتماعية ونفسية وسياسية كثيرة، بدون الوقوع في فخ التصوير المبتذل والمنفر للمشهد المؤلم.

كانت هذه القبلة فاتحة لليالي عرفت طعم العشق والغرام، وفاتحة لدرج في نفس راشد يُفتش فيه عمّا يستر عريّه إزاء زوجة عاش معها قصة حب كانت حديث القرية بأسرها. وعمّا يستر عريّه امام صديق اخفى عنه سرّه خروجّا عن المعتاد. وعمّا يستر عريّه يوم راوده الشك بخيانة جوليا له مع صديق لها غريب.

هكذا تمضي بنا الرواية في جزئها الأول بين مناورات فكرية وعاطفية وحوارات حارقة ما بين أنس الصحفي المُهجّر وراشد الطبيب الناجح.

لم تقو على صهرها كلها في بوتقة واحدة كل حرارة لفائف السجائر التي أشعلاها، ولا طار شيئا منها مع دخانها المنبعث سحبا في السماء، ولا التصقت بالأرض تبغي الافلات من أثر الدعس والمعس لأعقابها، ولا استطاع البحر من ترويضها ليأخذها في عباب موجه العاتي …

هنا على شواطئ حيفا ظننت ان الكاتب أراح قلمه الوطني والسياسي قليلا، فانتظرت ان أقرأ ما آلت إليه رومانسيات راشد و جوليا، وكيف سيكون وقع المصيبة على نجلاء!!

 

إلا أن الطبع غلّاب، ولما لا اقول إنه أمر مُدبّر منذ البداية، فقلمٌ نذر نفسه لقضيته ووطنه يُسّخر كل القصص، ليحكي للعالم قصة الانسان الفلسطيني بشكل عام، والفلسطيني الدرزي بشكل خاص، الذي ظلمه الاحتلال مرتين، مرة في احتلال ارضه كباقي فلسطين ومرة اخرى في احتلال فكره ومحاولة سلخه عن ابناء شعبه الفلسطيني، فلم يتوان بمصادرة اعياده وبعضا من عاداته، وكان الامر الأصعب حين وقع تحت طائل الخدمة الإجبارية في الجيش. ممّا أجبر أبناء الطائفة الدرزية للوقوف امام المحتل مناضلين، ضد الخدمة وضد سرقة الاراضي و…..

فصارت النتيجة الظاهرة للعيان إمّا درزي وطني رافض للخدمة ومسجون، او درزي متعاون يخدم في صفوف جيش الاحتلال. وعلى هذا يكون إمّا قاتل لأخيه الفلسطيني في مناطق 67، وبطل في نظر جيش الاحتلال، او انه شهيد في نظر الاحتلال، ومقتول في نظر الوطن.

وفي هذا السيّاق يحضرني سؤال: اليوم وفي ظلّ ما نراه من التجنُّد طواعية من قبل الطوائف الأخرى والغير مُلزَمة بقانون التجنيد الاجباري، هل يُخفف هذا من حدة وطأة الظلم الواقعين تحته؟ ام يُلزّمنا لمضاعفة النضال والتحدي ليشمل فلسطيني الأراضي المحتلة 48 ككل؟

يطيرُ الكاتب في الجزء الثاني لروايته براشد لبلاد الاندلس ليرتاح من أنس الذي حمل هم تهجيره من قريته …. في دمّه وحبر قلمه، ومن جوليا التي لا زالت تسمع قرع اجراس كنائس إقرث في أذنيها، وتمسح سواد المشاحر عن ثيابها، وخجلها بضعف والدها وتعاونه مع دولة الاحتلال … نأى راشد بنفسه عن كلّ هذا ليدرك في لحظة حقيقة، لحظة عرّيّ، أنّ كلّ فرد فينا بداخله هجرة وتهجير ووطن مسلوب وبيت مهدوم وشهيد وأسير، أمام حقيقة سبر اغوارها وهو في البعد الغير البعيد.

فما كان من غرناطة والبيازين إلا أن نزعتا تلك القشة من عينه ليبصر داخله جيدا ليعلم أنه مسكون بالوطن وأنه مظلّل بجناحيّ الوطن. لحظة يقظة صَغُّر الهمّ الخاص أمام عظمة الوطن. امام هيبة فلسطين.

يعود بعد اختفاء وقد اتّقد فكره واشتعل قلبه مع تسارع الاحداث القاهرة تزامنا مع ثورة قلم انس وحيرة سؤال جوليا من وراء الاختفاء، ووجع هزيمة نجلاء، ونضوج سلمان الابن ورفض الخدمة والسجن، حيث لم تشفع له مهنة والدته العاملة الاجتماعية ولا مركز ابيه الطبيب المشهور، كما كانا يشفعان في أيام الدراسة، وفخر مياسة بأبيها الطبيب.

ينتفض الزابود ويغلي دفاعا عن اراضيه، ويصرخ الطبيب نازفا بغضب عمره أكبر من عمر مقولة (امش الحيط الحيط وقول يا رب السترة) صرخة أعمق من صمت جوليا على جرح اغتصابها، من ذوي القربى، وما كان يرمز الكاتب في حادثة الاغتصاب سوى فلسطين، التي ادمتها يد القريب قبل الغريب، والصمت المُعيب.

صرخة أكبر من فِكْرِ الشيوعين والقوميين والاسلاميين.

صرخة مفادها ان لنا فكرنا الخاص بنّا الذي نستميت لأجله لا لأجل أفكارهم التي تبنيناها.

“من هذه العين ، عين الورقة، شرب أجدادنا وسيشرب أحفادنا شاء من شاء وأبى من أبى واللّي مش عاجبه يبلّط البحر”

منذ هذه الصرخة لم تعرف نفس راشد الهدوء، ونذر نفسه لقضيته قضية الحق والعدل.

وفي مسيرة بحثهما؛ جوليا وأنس، عن سرّ اختفاء راشد، وجدا نفسيهما متحابيّن متقاربيّن تسري نسائم البحر والزابود في روحيهما وجسديهما بدفء بمباركة راشد الذي تسامت نفسه رقيّا بحب الوطن.

وكان أن زفّهُ الوطن طبيبا شجاعا معالجا لأطفال الانتفاضة في جنين شهيدا بطلا انتحبت عليه رجال ونساء فلسطين زرافات، زرافات.

رواية مذهلة كتبت بقلم فذّ عاش هذا الواقع المرّ المليء بالتناقضات، والموسوم بظلم ذوي القربى.

كتبت بلغة سلسة تكون أقرب للشعر خاصة في وصف طبيعة الزابود الخلابة، وإن دلّت على شيء فإنما تدلّ على عشق كبير لا يكتب بالكلمات.

“كلّ الكلمات تُضيّع أحرفها وتعجز عن لمّها حين يرى العقل في الزابود ما لا تراه العين …الزابود يُهشّم المقولة “جبل مع جبل لا يلتقيان”.. الزابود شوق وحنين ازليّان وأبديّان بين شقيقين.. أحرق الشوقُ “الجرمق” الاكبر وألهب الحنينُ “عروس” الاصغر في زمن قبل الزمن… فمدّ الجرمق يسراه مبسوطة الراحة تفيض شوقا، ومدّ عروس يمناه مبسوطة الراحة تفيض حنينا، فتعانق الشوق والحنين وفراشُهما أناملُ راحتين تشابكت وغطاؤهما السماء قبلتهُما… وما زال العناق حميميا منذ ذلك الزمن ما قبل الزمن… هذا العناق تقمّص أرضًا خيّرة هي الزابود…”

رواية أيام الغبار تلبدت السماء فيها كثيرا، حملّت سحبها الغبار وأمطرته لم تبخل الريح بمساعدتها، نثرت ونشرت الغبار في كل بيت وساحة وزقاق، طال الغبار الفكر والاقلام حتى باتت الصورة خانقة ضبابيه.

إلّا أنّ النخل يبقى منتصبا صلبًا باسقّا لا تقوى عليه ريح ولا يغطيه غبار.

هكذا قرأت الرواية من عتبة غلافها وهذا ما قرأته بين دفتيّ غلافها.

خالدية أبو جبل

طرعان، الجليل الفلسطيني

6/10/2021

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*