هذا كتاب حسمٍ في القرار ووضوحٍ في الرؤية. لا تردّد ولا مفاضلة ولا حسابات ولا تسويات، ليس في هذا الكتاب دقّة الأكاديميا وحذرها، ولا تردّد المثقّفين وليبراليّتهم، ولا غموض السياسيّين، ولا مساومات التجّار والمُمَوّلين.
منذ بداية الكتاب حتّى نهايته، يعلن المؤلف إنّه “فلسطيني بحكم مولدي، وطني قوميّ عروبي، أعيش تناقضات فلسطينيّتي -الثمان واربعينية- نتاج النكبة وما بعدها، وعلى الرغم من ذلك، لم تضيّع هذه التناقضات بوصلتي، لا في الشأن الفلسطيني ولا في الشأن السوري في سياقنا، ولم اكن بحاجة الى لحظة انتظار كي احسم موقفي منذ باكورة التحرّكات في سوريا، والتي رأيتها منذ البداية، وعبّرت عن رؤيتي كتابةً ووجاهياً، إنّها عدوان على سوريا، الموقع والموقف الاستراتيجيّين في المنطقة، وفي الخندق الأوّل مواجهةً لمشاريع أعداء قضايا الأمّة، وعلى الاقلّ في كلّ ما يتعلق بقضيّة نصفي الآخر الفلسطيني.”
هكذا يدمج الكاتب بين موقفه تجاه ما يجري في سوريا وتجاه ما يجري في فلسطين، على ارتباك المفهوم الجغرافي والسياسي لكلمة فلسطين للأسف. الكاتب يعي لحظته التاريخيّة جيداً وعميقاً، ولهذا، وعلى امتداد الكتاب كلّه، يرى أنّ ما يحدث في سوريا هو محاولة لإعادة انتاج الاحتلالات بعد أن كانت احتلالاً واحداً، ومحاولة لاستيلاد كيانات جديدة في المنطقة، لا تجمع بينها روابط الوطن او القوميّة، ومحاولات لخلخلة النسيج الاجتماعي والثقافي وإعادة تركيبه من جديد على أسس إثنيّة وطائفيّة. الكاتب يرى أنّ ما يجري في سوريا هي ذروة حملة استعماريّة جديدة هدفها النهائي هو احكام السيطرة وشرعنتها بأيدٍ ووجوه محليّة.
الكاتب يقول في كتابه إنّ الهجمة الاستعمارية هذه المرة، أكثر ذكاء وحكمة وأنجع أدوات وأكثر مكراً ودهاء في تفكيك هذه المنطقة. هذه المرة، فإنّ الاستعمار يأتي بشعارات برّاقة، ووجوه محليّة ومثقفين لامعين وفضائيّات محترفة وأموال كثيرة، لا ممنوعة ولا مقطوعة، ويأتي بشرائح ووكلاء ذوي طلاقة وقدرة على الاقناع. هذه المرة ليست كما كان عليه الحال في اتفاقية سايكس بيكو. هذه المرة، لا يتمّ تقسيم الجغرافيا، وإنّما يتمّ تقسيم الديموغرافيا، هذه المرّة يتمّ وضع حدود ثقافيّة حول طوائف هذا الاقليم العربي.
مؤلف هذا الكتاب، يقول إنّنا نحن “اولاد المنطقة” عشنا دائماً مع بعضنا البعض، ضمن تسويات ما، قد تكون مؤلمة في بعض الأحيان، ولكنّنا عشنا معاً، دافعنا عن أوطاننا معاً، وكانت الاختلافات الثقافيّة بيننا عنوان عافية وصحّة.
النسيج الثقافي لأولاد المنطقة كان وما يزال ساحراً وناجعاً ودافعاً للعمل والتنافس الصحّي، إذ أنّ ما يجمع بين “أولاد المنطقة” هو سرديّة واحدة تمّ التنويع عليها والاضافة عليها او الحذف منها، ولكنّ هذه السرديّة التي اكتسبت قداسة عميقة بمرور الزمن، ظلّت تجمع بينهم وما تزال.
أمّا المستعمر الجديد، الذي يمتلك المال والتكنولوجيا والسلاح والمعرفة المعبأ بوهم القوة والسيطرة والاستعلاء، فإنّه يأتي هذه المرّة مسلحاً بفكرة الانتصار النهائي، ومسكوناً بفكرة المعركة الفاصلة الاخيرة. ولهذا رأينا توحشه وإيغاله في دمنا.
مؤلّف هذا الكتاب، وانطلاقاً من هذه الارضيّة يحلّل ويفكّك الظاهرة الاجتماعيّة السياسيّة التي بدأت في الاقليم العربي منذ سنة 2011، ويقرأها من خلال سياسات الغرب الاستعماري، الذي استخدم المفاهيم التي اخترعها هو نفسه بالطريقة التي تناسب مصالحه، فالإرهاب له تفسيرات متعدّدة، وما هو ارهابي في مصر قد لا يكون ارهابيّاً في سوريا، والديموقراطيّة في دول عربيّة معينة لها معنى آخر في دولٍ عربيّة اخرى.
انكشف الغرب الاستعماري خلال ما سمّي بالربيع العربي، سقطت كل أقنعته وافكاره وشعاراته.
الديموقراطيّة الغربيّة هي ديموقراطيّة لها انياب ومخالب ودبّابات وطائرات، وهي اداة لمن اخترعها، يستخدمها متى يشاء ويعطلها متى يشاء ويفسرّها كيف يشاء.
في مسرحيّة لي بعنوان “المستوطنة السعيدة” صدرت قبل 6 سنوات قلت فيها إنّ الغرب الاستعماري -لاستعلائه وعنصريتّه – لم يضع شعاراته وحتّى فنونه حتّى تستمتع بها الشعوب الفقيرة والمحتلّة. وإنّما تحوّلت بفعل الممارسة الى أدوات سيطرة ناعمة جديدة.
هذا الكتاب -بعقليّة نقديّه وجدليّة- يتصدّى للأحداث والظواهر التي رافقت ما سمّي بالربيع العربي، وعلاقة ذلك بإعادة الحسابات من قبل قوى الاستعمار، من خلال انحلال البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية القديمة وحلول اخرى جديدة مكانها، وانعكاس ذلك كلّه على الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. يقول الكاتب إنّنا ندفع ثمن هزائم المنطقة وتراجعها. وندفع ثمن انكفاء العالم وتخلّيه عن قيمِه أيضاً.
رصد الكتاب لحظات تحوّل تاريخي كبير، كُسرت فيه الشعارات الكبيرة والكاريزميّات الشاملة، وظهرت فيه الاسئلة الصغيرة والكيانات الصغيرة.
هذا الكتاب – على رعب الاكتشاف – يقول إنّ ما ناضلنا من أجله وآمنا به دائماً، ينهار دفعة واحدة، وكأنّ كلّ شيء كان وهماً.
المدهش والمفرح معاً، أنّ الكاتب ورغم قتامة الصورة ورعب التفاصيل، يدعونا الى أن نؤمن بما يؤمن به، وهو شعار” ارفع رأسك يا أخي”.
نعم، في لحظة انكسارٍ وتوحّشٍ مثل هذه، لا بدّ من استنهاض الأقوى والأبقى فينا، إنّنا اولاد المنطقة، الذين لن نغادرها ابداً.
***د. أحمد رفيق عوض أستاذ الإعلام في جامعة القدس، روائي وباحث أكاديمي، محلل سياسي. أصدر أكثر من خمسة وثلاثين كتابًا في الأدب والسياسة والاعلام، تُرجمت بعض أعماله الى الإنجليزيّة والإيطاليّة. حاصل على جوائز عربيّة وأجنبيّة. شغل مناصب عديدة في هيئة الإذاعة والتلفزيون الفلسطينيّة، وبيت الشعر الفلسطيني، ووزارة الثقافة والمجلس الأعلى للتربية والثقافة. عمل في الصحافة مترجمًا ومحرّرا ورئيس تحرير. الآن رئيس بيت المقدس للأدب.
1 آذار 2020