سعيد نفّاع بين القوالب الجاهزة و”الآنية مشرّعة الفوّهة!” د. محمد هيبي

 

لا حدود لما يُمكن أن يُكتب أو يُقال حول نصّ مهما كان قصيرا، فما بالك إذا كان النصّ رواية.

سعيد نفّاع إنسان عارك الحياة وعركته الحياة، فلا عجب أن يلجأ للكتابة، ليُبقي للأيام عصارة معركته مع أعداء الحياة، ولينقلها لأجيالنا، كما جاء في “جلبوعياته”، على لسان أحد تلامذته، أنّ النضال يصبّ في صالح الوطن، وأنّ الحلم وإن طال تحقيقه يبشّرُ بقربه. وأن الدين أو العرق أو المذهب أو المعتقد ليس إلّا فردا، وأن الوطن أكبر من أن يكون فردا. وعلى لسان تلميذ آخر: “علمْتَنا أنّ التضحية مبتدأ أول وحبّ الشعب مبتدأ ثانٍ”. طلاب نفّاع من الأسرى الفلسطينيين في السجن، فهموا شخصيّته التي لا ازدواجيّة فيها، شخصيته كما رأيناها نحن، فهي تظهر في كتاباته كما تظهر في أفعاله.

سعيد نفّاع لم يتوقّف عند إصدار مجموعاته القصصية، بل فاجأنا رغم سجنه، بروايته “وطني يكشف عُريي”، الصادرة عن “دار الأماني” لصاحبها الكاتب مفيد صيداوي الذي أخذ على عاتقه مهمّة إصدارها. وقد حمل الصيداوي الأمانة وأدّى واجبه تجاه الرواية وتجاه صاحبها، وتجاه الأدب والقارئ. وأنا على ثقة أنّ “نفاع”، عندما بلغه نبأ صدور روايته، تضاعفت قدرته على احتمال ظلم السجّان وقيد السجن وظلامه، رغم معرفتنا الأكيدة، أنّه كان كذلك قبل دخوله السجن وقبل صدور الرواية. فهو إنسان وطني عوده مرّ، وكاتب لم ينحنِ للريح وإملاءات السلطة قبل سجنه، ولم ينحنِ في السجن، ولن ينحني بعده. كتاباته وتفضيله السجن على الانحناء والتدجين، خير شاهد على ذلك.

رواية “وطني يكشف عُريي” هي خطوة إلى الأمام في إبداع سعيد نفّاع، أستطيع أن أقول إنّه اخترق بها خطّ التواضع الفنّي الذي لمسناه في مجموعاته القصصية. هنا يتعامل نفّاع مع عناصر الرواية الفنيّة من زمان ومكان وشخصيات وأحداث لا تخلو من ترابط، يسردها راوٍ كلّي المعرفة يحمل ملامح الكاتب ومواقفه.

ولا أدري لماذا اختار نفّاع أن يُذيّل عنوان روايته بمصطلح “روانصّية”؟ لعلّه بنحت المصطلح قصد أنّها نصّ لا يخضع لقوانين الرواية التي نعرفها. وقد اعترف في المقدّمة أنّه لا يُبالي بالقوالب (الشكل الفنّي) التي أتعبته، وليكسو بعض عُريِه، راح يبحث عنها في كؤوس (قوالب) من سبقوه (من روائيين وغيرهم)، فاستعار كؤوسهم لصبّ بعض فصول روايته. يقول: “ولم يشغله كثيرا رفض خفر السواحل عندما كان القارب يميل نحو إحداها لاجئا تعبا، مدّ يد العون، مبرّرا ذلك بغياب مفعولية جوازيهما، ولا حتى لالتقاط أنفاس بعد هول أنواء” (ص 44). هذا القول ذكّرني بنهاية رواية “حبّ في زمن الكوليرا” لمركيز. والبعض الذي لم تقبله تلك الكؤوس، صبّه، كما قال، “في آنية مشرّعة الفوهة” (ص 6)، أي مفتوحة على أن تكون مقبولة أو غير مقبولة. ومن هنا، يبدو لي أنّ نفّاع وإنّ كان يعي أنّ الأدب يسعى إلى الارتقاء بوعي القارئ وتطوير مداركه، ويعي أيضا ضرورة التجريب لما فيه من تجديد وتميّز في النصّ شكلا ومضمونا، يعترف أنّه ذهب في تجريبه باتجاهين مختلفين: الأول، اعتماده قوالب تجريبية سابقة، لا بقصد نسخها، وإنّما للإفادة منها والخروج عليها عند اللزوم. والثاني، الشكل المفتوح، أو ما أسماه هو “الفوهة المشرّعة”. ولكن، بغضّ النظر عن هذا وذاك، ذلك لا يستدعي تذييل العنوان بـ “روانصّية”؟ لأنّ كل رواية هي رواية نصّية، وهذا التذييل ساهم فقط بتشويش انتباه القارئ. وقد يكون محاولة للتهرّب من النقد، بمعنى إذا عاب النقّاد الرواية، يستطيع الكاتب أن يقول: “هذا نصّ رواية وليس رواية”، حيث يقول: “عزيزي القارئ، الكؤوس، إن سألتني عن الاسم الذي اخترته لقلت لك “روانصّية” (ص 6). لذلك، أراني لا أجانب الحقيقة فيما ذكرت، لأنّ سعيد نفّاع يعترف بتواضع، أنّ الأشكال والقوالب الفنّية متعِبة، ولا يُريدنا أن “نآخذه” عليها. ولكن، كما أنّ لسان سعيد نفّاع يسطع بالحقيقة، لا يرحم، ولا يخشى في الحقّ لومة لائم، وهذا بلا شك من مناقبه، فإنّ النقد البنّاء الجادّ لا يرحم أيضا، ويجب أن يقول كلمته لكي يصعد سعيد نفّاع في أبداعه القادم، درجة أخرى كالتي صعدها في هذه الرواية التي تُشكّل قفزة نوعية في سرده.

“وطني يكشف عُريي”، هذا العنوان يشي بمضمون الرواية وبما سيقْدِم عليه الكاتب من كشف وفضح، وتعرية للمجتمع من خلال تعريته لشخصيات الرواية، وخاصة “أنس البكري” و”راشد”. الشخصيات النسائية في الرواية، وخاصة “جوليا” و”نجلاء”، وظفهما الكاتب كعامل مساعد على التعرية. وكذلك لطرح مشكلة المرأة العربية وما تعانيه من ظلم المجتمع الذكوري المتخلّف الذي يراها ملكا للرجل، له الحقّ في أن يتعامل معها كما يشاء دون أدنى اعتبار لإنسانيتها وحريتها. ومن خلال ذلك، يُدرك القارئ موقف نفّاع الإيجابي من المرأة، وضرورة كونها شريكا ورفيقا للرجل، ولا يصلح المجتمع بدون أن يرقى إلى مثل هذا الموقف، فكرا وممارسة.

يبدأ الكاتب روايته بفصل أراه حاملا للسرد، وهو أقرب إلى الميتا قصّ، حيث يعترف فيه أنّ الحكاية التي تتمحور حولها الرواية، ولدت مبتورة، لأنّ قصة “راشد” مع “جوليا”، التي هي لبّ الرواية، “عجز (أنس) رغم صراعه المستحيل مع “راشد” أن يتمّ القصة، وانتهت القصة عند هذا الحدّ، على أن يكسو عُريه وراشدا الذي أراده عرّابا لخيانة الوطن في العمل القادم” (ص 8). وفيما يعرضه الكاتب في هذا الفصل، غموض لا يكشفه ما تبقّى من نصّ الرواية. وتنتهي الرواية دون أن يعرف القارئ كيف انتهت قصة “راشد” و”جوليا” التي استمرّت من بداية الفصل الثاني (ص 9) حتى نهاية الفصل الثامن عشر (ص 118). بعدها يفاجئنا الكاتب أنّ للقصة تتمة (ص 119)، رغم أنّه أبلغنا سابقا أنّها لن تتم إلّا في عمل قادم. وحين نقرأ هذه التتمّة نجد أنّها جزء لا يتجزّأ من الرواية، حدث في زمنها الموضوعي والنفسي معا. هذه التتمة، بعضها يحكي قصة “أنس” وعلاقته بـ “جوليا”، والصراع الذي أورثته هذه العلاقة في نفسه: هل خان صديقه بتلك العلاقة أم لا؟ وبعده يأخذ “أنس” صديقه “راشد” ليُشاهد المسرحية التي كتبها وكشف عُريه فيها، فاغتنم “راشد” فرصة صعود “أنس” إلى المنصّة، وهرب إلى البحر، ثم تبعه “أنس”. وهناك كان يجب أن تنتهي القصة كما أبلغنا في الفصل الأول إلّا أنّها لم تنته، إذ يفاجئنا الكاتب مرة أخرى بفصلين يفضحان الخيانة بين الأصدقاء، وبفصل أخير بعنوان “الخاتمة”، يتحدّث عن ضبابية الحالة التي عاشها الصديقان بعد الاعتراف. وينتهي الثاني منهما بعبارة تؤكّد هذه الضبابية ولا تقلّ ضبابية عنها، “وظلّت القصة يتيمة”، وهي في رأيي، نفس الضبابية المستمرّة التي تكتنف حياة مجتمعنا. وفقط بعد قراءة الفصلين الأخيرين من الرواية، نتأكّد أنّ الخيانة بكل أشكالها والتي خيّم شبحها على الرواية كلّها: خيانة الزوج وخيانة الحبيب وخيانة الصديق وخيانة الوطن، هي الهمّ الذي يشغل سعيد نفّاع ويقّض مضجعه، لأنّ الخيانة كما يراها نفّاع، متأصلة في مجتمعنا بشكل مقلق، وهي لا تتجزّأ، لأنّ خيانة واحدة، سوف تجرّ وراءها كل الأشكال الأخرى. هذا فضلا عن وجود علاقات حميمية يستهجنها نفّاع، تربط بين الخونة وغير الخونة، وكأنّ الخيانة غير موجودة، أو كأنّها شيء عاديّ، أو شيء لا بدّ منه ليستكمل هذا المجتمع صورته التي يستهجنها الكاتب ويفضحها.

من خلال الشخصيات والعلاقات بينها، تتحدّث الرواية عن الأقلية العربية داخل إسرائيل، أو بعض شرائحها، وعن نسيج العلاقات بين مركّباتها، وتستغرب كيف يكون الحبّ والعلاقات الحميمية في مجتمع تقتله المظاهر وينخره سوس الخيانة؟ ويستغرب الكاتب في روايته أكثر: تعامل بعض شرائح المجتمع، المتمثلة بالشخصيات، مع الخيانة وكأنّها أمر مفروغ منه، وكيف أنّ الخائن يرى خيانات الجميع ولا يرى خياناته؟ أو كيف يُدين خيانات الآخرين ويغفر خياناته؟ أو كيف تسمح له علاقاته بإدانة خيانات بعض الناس، والصفح عن خيانات بعض آخر؟ كل ذلك يجعلنا نعتقد أنّ الكاتب ينظر إلى الراهن المحليّ، وربما العربي عامة، على أنّه راهن مخجل، خاصة عندما يقارنه مع التاريخي، يُصوّره كيف يخجل من الراهن حين يقول: “سمعت بكاء مريرا شدّني مصدره وإذا بي أمام حشد ضخم ميّزت فيه خالدا (بن الوليد) وصلاح الدين والمختار والأطرش (سلطان باشا الأطرش) والقسام وجمال الدين وابن رشد وابن سينا والفارابي وأبا العلاء والمتنبي وأبا فراس، يعفّرون رؤوسهم بالتراب” (ص 28). وهنا يُطرح السؤال: لماذا يُعفّرون رؤوسهم بالتراب؟ ولا أجد جوابا إلّا خجلهم من هذا التحوّل فيما يحدث لنا اليوم، أو مما آلت إليه حالنا؟

من خلال شخصية “أنس” ومسرحيته، يُعرّى الكاتب خيانة “راشد” للوطن، وخيانة “أنس”، لصديقه “راشد”، باعتباره أنّ عدم ردعه صديقه “راشد” عن خياناته هو بحدّ ذاته خيانة. فهو لم يردّه عن خيانة الوطن، ولا عن خيانة زوجته عندما سكت عن علاقته بـ “جوليا”، ولا عن خيانته لعشيقته “جوليا”. ولم تُخبرنا الرواية عن موقف “أنس” من عقاب “راشد” لـ “جوليا” على خيانة لا ندري إذا قامت بها “جوليا” فعلا أم لا!

وتظهر الخيانة أكثر من خلال شخصية “راشد” الذي اهتمّ بقضاياه الشخصية ولم يهتمّ بقضية الوطن الذي اغتصب وشرّد أهله. وخان كذلك قريته التي تركها بعد أن أكمل دراسته وغادرها إلى حيفا منكرا فضلها عليه ناسيا حاجتها له. وخان زوجته وأولاده عندما تركهم ليسكن مع عشيقته في حيفا. وخان عشيقته التي وثقت به وباحت له بأكبر أسرارها. والأهمّ من ذلك كله، أنّه لم يلتفت لأيّ من خياناته كما التفت لخسارته عشيقته “جوليا” التي اعتبرها ملكا له، صَعُب عليه أن يخسره!

وتظهر الخيانة بشكل آخر أيضا، في اغتصاب الخال لـ “جوليا” ابنة أخته. وفي هذه الخيانة، إشارة واضحة إلى ظاهرة سِفاح المحارم في المجتمعات الذكورية المتخلّفة. فإمّا أنّ تكون هذه الظاهرة آخذة في الاتساع في مجتمعنا بشكل مقلق أثار الكتّاب. فقد قرأت أكثر من رواية محلية اهتمّت بهذه الظاهرة. وإمّا أنّ سعيد نفّاع يرى في حالتنا الاجتماعية والسياسية، حالة تشبه سفاح المحارم.

ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فهناك خيانات تبقى غامضة. يظهر ذلك من تصرّف “جوليا” التي صرّحت برغبتها بزيارة صديق مجهول، ثم باستقباله في بيتها. والغريب أنّها في الحالين استأذنت “راشد”، والأغرب أنّه وافق رغم أنّه لم يكن راضيا. والقارئ لم يرَ ذلك الصديق في الرواية، ولم يعرف إذا كان مزعوما أو حقيقيا، وهل تمّت الزيارتان أم لا؟ ولكن، مجرد حديث “جوليا” عن الزيارتين كان كافيا ليعتبرها “راشد” خائنة ويجب عقابها. وفي هذا، يُعالج الكاتب قضيتين هامّتين: يفضح في الأولى كيف يتعامل المجتمع الذكوري المتخلّف مع المرأة عامة، سواء كانت زوجة أو عشيقة أو غير ذلك. ويفضح في الثانية: كيف يكفي الشكّ لنحكم بالإعدام على من نشكّ به قبل إثبات التهمة، وخاصة إذا كان المتّهم امرأة في مجتمع قتلته ذكوريته ودمّره التخلّف.

وعود على بدء. “أنس” و”راشد” صديقان منذ الطفولة، تربطهما علاقة قوية رغم ما بينهما من خلاف واختلاف وخيانات. “أنس” الذي عرّى صديقه، يعيش صراعا: هل خان هو صديقه أم لا، وأيّة خيانة هذه، ما دام صديقه “راشد” غارقا في الخيانة بكل أشكالها؟ تبدأ الرواية من النهاية، “بولادة مسرحية كتبها (أنس) بعصارة قلبه، لولا أنّ العراب المختار (راشد) دون علمه فرّ باكيا وأبكاه جارّا إياه إلى البحر” (ص 7). فقد وجد المسرحية تُعرّيه وتؤلمه، خاصة عندما علم أنّ كاتبها هو صديقه “أنس”. عندها فرّ إلى البحر فتبعه “أنس”، وهناك حدثت المواجهة أو المحاسبة أو المعاتبة أو كما قال سعيد نفّاع “سمّها ما شئت”. والأهمّ أنّها لم تنتهِ إلى شيء حاسم.

ورغم أنّ الكاتب أنهى الرواية بفصلين كشف فيهما أشكالا من الخيانة كانت غامضة، إلّا أنّه ختم “الخاتمة” بـ “وظلّت القصة يتيمة” (ص 161). وهذا، كما يظهر لي، يُشير إلى تميّز مجتمعنا، حيث يبقي كل شيء مفتوحا، لأنّه أعجز من أن يُغلق أيّ شيء، سلبا كان أم إيجابا. فالعلاقات الحميمية ستستمرّ، والخيانات كذلك ستستمرّ. ولا يلوح، في أفق الكاتب على الأقلّ، بارقة أمل تعدنا بالتغيير الذي نسعى إليه.

وأخلص إلى القول: سعيد نفّاع في هذه الرواية، خطا باتجاه فنيّة السرد وبناء أشكاله، خطوة تستحقّ الذكر والتكريم. وهو في كلّ أشكال إبداعه، يظلّ كاتبا صاحب فكر، وفي جعبته الكثير مما يستحقّ أن يُدفق في قوالب فنيّة ترقى إلى مصافّ الإبداع. ولذلك، لا يسعنا إلّا أن نثني على خوضه تجربة إبداعية أخرى، حقّقت قفزة ملموسة، شكلا ومضمونا، وفيها من جرأة الاعتراف ما لا يقدر عليه كثر من مبدعي أيامنا. كما أنني أعتقد أنّ خوضه تجربة السجن وما تحمله من معاناة ورموز، سيفتح أمامه آفاقا إبداعية جديدة، لن تتأخّر لتظهر في يوم قريب.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*