كتبها قبل ان يدخل السجن، كأنه يعرف انه ذاهب الى هناك، كأنه يقول ” سأصب عصارة فكري وخلاصة ما توصل اليه قلمي”، الى القارئ او الى الانسان الذي لا يستطيع الابتعاد عنه، كأنه يتحدى سجانا قد حكم على قلمه قبل جسده وحكم على جسده قبل روحه ان يقبعا خلف القضبان فحلق سعيد نفاع حرا طليقا في سماء الحرية التي لا تستطيع ولن تستطيع اسكات الاحرار حتى من خلف القضبان.
كأن سعيد نفاع بهذه الرواية يتحدى السجن والسجان، حتى قبل دخوله السجن، كأنه ينبه الى انهم يستطيعون سجن الجسد ولكنهم لن يسجنوا الفكر، فسعيد يرفض ان يقبع في السجن دون ان يقترف ذنبا الا انه أراد ان يتواصل مع أبناء شعبه في سوريا، فراحت روحه وفكره ووجدانه يحلق في سماء شعبه تاركا السجان مسجونا بحقده وجهله لان الروح لا يمكنهم سجنها.
من الصعب التخلص من عصارة سعيد نفاع ” وطني يكشف عريي ” دون قراءتها مرة واثنتين وربما ثلاث مرات وفي كل مرة تكتشف، عمق الفكر وثقافة هذا الكاتب، وعمق روايته الرائعة اذ يعتبرها عصارة ما اضطلع عليه من فكر المفكرين وفلسفة الفلاسفة الذين يذكرهم وما استخلصه من تجربة عبر السنين فيذكر في مقدمته الرائعة للرواية الكتاب والادباء والفلاسفة العالميين الذين قرا كتبهم وشرب من كؤوس فكرهم أمثال غابريل غارسيا ماركسز، وامين الزاوي، وانطون تشيخوف، وسليمان رحيموف، والطيب صالح وحنا مينا وجوستاف فلوبير وغيرهم.
ومن هنا نستشف مزيج روايته، ومن هنا استخلص روايته اذ يقول ” ووجدتني وبعد لأي، اصرخ “يوريكا ” ص. 6 (ويوريكا وتعني وجدتها، هذه هي قصة ارخميدس المشهورة عندما صاح امام الملك عندما اكتشف قانون الاجسام الطافية على الماء وبعد تفكير وتمحيص وتجارب: وجدتها … وجدتها). ويكمل سعيد نفاع ” ورحت أصب في كل كاس بعضا منها فقبلتها والبعض الذي لم تقبله الكؤوس صببته في انية مشرعة الفوهة، وها انا أقدم لك عزيزي القارئ، الكؤوس والانية وفيها العصارة، وان سألتني عن الاسم الذي اخترته للعصارة لقلت لك روانصية “. (ص. 6) وهو بذلك يعلن انه يكتب رواية مختلفة، لا تخضع لقوانين الروايات.
من الصعب ان تكتفي بقراءة الرواية مرة واحدة فقط، ستجتاحك فورا عشرات الأسئلة، ستقف وتفكر طويلا بكل كلمة بكل جملة بكل فقرة، وستقف حائرا هل قرات رواية جميلة هادفة لها رسالة عميقة ام أنك قرات نصا فلسفيا عميقا بحاجة لإعادة القراءة كي تستوعب ما يقوله الكاتب؟ وفي كلا الحالتين ينتابك شعورا من المتعة والسعادة في كل كلمة في الرواية فهي تشدك اليها بكل قوة، وتأخذك الى عوالم شتى لتدخلك في مواضيع مختلفة.
يقطف سعيد نفاع من كل بستان زهرة ليغرسها في بستان روايته فيجعلها حديقة غناء يتمتع بجمالها كل من يدخلها، فهو يمزج بشكل ساحر ورقيق، كل أنواع العلوم الإنسانية القديمة والحديثة ليصبها جميعا في قالب روايته، فيتحدث في الفلسفة وعلم النفس والتاريخ، والوطنية، والقومية، والادب والشعر.
يتحدث عن افروديت ربة الجمال والعشق والخصوبة، ويرى فيها الزوجة والام والوطن ويصرح “واعطتها ليلة افروديت وطنا” (ص 37) يتحدث عن التاريخ والتراث العربي الضائع, فيذكر “قرطبة واشبيلية وغرناطة الاندلس وفيها ولادة بنت المستكفي, وابن زيدون وابن رشد” (ص. 40 ) ويتحدث عن تاريخ العرب وثقافتهم فيبكيهم من خلا بكاء يسمعه فيقول ” ” سمعت بكاء مريرا شدني مصدره واذا بي امام حشد ضخم ميزت فيه خالدا (المقصود بن الوليد) وصلاح الدين والمختار والاطرش والقسام وجمال الدين وابن رشد وابن سينا والفارابي وابا العلاء والمتنبي وابا فراس يعفرون رؤوسهم بالتراب”
يتحدث عن مفهوم الخيانة كفعل ارادي لا يقبله البشر كما يقبل البكاء والالم كفعل لا ارادي فيقول” إذا اصطلحت كل شعوب الأرض ان الخيانة هي في اعطائك ما هو حق عليك لغيرك …. صار حقا كليا ووحدويا له واعطائك إياه هو فعل لم يقبله البشر، أطلقوا عليه اسم الخيانة.
وأخيرا يعرف سعيد نفاع شخصيات روايته الصديقين راشد وانس كشخصين مختلفين في السياسة ويبقيا أصدقاء لم يستطع الزمن ان يفرق بينهما فيقول ” فراشد كان وبقي طويلا والى ان عراه الوطن من دعاة العين ما بتلاطم المخرز والحيط الحيط ويا رب السترة وألف ام تبكي ولا امي تدمع “. حتى عندما استطاع ان يحرر نفسه من الخدمة العسكرية المفروضة عليه كما شباب بلدته لم يفعلها …. وفر على امه دموعا سكبتها اخريات. اما انس المهجر اهله من البروة، فكان على النقيض ولولا الله ستر لكان طرد من المدرسة شر طرد وأكثر من مرة”.
بقي ان أقول ان استعراضي للرواية ليس كناقد ولكن استعرضه كأمين مكتبة يعشق الكتاب ويرى فيه قضية ورسالة يحملها الكاتب ليوصلها الى القارئ، وهذا يحفزني على كتابة كل ما هو راق وجميل.
كتبت قبل خروجه من السجن .