أيّام الغبار : سعيد نفاع
مداخلة: 28.6.2022
رياض مخول
- لا يمكننا في خلال عشرين دقيقة في هذه المداخلة أن نلمّ بكلّ ما تحتويه هذه الرواية من دلالات ورموز وتقنيّات أسلوبيّة متنوّعة، والرواية في الحقيقة غنيّة بما فيها من ذلك، شموليّة في طروحاتها المتعدّدة، وسنقوم إن شاء الله في تفصيل كلّ ذلك في بحث خاصّ في القريب العاجل، حيث سيُفصّل ذلك بما سنقدّمه في هذه المداخلة.
ثنائيّة روائيّة:
- رواية “أيّام الغبار” وتوأمها البكر ” وطني يكسو عُريي” الّتي ولدت أيّام أسر الكاتب هي مشروع تاريخيّ:
يقول الكاتب في آخر فِقرة من تقديمه للرواية: ” ظلّت العصارة، التوأم البكر، ولطبيعة ولادتها خلال “أيّام الأسر” تترك في الحلوق، حلقي، وحلوق بعض القراء، طمعًا تائقًا ملحاحًا يستصرخ توأمه الظلّ متخلّفًا لا يلبّي. وها هو يُلبّي آنيته رواية لم يتنازل فيها كليًّا عن النصيّة الّتي قاسى بعض الشيء منها توأمه البكر، وأمّا العصارة فنازعت الأولى الاسم والغطاء: “وطني يكسو عُريي”، ولكنّ التوأمين وعن طيب خاطر قبلا اسمًا مشتركًا ” أيّام الغبار”.
قصّة الحبّ وما فيها من غبار بين راشد وجوليا الّتي أخذت حيّزًا لا بأس في الرواية هي قصّة إطار لا غير، هي في أساسها وفي بدايتها، وهكذا في نهايتها مثّلت بعدًا رمزيًّا إنسانيًّا هو الإخلاص للأرض والوطن والاتحاد والتضحية من أجل أن يعيش الجميع في الوطن الواحد على اختلاف مشاربهم وانتمائهم وطوائفهم في أمن وهدوء بلا غبار، أو في حرّ صحراويّ فكريّ يعكّر صفوهم.
هذا العنوان المركّب بإيحاءاته الكثيرة، الجامع لتوأمين يحمل موقفًا ايديولوجيًّا يتداخل فيه الغبار كمادة وكرمز مع المكان والزمان والشخصيّات، هو غبار سيطر على جغرافيّة فلسطين في أيّام سوداويّة مظلمة… الغبار يحاصر البلاد قادمًا من غيرها ومنها… هو في الأساس محاصرة للنفس الفلسطينيّة.
أيّام، دالة زمنيّة يجمع فيها الكاتب الماضي والحاضر، وهي طويلة ممتدّة، هي أيّام الوطن؛ أيّام الإنسان الفلسطينيّ المغبرّة؛ أيام الاغتراب والشتات والتهجير والحصار والاعتداءات، وسلب الأرض والتهويد، وعذاب التذكّر واسترجاع الماضي.
أمّا الغبار فهو دالّة مشتقّة من التراب، هو مادّة من الأرض، من المكان، يتطاير على الدوام كلّما هبّت عليه ريح، والمكان هنا هو الوطن، يتفتّت ويُعرّض للتذرية والتلاشي بفعل ريح، والتراب بهذا المعنى صورة هشّة واهية ضعيفة للمكان وشخصيّاته وإنسانه الّذي يعيش فيه، هو مكان غير متين، غير ثابت، غير مستقرّ، مليء بالقلق والتوتّر؛ وليس مصادفة يستخدم الكاتب كثيرًا من ألفاظ طبيعة الصحراء القاسية المتغيّرة غير الثابتة مثل “يبحث عن نقطة ماء في هذا التصحّر الخانق” ” تفرّقوا أيدي سبأ” ” الفرقة تضرب أطنابًا” ” تدلي بدلوها”، ” غبار داحس والغبراء”، ” الغبار الصحراوي”، ” الغبار في إقباله وإدباره”، ” ولا مطر بائن في الأفق يجلوه”،” البلاد تغلي كالمرجَل”
لفظة الغبار ومشتقاته تكرّرت 25 مرّة في حلقة أيّام الغبار رقم 16، ص 240- 243. وفي ثمانية مواضعَ أخرى في الرواية؛ وتفصيلًا لذلك، وبعدما يسرد ما يحدث من أحداث في لبنان والضفة وغزّة والنقب ويافا والناصرة ينكشف متألّمًا من موقف العرب الّذين تفرّقوا أيدي سبأ في صحراء العرب، كما ينقل لنا موقفًا واقعيًّا غريبًا لياسر عرفات يقول: ” حيث الفرقة تضرب أطنابًا لها في الصفوف تستصرخ براغ”. ثمّ يذكر الجزائر ورئيسها الشاذليّ وموقفه من القضيّة الفلسطينيّة رغبة منه لاستعادة لحمة الوحدة الفلسطينيّة. ثمّ ينتقل إلى الداخل إلى حكومة الوحدة الوطنيّة (بيرس-شمير)، وقرار الانسحاب من لبنان تدريجيًّا بعد الخراب الّذي خلّفوه، والبلاد هنا تغلي كالمرجل حيث بيرس والحسين يوقّعان اتفاق لندن.
في ظلّ هذه التوثيقات نرى الغبار ينتشر بين ثنايا الوصف المؤلم وتصوير المشاهد الموشّحة بغبار ثقيل يدلّ على الغياب وثقل الخيبات من الصعوبة تلاشيه، وهكذا ينتشر الغبار في المشاهد، في كلّ مكان وزمان، وكل وصف أورده الكاتب له دلالاته وعمقه، فلا يمكن التغافل أو حذفه عنه أثناء عرضنا:
- “غبار داحس والغبراء بين الحزب الشيوعيّ والتقدميّة يخالط رمال النقب مثقلًا الخيام والصفيح، ويعكّر صفو العجميّ في يافا ويزيد من احتراق الفقر في اللد والرملة”
- ” وباقة الغربيّة لم تعد ترى الشرقيّة خلف سحبه”.
- ” ودار الحنّون ودار السهلة يكاد الغبار يمحو أثر طريقهما إلى عارة وعرعرة”
- ” واغبرّ منظر البحر في وجه وادي النسناس، والصليب والجمال والحليصة، ولم تعد عكا تصبّحها وتمسّيها، ولم تعد ترى قلعة الظاهر في شفاعمرو حي مرشان الغربيّ”.
- ” وكثّف هذا الغبار ذلك الّذي جاء من لبنان قبله، وما زالت تحمله رياح شماليّة على غير عادتها، وهي الّتي تحمل عادة الغيث لا الغبار الملوّث”.
- ” وغابت عن البطوف والملّ والشاغور والجرمق والزابود يئنّان من ثقل هذا الغبار على أغصان السنديان والملّ والبطم والقاتل، والشيح والقندول والسريس والعبهر على قممهما”.
- ” والطلاب العائدون من جامعات الشرق مليئة جعبهم، وجوههم كاشحة، يكتمون أكثر ممّا يفصحون والغبار ملأ كلماتهم”.
- ” كلّ هذا الغبار الصحراويّ والّذي تثقل خيباته الأجواء والأنفاس” يتماثل مع الدخان الّذي كان ينفثه أنس وهو يدخّن في غرفته.” الدخان الّذي كان يتصاعد تباعًا من فم أنس مكثّفًا بدخان سجائره الّتي كان يحرقها تباعًا”. لكنّ أنس كان يحدوه أمل أنّ هذا الغبار سيزول عمّا قريب، ولكنّ ذلك لم يتحقّق له؛ يقول: ” سيجلو غيث هذا الغبار عاجلًا أو آجلًا”. بعدها “قام أنس وخرج وظلّ الغبار الّذي خال نفسه بكلماته الّتي خطّها انجلى، ظلّ يملأ عقله وقلبه وتفكيره…
- “غبار الأيّام هذه الّذي كاد يخنق أنس لم تكن جوليا تراه بالكثافة الّتي رآها فيه انس، ربّما تكسّر هذا الغبار على حياتها كما النصال على النصال في جسد المتنبي”
- ” غبار الأيام هذا والّذي كان يخنق أنس يبدو أنّه تخطّى راشد… عند هذا الحدّ حين حطّ راشد على رأسه متسللًا بين الغبار عاد إلى نفسه مسائلًا: ” أو ليست أيام جوليا مغبرّة هي الأخرى؟ أوليست أيام راشد وأيامهما معًا مغبرّة هي الأخرى؟ أصلًا هل في هذه الحياة؛ حياتنا يوم لا يشوّه وجهَه الغبارُ في إقباله وفي إدباره! وهل فعلًا هنالك غيث آتٍ؟! وإن أتى هل سيكون قادرًا أن يجلو الغبار عنّا ؟!
- غير أنّ هذا الغبار من نوع آخر جعلا صورة راشد غير واضحة المعالم… كما في اللقاءات الكثيرة الّتي تواترت بينها وبين أنس صارت صورته وأخباره تضمحلّ، لا بل اضمحلّت إلى حدّ بعيد غيّبها الغبار، وإذا خطرت من بين الحبيبات الصفراء يخطر من باب ” العيش والملح” لما للعيش والملح من قيمة عند من يحمل قيمًا في أيام الغبار هذه”
- ” إنّ راشد قطع كلّ اتصال بأنس منذ آخر زيارة، وتخمين أنس غداتها أنّه لا بدّ أن يتّصل بجوليا، كان قد لفّه أيضًا غبار الأيام الثقيل هذا، ولا مطر بائن في الأفق يجلوه”
ثمّ نجد استخدامًا لمفهوم الغبار كموتيف بين ثنايا المشاهد إلى نهاية الرواية، ففي ص 244 بعد حلقة أيام الغبار يجلس أنس مسترخيًا على سريره منهكًا يعيش استرجاعًا، ” شيء ما أوقف شريط التذكار عند هذا التساؤل الّذي كان أتبع به ما كان يرى، ووجد نفسه يحوّره: ” أو ليس حرامًا أن تبخل الدنيا ببعض غيثها إلى هذا الجمال تزيل عنه ومن حوله الغبار؟! فهل خلق الجمال ليذوي عطشًا أو مقتولًا يخنقه الغبار؟!”
وفي ص 295 ” وفي أقصى اليسار كانت بحيرة طبريا ترقد مغبرّة وخلفها هضبة الجولان…. إلى جبال عجلون في الجنوب، والطور والناصرة من اليمين وخلفها جرازيم وعيبال والكرمل من منبعه إلى مصبّه والخليج لامعًا امامه، وعكا وقبله البروة لائذتان في أقصى اليمين وراء الهضاب الفاصلة الشاغور عن السهل الساحلي”.
وفي موضع آخر ص 296 ” هكذا رسم أنس المشهد … والسيارة تقاسي عثرات الطريق الترابيّة المغبرّ كلّ ما حوله من أشجار بريّة وجويّة…..”
وفي ص 342 ” صيف حارّ يقول: ” كان صيف ذاك العام 1987حارًّا وعواصف الغبار الّتي لا تريد ان تبرح، أجّجت حرارته، طغى بحرارته وغباره على برودة الخريف الّذي انهزم أمام الدفق الحار المغبرّ”
وانتشر الحرّ وبخاره الحارق المختلط بالغبار في كلّ مكان ” يوم المساواة” في الداخل الفلسطينيّ يتفاعل وفودًا جرّارة حامية القلوب على هضاب الزابود… في الشتات منظّمة التحرير تتعافى، اتفاق بيرس الحسين اللّندنيّ يولد ميتًا… الأردنّ يفكّ الارتباط بفلسطين… والمرجل الفلسطينيّ في القدس وغزّة ونابلس ورام الله ينتشر بخاره الحارق في كلّ الأرجاء. الحرّ ومهما قسا يحمل في ثناياه بشرى، يصبّها يومًا بردًا وسلاما”. ثمّ يصف سماء “عريقة” ففيها عاد يملأ قلوبًا طالت برودتها دفئًا، ويكسو عري عقول صقعت دثارًا…… وعن سجنه الّذي يقول فيه: ” ولعلّ حرّ الدثار الخشن، والمأوى المرغوب للبراغيث والبقّ الّذي كان يضحك سلمان حين يحكي عن مغامراته وإياه، في تلك الزيارات عبر ومن خلف القضبان في سجن الصرفند العسكريّ، وقد ذوّبت الكثير من الصقيع”. ثم إنّ هذا الحرّ ” لم يفشق ذلك حيفا وفيه الصيف عن حيفا وفيها خالط حرّ مكاتب الصحيفة الحارّة أصلًا بحرّ النقب وحرّ الزابود وحرّ القدس وحر موسكو ، وخالط حرّ أنين المرضى في العيادة، وحرّ شرفات المقاهي على صدر الكرمل ورمال الشواطئ عند قدميه والغرف العطشى في أعاليه”
بعد هذا الوصف لانتشار الغبار والحرّ في كلّ مكان يوصلنا الكاتب إلى البشرى الّتي صرّح بها ” الحرّ ومهما قسا يحمل في ثناياه بشرى، يصبّها يومًا بردًا وسلاماً” وقد توّج هذه البشرى في نهاية “صيف حارّ” ص 346 بعقد مصالحة بنفض الغبار والحرّ الدفين من حقد وألم وما تراكم من شكّ أو ألم خيانة عانته شخصيّات الرواية، وهذا يعتبر قمّة في الطرح الانسانيّ، حيث رقصوا جميعًا معًا رقصًا جماعيّا ” وكان لا بدّ للدراما من نهاية، ومن لها غير الشباب… رقص أنس وراشد وجوليا ونجلاء تلك الليلة مثلما لم يرقصوا منذ سنوات ولا في شبابهم المبكّر حتّى… رقصوا معًا… راقص راشد جوليا ونجلاء وراقص أنس نجلاء وجوليا وراقص راشد… ورقصت نجلاء وجوليا..”
أمّا جنين في مقابل ذلك فقد عاشت خريفًا حارًّا، ص 347- 340 حين كانت المؤامرة إلى كبّهم كما تكبّ النفايات ” وفي أكواخ مخيّمها اغبرّت وجوه الشيوخ والعجائز من تصاعد غبار تساقط جدرانها( الهدم) ودخان القنابل، ويبست الحلوق، وقد دملت الآبار” أنس يكتب في أوائل ربيع 1988 ” جنين تئنّ وتعنّ تقارع الموت والعرب يحتجون ويصلون”. وعلى إثر ذلك انطلقت شاحنة صغيرة طبيّة مساعدة ومساندة من حيفا يرافقها “أطباء بلا حدود” منهم راشد السلمان … وفي تقديم العلاج للمرضى، وإذا به أمام طفل مزّقت جسده الغضّ عشرات الشظايا الّتي كان أجهده استئصالها والطفل يصارع البقاء، وراشد يبادل الرنو والابتسام” […] ” انطفأ الشفق فجأة مبتلعًا الوجوه… واهتزّت ألركان العيادة… وعلا صراخ في أرجائها… وكان هذا آخر ما رأت عينا راشد وسمعت أذناه… وآخر نبضات نبضه قلبه… وكان أوّل شيء رأته عينا الطفل منذ الأمس، وجهًا مدمّى يشاركه السرير، ويدًا تنام على صدره… ففاضت من مآقيه المتورّمة دموع صامتة تروي الضمادات” ، ” وحين دخل سلمان غرفة “الأموات” في مستشفى العفولة … شعّت تملأ كيانه سكينة مبهرة… وتراءت له تحت الكفن الأبيض ألوان فيها الأحمر والأخضر والأبيض والأسود” ، وكانت آخر الكلمات الّتي رحلت مع راشد بين أزهار نيسان: ” علّمن البروفيسور راشد الطبّ في حياته، وعلّمنا الإنسانيّة في مماته “مدير وأطبّاء رمبام”.
تُكلّم الطفل يا راشد واسمه راشد لؤيّ العزام مشفى ابن سينا وجنين.
وتنتهي الرواية ” أمّا روح أنس فخطّت وروحها الدمع صادحة: العري والوطن لا يلتقيان يا حبيبي يا راشد… ولم تكن عاريًا أصلًا، فغطاء الوطن لم يُرفع عنك يومًا… يا وطني يا راشد !”
والكلام حول هذه الرواية يطول ويطول وله بقية نقديّة شموليّة تفصيليّة إن شاء الله في القريب العاجل….