بقلم: نصر خطيب
ما قبل القراءة
الكاتب:
لا أعتقد أنّ هناك كاتبًا يستطيع كتابة ملحمة الزّابود مثل المحامي سعيد نفّاع.
الأسباب:
1-هو رضع قضيّة حبّ الأرض، والدّفاع عنها منذ نعومة أظفاره، فعانقت وجدانه، وإحساسه وإيمانه.
2-واكب جميع الأحداث عن كثب، بل حتّى قبل أن تبدأ. (ويظهر ذلك في الخلفيّة التّراكمّية في الكتاب). وكان له الأثر الكبير في اتخاذ القرارات المصيريّة، وأستطيع القول أنّه كان المحرّك الرّباعيّ الدّفع، والوقود الّذي زوّد كلّ قافلة التّغيير بالطاقة اللّازمة.
بدءًا بكونه رئيس لجنة أولياء الأمور المركزيّة، في تلك الفترة، وهي أوّل من أعلن الإضراب، والّذي دام مائة وعشَرة أيام، وبعدها محامي المجلس المحليّ، والعضو الفعّال في طاقم النّضال، الّذي كان يتّخذ القرارات.
وشغل فيما بعد، رئيسا للمجلس المحليّ، أي يعرف كلّ صغيرة وكبيرة.
3- العضو الفاعل في لمعارضة في تلك الفترة كان مندوبه، لا بل أخاه. ولا شكّ عندي أنّه قام بتوجيهاته الحكيمة لرصّ الصّفوف، للوصول إلى الهدف.
4-ناهيك عن كونه قاصّ ماهر، يعرف من أين تؤكل الكتف، في كلّ ما يتعلّق بالسردّ القصصيّ، وجذب المتلقي، خاصة في كتاب توثيقيّ، وهذا ليس بالمفهوم ضمنا.
الظّروف الّتي سبقت الأحداث:
الإجحاف المدقع والهيمنة والعنجهيّة السّلطويّة، خنقت القرية بأذرعها المختلفة، وخاصّة سلطة حماية الطّبيعة. ومنها:
1-لم يُوافق على توسيع الخارطة الهيكليّة.
2-لم يكن حيّ للأزواج الشابّة.
3-لم يكن في القرية، مشروع لتصريف مياه المجاري.
4-وضع المدارس كان مزريا، جميعها احتاجت إلى غرف مستأجرة، المدرسة الثّانويّة، كانت بأكملها في غرف مستأجرة، وبجانبها زريبة.
5-لم يُسمح للفلّاحين بإصلاح أراضيهم.
6-دائرة أراضي إسرائيل، كانت تستبدل دونما، مقابل ستة عشَر دونما من المواطنين بسبب ضائقة السكن.
7-مصادرة أراضي الخيط 13000 دونم، بحجة منطقة عسكريّة، وتسوية الأراضي صادرت 5000 دونم.
8-الانقسامات العائليّة والحزبيّة.
9-اعتماد غالبيّة المواطنين في القرية، في معيشتهم على الوظائف الحكوميّة.
10-رئيس المجلس المحليّ المرحوم شفيق أسعد، كان في بداية النّضال، عضو مركز الليكود، ثمّ تركهم.
11-منافس الرئيس على رئاسة المجلس المحليّ، كان الأستاذ جمال قبلان، انضم إلى طاقم النّضال، متنحيّا عن كل الاعتبارات الشّخصيّة، وشريكا فعّالا للوصول إلى تحرير الأراضي، وهذا ليس بالمفهوم ضمنا.
العنوان:
العنوان إشارة مختزلة، تقف على رأس العمل الأدبيّ، له علاقة بما يليه، بل يلحقه، قد يبني علاقة مناصّة مع النّصّ، قد تكون علاقة تمثيل، أو اختصار، أو إجمال للمحتويات، وقد تبني علاقة تقويض.
فهل العنوان هنا هو عنوان مؤشّر، أم عنوان دلاليّ، أم عنوان مقوّض؟
عنوان الكتاب فيه دلالات متلاحمة، بيت جن الأصل ارتبطت في معناها المجاور بالزّابود، والّذي بات رمز النّضال والنّصر، وقد تغنى به القاصي والدّاني. وكلاهما معرفة وعلم. أمّا ملحمة جماعيّة، كلمتان كلاهما نكرة، وهما خبر ونعت، والخبر يتمّم معنى الجملة. وكأنّ هذه الملحمة الجماعيّة، هي مَن وضعت بيت جن الزّابود، بشكل تامّ، على الخارطة، وسطّرتها في حقول التّاريخ، وتلحقها أهميّة العام 1987.
وسأعود إلى كلمة ملحمة في القراءات اللّاحقة.
وتبقى التّساؤلات:
1-هل استطاع الكاتب أن يوثّق كلّ الأحداث، وكلّ التّفاصيل؟
2-هل وثّقها بموضوعيّة أم بذاتيّة؟
3-هل أعطى كلّ ذي حقّ حقّه في مسيرة النّضال؟
4-هل يمكن اعتبار الكتاب ملحمة؟
5-هل ذكر تفاصيل وأحداثا ممكن أن تكتب له كأخطاء تاريخيّة؟
6-ما هي أبعاد هذا الكتاب؟
القراءة الاستكشافيّة
الموتيف الأساسيّ في الكتاب هو قضيّة الصّراع على الأراضي والحقوق.
وهو مقسّم إلى ثلاثة وثلاثين فصلا، بالإضافة إلى التّوطئة، الإهداء، المقدّمة والخاتمة.
وجميع الفصول فيها تسلسل زمنيّ متتابع مترابط، لكلّ ما حدث عام 1987 في بيت جن. ما عدا الفصل الأوّل الّذي يتحدّث عن الخلفية التّراكميّة.
كلّ ما كتبه مدعوم بمصادرَ تُذيّل كلّ فصل. بوثائقَ وبروتوكولات ورسائلَ واقتباسات وصور وشهادات لأناس، وقصص وشعر وأمثال وخطابات، وعدا ذلك.
الكتاب توثيقيّ، ولكنه بأسلوب سرديّ بامتياز، لأنّه يجذبك إلى حدّ، لا تريد أن ترفع ناظريك عن سطوره، لمتابعة المزيد.
فيه مزج بين اللّغة التّصويريّة، واللّغة التّقريريّة بإبداع، بناء على الموقف، والمتكلم. ولا يخلو من القاموس اللّغوي للكاتب، يميّزه بشكل خاصّ.
القراءة التراكميّة المكثّفة
عودة إلى العنوان، وكلمة “ملحمة”.
يعتقد بعض النّقّاد أنّ الأدب العربيّ يفتقر إلى الملاحم، وينفون وجود ملاحم عند العرب، إذما قورنت بالإلياذة والأوديسة عند الإغريق، والشّاهنامة عند الفرس، والمهابارتا عند الهنود، والكوميديا الإلهيّة وغيرها.. ويعتبرون أنّ العناصر الميتافيزيقيّة الخارقة، والبطولات أمر ضروريّ في الملاحم. ولكنّني أوافق الكاتب رأيه، وأيّ ملحمة كتبَ! نحن نعيش في عصر مختلف، “والأدب يُحاكي الواقع”، كما قال أرسطو. وفي عصرنا لا نؤمن بالخرافات، ولا بتدخلّ الآلهة، وأنصاف الآلهة، وكذلك الألوان الأدبيّة قد تطورّت مع الحداثة، لا بل اختلطت.
نحن أمام ملحمة سابقة، حسب رأيي، ليست مُتخَيَّلة، أو يمكن أن تحدث في الواقع، إنّها ملحمة بطولات شعب حدثت بالفعل، فأصبح رمزا للنّضال، ضدّ عناصر ميتا سياسيّة، وميتا عنجهيّة، وميتا إعلاميّة وغيرها.
إنّها ملحمة تشمل التّاريخ، الحكاية، القصة، الخطاب، المثل، القصيدة والأدب الشّعبيّ. هي أسطورة في الأسبقيّة في النّضال الجماعيّ للمظلومين، ضدّ الظّالمين، والتّمرّد عليهم.
قال الكاتب: “ملحمة جماعيّة”، وهذا يقودنا إلى التّعميم في الانتماء، فيها تكثيف في الوجود المكانيّ، وهذا يقوّي جذور الانتماء بالأرض، فهي لم تزل ما زال الرّجال.
وموتيف الأرض يظهر عنده، من الماضي، إلى الحاضر، ثمّ المستقبل. وهو يقف مع الذّات، مواجهة من أجل المواجهة للظّلم. وهذا هو الحضور بذاته، وهو الوجود بعينه، وهو الثّورة على منطق الظّلم، وسلب الحقوق.
وعودة إلى التّساؤلات ما قبل القراءة:
لقد استطاع الكاتب أن يوثّق زبدة الأحداث، وبالتّفصيل غير المملّ. ولا أعتقد أنّ هناك من يستطيع أن يوثّقها، كما وثّقها هو، للأسباب الّتي ذكرتها سابقا، بالرّغم من امتناعه عن ذكر بعض الأحداث والتّفاصيل عن ذكاء، وأوافقه الرّأي، لأنّني شاهد على بعضها.
ولا أظنّ أيضا، أنّ هناك كاتبا آخرَ يستطيع أن يوثّق كلّ ما حدث، ومن جميع الزّوايا، لأنّه يجب أن يكون في كلّ لحظة، وفي كلّ مكان، وأن يصل إلى كلّ شخص، وهذا مستحيل.
وأنا أومن بموضوعيّة الكاتب، حتّى وإن كتب أحيانا بذاتيّة، فهي ذاتيّة موضوعيّة، إن صحّ التّعبير.
وأدهشني أن يذكر الأسماء، في كلّ قرار، وفي كلّ موقف ولجنة وعمل، وفي كلّ مواجهة. وأظنّ أنّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه من زاويته، ولكن ليس الجميع، وليس ذنبه. فهناك أمور فاتته، لأنّ أحدا لم يتفوه بها، والأسباب معروفة، ولم تصله. ولا يمكن لأحد أن يجمع كلّ الأحداث والتّفاصيل الدّقيقة، في ملحمة جماعيّة مركّبة، وإن أراد.
أما بالنسبة لذكر بعض التّفاصيل والأحداث الجانبيّة، والّتي لا تُعدّ في الموتو الأساسيّ، ولكنّها ممكن أن تُعدّ أخطاء تاريخيّة، أو تقصير في حقّ أشخاص كان لهم دور في تغيير مجرى الأحداث، أعتقد أنّه وقع في بعضها، فاليوم لا نزال أحياء، ونعرف الحقائق، ولكن الأبناء لا يعرفونها، ومن جهة أخرى، من يضمن أنّ هناك حقائق، قد تُفسّر ليس على حقيقتها، من قبل الأجيال القادمة، إن لم يكن فيها فصل وقطع، وهي مبنيّة على شهادة شخص واحد، وقد تكون لغاية في نفس يعقوب، ولذلك كان على الكاتب أن يضع النقاط على الحروف، بشكل لا يدع للشكّ مجالا. (على سبيل المثال ص 195 أمين نجم لم يأخذ حقّه).
ما بعد القراءة
الأدب والثقافات هي خطابات سيميائيّة بالضرورة، أي هناك حدود وضوابط ومعايير في كلّ مرحلة متغيّرة. وضع الكاتب في كتابه سمات للأدب الملحميّ الحديث، متعدّدة الدّلالات، تحمل في طيّاتها تجديدا واسع النّطاق، قد يكون سابقة، والزّمن يحكم.
هذه الملحمة الجماعيّة، لم تجمع أهالي بيت جن فحسب، بل جمعت كلّ مظلوم ثائر، على سياسة فيها سلب للحقوق. فهي ملحمة تثويريّة، ممكن تعلّمها من منطلق الواقع الاجتماعيّ السّياسيّ المرير، والشّعور بالجور، والثّورة والتّمرّد على هذا الواقع المرّ.
ولذلك توحدّت كلّ هذه القوى، من الجليل إلى النّقب، من العرب خاصّة، وبعض القوى اليهوديّة التّقدّميّة، والّتي لا تقبل الظّلم.
هذا الظّلم تغلغل في نفس الكاتب، ولذلك اختار طريق الثّورة، مع قلّة وسط الأكثريّة الصّامتة. الأمر الّذي جعله يشعر بالمسؤوليّة، ليسير كتفا إلى كتف، مع خصومه السّياسيّين، وأن يسعى إلى الوحدة، بكلّ ثمن، لأنّ الهدف أسمى.
هذه الملحمة، تقدّم لنا أسطورة في النّضال من أجل الأرض، خاصّة وأنّ الغالبيّة العظمى من أهاليها يعتمدون على أذرعة الدّولة في معيشتهم. وليس من السّهل إقناعهم بالتّمرّد والثّورة. وهذا حدث بالفعل.
هي ملحمة تتعدّى الزّمكانيّة في أحداثها، لأنّ ما حدث أسطورة، لتثبيت الصّلة بالمكان والزّمان. ولتُبعد الشّعب المسلوب الحقوق، عن غربة الوجود في مستنقع التّاريخ.
الكاتب فيها يعرف هويّته، ويريد أن يثبت هذه الهويّة الجماعيّة.
انطلق من الماضي، ليعانق الحاضر، بوجهات نظر جديدة.
وأنهي حديثي مقتبسا عنه:
“الانتصار في النّضال، وحتّى في الحروب، هو ليس بالضرورة سحق الطّرف الآخر، فتحرير ذهنيّة وعقليّة الطّرف المُدافع من الخنوع، وتحويلها إلى ذهنيّة المواجهة هو انتصار، وتغيير ذهنيّة الطّرف المعتدِي إلى الخضوع لحقّ الطّرف المُدافِع هو هزيمة، فكم بالحريّ إذا كان التّمرّد على الخضوع، واختيار طريق المواجهة، حقّق للمُدافِع كذلك إنجازا عينيّا ميدانيّا، حتّى لو كان منقوصا؟!”
** أمسية القراءات النقديّة بيت جن – الجذور 28 حزيران 2022