وقفات مع الديموقراطيّة الإسرائيليّة و”طوفان الأقصى” و”الحراب الحديديّة”

 

الوقفة الأولى… والتقاعد الوطني والسياسي.

عندما أنهيت عضويّتي في الكنيست وبطبيعة الحال سئلت من قبل بعض الصحافيّين: “وماذا بعد؟!” أجبت: “أعلن عن تقاعدي من العمل الحزبيّ السياسي، ولكن من نافل القول ألّا يمكن التقاعد من العمل الوطني وسأعمل بما أحب؛ الأدب وتعزيز التواصل”. أعود لهذا الكلام لأنّي وفي الأسابيع الأخيرة وجدت نفسي لا أغبط السياسيّين المحليّين على حالهم في اتّخاذ الموقف ممّا يجري في هذه الحرب اللعينة، ففي مكان ما وجدت نفسي وكأنّي معفيّ من أن أقول رأيي وكفى الله المؤمنين شرّ القتال، ولكن وجدتني “أبحش على قبور السوس وأهله”!

الوقفة الثانيّة… والديموقراطيّة الإسرائيليّة.

أتخمتنا المؤسّسة بديموقراطيّتها الممنوحة لنا، نحن العرب الفلسطينيّين حاملي جنسيّتها، في كلّ الميادين، ولك في مسرحها على تغيّر مسمّياته؛ دار الإذاعة الإسرائيليّة ثمّ صوت إسرائيل ثمّ راديو مكان، البيّنة العظمى، فقد فتحوها في مراحل معيّنة أمامنا ل”نسُبّ” على قادة الدولة ما شئنا إلى ذلك سبيلا، فبلغت التخمة أو على الأصح “الإتخام” منّا مبلغًا أن صرت ترانا، وبالذات “قادتنا”، وما أن تتّخذ المؤسّسة أي إجراء ضدّنا، نصيح: “هذا مسّ في الديموقراطيّة!” مدركين أو غير مدركين أن هذا اعترافًا منّا بديموقراطيّة إسرائيل، وقد حسدَتنا عليه بقيّة أبناء أمّتنا وكما المقولة الظريفة: “اللي ما يفتحوا فمهم إلّا عن طبيب الأسنان”. وما دمتُ ذكرت تاريخي النيابيّ فياما وجدنا أنفسنا نحن أعضاء الكنيست بعيد خطاباتنا الناريّة وخصوصًا “الشعبويّين” منّا، في مواجهة القول: “رُح قل هذا الكلام في غزّة أو سوريّة أو… أو…”

يعني بكلمات أخرى اختزلنا نحن وعن طيب خاطر الديموقراطيّة عامّة في حريّة التعبير عن الرأي وبما أنّ إسرائيل “تمنحنا إيّاها” فهي فعلًا الواحة متناسين أنّ الديموقراطيّة أوسع كثيرًا من ذلك. فتناسينا أنّ حقّ الملكيّة وبالذات ملكيّة الأرض هي لبّ لبّ الديموقراطيّة وأنّ مصادرة أرضنا ظهيرنا الاقتصادي، وبالتالي جعلنا سكّان مخيّمات إيواء عمّال – و … و … هي مساس سافر في روح مركّبات الديموقراطيّة.

الوقفة الثالثة… وحريّة التعبير عن الرأي للعرب.   

حريّة التعبير الإسرائيليّة عن الرأي للعرب ولا مرّة كانت قائمة بالمعنى المتداول في الديموقراطيّات. كانت حريّة الرأي خاضعة دائمًا ل”سلّم قيم” من صنع المؤسّسة وتنفيذ أدواتها؛ “سلامة الجمهور” و”بقرة الأمن المقدّسة” والسلّة مليئة بغيرها تُستلّ حسب الحاجة.

في الأولى – سلامة الجمهور – أعطيت للمحاكم الإسرائيليّة القوّة المطلقة أن تفسّر ما هو مسّ في أمن الجمهور وما هو ليس مسّا في أمن الجمهور وبغضّ النظر عن نيّة القائل وما يترتّب على القول ونتائج القول، القاضي هو القول الفصل وهو المفسّر وهو العقل الكلّي، بعد أن تكون سبقته إلى ذلك النيابة العامّة والحيدة عنده عن هذا السبق من النوادر.

لا حاجة عزيزي القارئ في إتعابك بالأمثلة فما يستطيع قوله ابن تل- أبيب ف”يا ويله من سواد ليله” إذا قاله ابن يافا (ورغم كونهما أبناء بلديّة واحدة).

في الثانية – بقرة الأمن المقدّسة – ف”حدّث ولا حرج”، ولعلّ ال”تسويد” الذي غزا صفحات التواصل عند الكثيرين والصمت الذي ألمّ بهم خوفًا من أن يفلت لسانهم بكلمة “رايحه جايه” لا يعرف إلى أين تودي بهم، ولعلّ عشرات لوائح الاتّهام، إن لم يكن أكثر، التي قُدّمت ضدّ العرب ممّن أبقوا صفحاتهم بيضاء اللّهم إلّا من بعض كلمات عليها ولو كانت تعبيرًا عن ألم ليس إلّا، هما الدليل الأكبر على أنّ حريّة التعبير عن الرأي في الديموقراطيّة الإسرائيليّة كانت وما زالت وستبقى مجرّد “كلام نهار يمحوه الليل”!

الوقفة الرابعة… ودم الأطفال.

وبما أن السياق اليوم هو الحرب اللعينة القائمة بغضّ النظر عن تسمياتها، فلا يمكن أن يكون دم طفل بئيريّ أكثر احمرارًا من دم طفل غزّيّ، ولا يمكن أن يكون دم طفل غزّي أكثر احمرارًا من دم طفل بئيريّ، وكلّ تبريرات الدنيا في هذا الاتجاه أو ذاك تسقط أمام قطرة دم طفلّ أريقت في هذه الحرب اللعينة وأيّا كان لون بشرته، فبعدُ لا يفهم هو ماهيّة انتمائه.

ولذا فأن تدين إراقة دم الأطفال في غزّة وبغضّ النظر إن جاء ذلك عن وحدة انتماء دينيّ أو وطنيّ أو قوميّ يجب أن يكون تعبيرًا عن ضمير إنسانيّ – لا آدميّ فليس كلّ آدميّ إنسانًا – وهذا أعلى وأقدس من كلّ الديموقراطيّات وقيمة حريّة التعبير عن الرأي. لكن لا ولن تكون إدانتك ضميريّة إنسانيّة إن اقتصرت على دمٍ دون دم، و”طز” في حريّة التعبير عن الرأي و”ستّه”؛ الديموقراطيّة!

الوقفة الخامسة… والقول الفصل.

يبدو أنّ في قول أهلنا: “إن ما كبرت ما تصغر”، الكثير من صحّة تراكم تجاربيّ. وانطلاقًا، أعتقد أنّه لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب وبغضّ النظر عن شكل نهاياتها إلّا عن حالة جديدة استراتيجيّة في كلّ ما يتعلّق بالصراع العربي الصهيونيّ وعلى الغالب نحو الأفضل، ومع هذا المقولة: “لا تكرهوا شيئّا لعلّه خير” غير سارية المفعول في سياقنا.

سعيد نفّاع – محامٍ ونائب سابق

الأمين العام للاتّحاد العام للكتّاب الفلسطينيّين – الكرمل48

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*