الإيرونيا تنضح من خلال السطور
مع كُرّاز سعيد نفاع
الاستاذ المحامي سعيد نفاع ابن قرية بيت جن وهي احدى أكبر القرى العربيّة الدرزية الفلسطينية، محام وأسير سياسي سابق وكاتب وافر الابداع وذو قلم سيال لا يعرف الهدوء لأنّ نتاجه في النثر العربي مثير للانتباه وجميل بشكل مميز. وقد أصدر حتى الآن من بين ما أصدر مجموعة كبيرة من القصص القصيرة، وهو الأمين العام لاتّحاد الأدباء الفلسطينيين الكرمل – 48، فقد صدر له حتى الآن مات يلي:
بدأ رحلته مع الأدب عام 1969 بنص أدبي هو صورة قلمية، نشرتها الاتّحاد في ملحقها الأدبيّ ولم يتعدّ حينها عمره السادسة عشر، ثمّ تابع ابداعه بنشر عشرات القصص القصيرة في الجديد والاتّحاد والغد، جمعها لاحقًا مع ما استجدّ في سبع (7) مجموعات قصصيّة. وفي الرواية أصدر جزءً تحت اسم وطني يكشف عريي من ثنائية روائيّة تحمل اسم أيّام الغبار. كاتبنا لم يقف عند حدود الابداع الأدبيّ فقد أصدر إضافة ثمانية (8) كتب في المقالة الدراسيّة والتوثيق والدراسة والتاريخ، ربّما أبرزها؛ العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتى ال-48، وقد كنت كتبت مقدّمة الطبعة الأولى منه، وبين يهوديّتهم وطوائفيّتنا وتحدّيات البقاء، وجيش الإنقاذ وظلم ذوي القربى.
لا نستطيع أن نتجاهل نشاطه السياسيّ المرافق، فقد كان رئيسًا لمجلس بلدي بلده أوائل التسعينات، وعضو برمان لدورتين من العام 2007 حتى 2013، إذن نحن ازاء ابداع لأديب متمرّس في الكتابة له قلم سيال لا يكف ولا يهدأ، ويعمل تزامنّا وبشكل متواصل ومنقطع النظير كأمين عام الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيين – الكرمل 48، ويركز كلّ نشاطات هذا الاتحاد بشكل ملفت للنظر لأنه مفكر لبق في كتاباته ونشاطه، وكمحام منذ سنوات يعرف كيف يستفز القارئ العادي وغير العادي. والمتتبع لما ينشره كما بينا وهو كثير فيتساءل: كيف يجد الوقت الكافي لهذه الكمية من الابداع خاصة وأنّه محام يمارس مهنة المحاماة التي تتطلب الكثير من الوقت لمعالجة مختلف القضايا التي قد تواجهه.
ان المتتبع لما يكتبه استاذنا في الصحافة المحلية ومجلة التّحاد “شذى الكرمل”، قد قرأ بدون أدنى شك ما كتبه عن أن كتابنا وأدباءنا لا يقرأون بعضه بعضا الا لماما، وقد كتبت مقالة قصيرة في الرد على هذا الاتهام مع أنني أقبل بعض توجهه لأن جمهور القراء العرب قليل جدا ولن اعود لأكرّر ما كنت قد كتبته في هذه العجالة. لذلك سوف أخرج من هذا الحوار الى مضمون مجموعة الكراز هذه وهي آخر ما أبدعه قلم عزيزنا الاستاذ سعيد نفاع.
أركان القصة القصيرة :
بما أن موضوع هذه المجموعة يدور حول القصة القصيرة فأرجو أن أذكر بأركان القصة القصيرة المتعارف عليها وهي كما يلي:
- العنوان: يجب أن يكون العنوان موحيا ومعدّا أحسن اعداد لما سيأتي لأن القارئ يكون خالي الذهن وهو عندما ينتقل من قصة الى أخرى فان العنوان يجب أن يوحي له بما قد يجده من خلال سرد القصة التالية.
- الشخصية أو الشخصيات : وقد تكون الشخصية رجلا أو أكثر أو امرأة او أكثر او مكانا او أي شيء آخر ويجب أن تكون في مركز السرد لأنها هي الأساس الذي ترتكز عليه القصة .
3: العقدة أو الذروة وهي قمة السرد وتضع حدا لتوتر السرد وتكون عادة في نهاية القصة بعد استكمال السرد وشرح ما يحتاجه من أجل سير الأحداث.
- التأزيم : وهو المادة التي تسبق العقدة وتعدّ لها الاعداد المناسب وقد نطلق عليها اسم التراخي او الخلاصة التي تصل اليها القصة في النهاية .
5: التراخي او الحل وهو ما تنتهي اليه القصة في نهايتها وقد تكون العبرة او الهدف من كل عملية القص والتي من أجلها كتبت القصة .
- النهاية او الفكرة التي تدور حولها القصة وباختصار .
القصة الأولى الكُرّاز:
الاستاذ سعيد في كتابته لمثل هذه القصص انما يأخذ بأيدينا لنعيش معه ذكريات جميلة قد يكون قسم منها مرّ علينا وما كان يشدنا ونحن صغار السن وحتى في شبابنا، والحقيقة التي لا شك فيها أن اسلوبه يثير فينا الكثير من النوستالجيا والمتعة بسبب مثل هذه العودة الى حياة الماضي القروي في القرى الفلسطينية والى الكثير من التعابير والمصطلحات التي كنا نمارس استعمالها ونحن صغار. والغريب أنه ككاتب يحفظ الكثير من التعابير التي لم نعد نستعملها اليوم في أحاديثنا وهو يجيد ادخالها في نصوصه من خلال السرد الجميل فتضفي على لغته روح الدعابة او الطرفة التي تحبّب القراءة لمن قد لا يحبون القراءة . ولما كانت هذه القصص قصيرة قان فيها الكثير من الاثارة بحيث لا يمل القارئ من الانتقال الى قراءة قصة أخرى بعد الانتهاء من القصة الأولى وهكذا . والحقيقة الأخرى هي أنني منذ حصلت على نسخة من هذه المجموعة وعدت الى البيت لفتت هذه القصة انتباهي ومنها الى ما يليها حتى أتيت على الكتاب بكامله ومن الجلسة الأولى . ثم عدت اليه فيما بعد في قراءة متمعنة وكانت لدي متعة كبيرة عندما تذكرت بعض المواقف الممتعة حقا والتي تستحق قراءتها للمرة الثانية وحتى الثالثة .
عنوان هذه القصة هو ” الكُرّاز”، والكراز كما يوضح الاستاذ سعيد هو كبش من الماعز أجمّ – أي بلا قرون وعليه يضع الراعي كرزه أي خرجه ليحمله وعلى رقبته كذلك يُحمّل الجرس ويكون أمام القطيع، فالأقرن ينشغل بالنطاح والكُرّاز مخصيٌ ايضا لأن الفحل يتلهي بإناث الماعز … فهمت ؟! ( ص- 5 )
ينقلنا المؤلف منذ بداية القصّة الى جلسة خاصة جمعت والده الشيخ مع مجموعة من مشايخ القرية يتجاذبون أطراف الحديث عن معركة الانتخابات وقضايا اخرى فيندس استاذنا بينهم طارحا السلام ولكن دون أن يعيروه التفاتا فكان وجوده بينهم وعدمه سيان كما يقول. ولما انتقل الحديث الى الماعز والكراريز والفحول لم يفهم استاذنا كما ادّعى، لم يفهم العلاقة بين الكُرّاز والانتخابات ولم يكن يعرف لما أطلقوا عليه تلك التسمية، ولذلك طرح السؤال عن الموضوع الذي كان غريبا عن معلوماته فما كان من الشيخ والده الا أن ردّ على البديهة قائلا: “شو ما علّموك في الجامعة ليش سموه الكراز؟” (ص- 14)، ويضيف: هذا الرد السريع وغير المتوقع أضحك رفاق الوالد واغتصب منه الابتسامة. وينتقل الحديث الى اسعد الذي طلق امرأته لأنها عقرت أيّ لم تلد له غلاما يحمل اسمه فغاب عن الشلة أيّ مجموعة المشايخ وعاد في ذلك اليوم وفاجأه أحدهم بالسؤال: (شو وين هالغيبة؟!) فيجيب ابو سعيد ردا من قاع الدست: ” من يوم ما تمرمغ في دار المشحرة ما عدنا شفناه” ( ص 15) !
والمرمغة في لغة القرية تعني تمرغ الحمير لتحك جلودها بالتراب الناعم المخلوط ببعض الحصى، أما المشحرة فهي المكان الذي يصنع فيه الفحم وهي هنا رمز للزوجة السمراء وضحك الجميع بسبب هذا الجواب المفاجئ والذي فيه شيء من السخرية المحببة لأنّه حتى أسعد انفجر ضاحكا حتى كاد يختنق !
لم ينته الموقف عند هذا الحد لأنّ أسعد وكردّ اعتبار يعيد المشايخ إلى جمعة أخرى من أيامهم واذا بنورية تحل عليهم وتطلب أن تقرأ طالع ابي سعيد فتساله عن اسمه ؟ فيسارع وبجيبها: عبدك مقطمون ! وتأخذ النورية تقرأ طالعه قائلة مررّرة: اسمع يا مقطمون واسمع يا مقمطون إل أن تصل إلى: في صبية في هالحارة بتحبك يا مقطمون وما عارفة توصلك وهي مليحة وانت تستاهلها. فيرد عليها ابو سعيد قائلا: ايوة ! هاي حمارة دار عمي اسعيد ! وينفجر الجمع ضاحكا (ص-17) وتلاحظ النورية ذلك فتفاجئ ابا سعيد وتلطمه على صفحة خده لطمتين وتفر هاربة من المكان وينتهي الموقف. ولكن اللقاء لا يتم قبل العودة الى الانتخابات وتنتهي الجلسة بشرب الشاي ولكن ليس دون الحديث عن المرشحين العرب الذين لا يحسن اختيارهم، وينهي الموضوع بحكمة من الحديث الشريف مفادها : كيفما تكونون يولّى عليكم . ( ص- 19)
هذا الأسلوب الساخر هو ما يميز كتابات استاذنا سعيد نفاع في هذه المجموعة، وهو أسلوب جميل وممتع أخذه الاستاذ من جو القرية العربية الفلسطينية، ففيه الكثير من خفة الظل كما سيلاحظ القارئ والمواقف مأخوذة من جو المشايخ المسنين ورجال الدين المتحفظين في أحاديثهم ويعرفون كيف تكون خفة الظل مع عدم المس بالأخلاق التي يتحلّى بها هذا الرعيل من مشايخ قرانا في حياتهم اليومية .
القصة الثانية الشيخ والمرأة :
القارئ لهذه القصة لن يجد قصة بمعنى القصة كما قد يتوقع، ولكنّه سوف يجد نقدا تهكميا من بعض المشايخ الذين يتعصبون ضد المرأة لأن المرأة في عرفهم تعتبر عورة، ولذلك يجب الا يظهر أيّ جزء من جسدها عاريا بحضور الرجل، وقد عمل المؤلف على أن يحشر أحد المشايخ من الوعّاظ المتدينين متلبسا في النظر على “عورة” احداهن في مسيرة وطنيّة شارك فيها حبّا في الخِطابة، وهو بهذا انّما ينتقد ما يصنعه مثل أولئك المشايخ المتزيّين بالدين ومعتبرين مشاركة المرأة سافرة عورة وهو أمر محرّم وفي الخفاء يتلصلصون على “عورتها” . هذا النقد فيه الكثير من الجرأة لأن المؤلف لا يتورع عن التهكم على رجال الدين وما قد يكون عورة في كلامهم وعن المبالغة في التظاهر بالتمسك بأمور سخيفة لا علاقة لها بالتدين الحقيقي.
قصة البسطار :
البسطار هو اسم يطلق على الحذاء الذي يلبسه العمال خلال عملهم في الحقول او في البناء اوفي الأراضي الوعرية او في غيرها من اجل وقاية أرجلهم من خطر الاصابة بأي عارض أثناء عملهم . هذه الحكاية نموذجية قوية السبك ليس فيها كلام كثير لأنّها مختصرة جدا لدرجة الابهام لمن قد لا يتعمق في فهمها. والبساطير نوعان منها طويل الساقين ومنها قصير الساقين. والمختار في هذه القصة رجل حادّ الذكاء ويعرف كيف يتخلص من بسطاء الناس وبذكاء ما بعده ذكاء.
تدور القصة حول احدهم الذي كان له مشكلة مع رجل من القرية ويتنكّر له، وجاء إلى الى المختار يشكو من مشكلة لم يوضحها المؤلف الا تلميحا، طالبًا إلى المختار أن يتدخّل. ولكن المختار حاد الذكاء والذي يعرف أن غريم الرجل ليس من الناس الذين يحفظون حقوق الآخرين ويحترمون تدخّل أهل الخير، أراد أن يخرج من المهمّة دون أن يمسّ في طالب العون منه ويفشله. وباختصار شديد حوّل المختار القصة من مشكلة جدية الى مشكلة مثيرة للضحك وبأسلوب الاستاذ سعيد الهازل حلف قائلا : ” عليّ الطلاق … لو كنت وجهتني الى الباب العالي … كان أسهل، ” (ص –30) والباب العالي هنا هو السلطان العثماني سلطان الامبراطورية العثمانية في استانبول ومع الضحك الذي سيطر على المختار ثم انتقل الى الضيف الشاكي متمّمًا: فزلمتنا هذا بسطار ساق قصير ومفكّر حاله بسطار ساق طويل… فكيف بدو يحترم الأوادم والحقّ…” وهنا أسقط في يد الضيف وأجاب: “حقّي وصلني وزيادة” (ص30)
هذا الاختصار في سير القصّة فيه من قوّة السبك الشيء الكثير، وكذلك تبرز هنا روح الدعابة المحبّبة للقراءة بشكل واضح .وهذا الأسلوب لا يجيده الا القليلون ممن حباهم الله بروح الدعابة ومتعة السرد كالأستاذ سعيد نفاع .
قصة الكرسي الذي بثلاث أرجل :
في هذه القصة وصف ممتع وواقعي وصادق ليس بعيدا عن تفكير من يطمعون بالوصول الى الزعامة في قرانا العربية، وعليّ الراشد شخصية أجاد المؤلف رسمها وهي موجودة في كل مجتمع عربي وما يلمسه القارئ فيها روح النقد الهازل أي الأيرونيا للمجتمع الذي نعيش فيه في مختلف قرانا العربية الصغيرة منها والكبيرة، وهي أيّ هذه الصورة صادقة كل الصدق . والتعليق على شخصية عليّ الراشد ووصفه بأنه كالكرسي الذي بثلاث أرجل بدلا من أن تستند اليه فإنك يجب أن تسنده بنفسك لأنّه له مطامع بالزعامة وليس هو على قدرها، ومثل هذا لا يعرف الوفاء وإن سندته وقد يغدر في سبيل أن يصل الى ما تصبو اليه نفسه ولو سرا. وقد اختار له اسم الراشد من باب التندر لأنه لو كان راشدا لما حصل له ما حصل ! ومرة أخرى لا تخلو كتابة الاستاذ سعيد كما ذكرنا من روح الدعابة وخفة الظل ولذلك فانه ينجح في اقناع القارئ بصدق نقده ورسم الصورة المشوهة بسبب وجود زعماء ورجال كعلي الراشد والمشايخ المتنافسين على الزعامة .
قصة شيخ الكلاب:
الحقيقة أن ما ورد حتى الآن مما كتبته عن بعض قصص هذه المجموعة هو كاف للتعرف على نوعية هذه القصص، ولكن آخر قصّة وهي قصة شيخ الكلاب في قراءتها متعة لأن فيها بعض الغرابة وحذاقة الكاتب وعمق التفكير وخفة الظل في آن واحد.
في هذه القصة لا يتردد الاستاذ سعيد في الحديث عن نفسه كانسان متهم بلوثة عقلية حيث ادعى، ومن باب السخرية أيضا، أنه يعرف لغة الكلاب فيشبه نفسه بالملك سليمان الذي كان يعرف لغة الحيوانات ولغة الطيور وغيرها ويدعي أنه ذهب لزيارة أحد المشايخ كي يلتقي كلب الشيخ فوجده مقعيا باب الدار فيقعي قربه ويدور بينهما حديث فينصت لما كان يقوله ذلك الكلب ويحدثه حديث من يفهم لغة الآخر ويخلص الى أن الكلب قد توجه اليه بطلب مؤداه : ” هات ما عندك ! ” ( ص – 118 )، فيطرح ما جاء من أجله بالسؤال : هل أنت شيخ الكلاب ؟! فيجيبه الكلب : لا . ويعيد عليه سؤالا آخر قائلا : كيف لا وأنت كلب الشيخ ؟!
وبعد صمت للتفكير قام الكلب من إقعائه وقال: “عندما تكفّون عن تشبيه أنفسكم بنا وتشبيهنا بأنفسكم ستعرف وتعرفون!” ولوح بذيله وتابع مسيره حتى غاب عنه دون أن يجيبه إن كان لهما حديث آخر، ليتساءل استاذنا قائلا: هل فوّتّ على نفسي نعمة لا أستحقها لعجلتي ؟! (ص- 119 )
في هذه القصة يصل الاستاذ سعيد الى ذروة التهكم ومقولة: كلب الشيخ شيخ ! وفي هذه التورية ما يوحي الى أن كلب الشيخ هو رمز للذين يترددون على بيوت المشايخ لقضاء مصالحهم لذلك فمن باب ا لسخرية يصل استاذنا الى تسمية هؤلاء النفعيين بكلاب الشيوخ ! وهذه ذروة الايرونيا التي ما بعدها ذروة وقد أعّد لها الاستاذ الاعداد الكافي عندما تحدث عن نفسه وعن اتهام الناس له بان لديه مسّ من الجنون لأنه يفهم لغة الكلاب ! فهل الكلاب هنا هم أعوان السلطة ؟
أخيرا ما يمكن أن نستنتجه من قراءة هذه المجموعة أن لدى الاستاذ سعيد نفاع امكانيات كبيرة في تزويدنا بالكثير من مثل هذه القصص، ونحن لذلك نحييه ونرجو له طول العمر وزيادة الابداع، فهو كاتب وأديب يجيد كتابة القصص بشكل واضح وروعة ومتعة للقراءة.
تشرين الثاني 2020
د. بطرس دلّة- كفرياسيف