( فقرات مختارة)
الصداقة ككلّ الأفعال والأشياء النادرة في الدنيا، أضيقُ وأصغر كثيرا من أن تتّسع لكل تلك العلاقات المسماةِ اليومَ، ابتذالا، صداقة. وربّما أن أكثرَ ما يمس علياءَ هذه العلاقة الخاصّة جدّا والنادرة، هو إطلاقُ اسمِها على أشكال من العلاقات وليدةِ مصلحة عابرة أو ظرف طاريء أو هوايةٍ مشتركة أو نزوة مارقة، أو حتى قضاءِ ساعات على طاولات زاخرةٍ أو أيامٍ في فنادقَ فاخرةٍ “جوّة” البحار أو “برّة” البحار، أو… أو… .
البشر عندما تبنوا كلمةً ورغم اختلاف لفظها واختلاف أحرفها، اختاروها حاملةً نفسَ الفعل في كلّ لغات العالم، البشر مارسوا الفعل قبل أن يسموه وأسمَوه بعد أن مارسوه، هذا إن كان إراديّا كالصداقة والجحود مثلا، وإن لم يكن إراديّا فحصل لهم أو معهم أولا ومن ثمّ أسموه كالبكاء أو الألم مثلا، أليس هذا بحدّ ذاته دليلا على أنّ الفعلَ هو ليس وجهةُ نظر فردية وإنما نتاجٌ بشري جمعي، إراديّا كان أو لم يكن.
هل الفعلُ اللاإراديّ، البكاءُ أو الألم، في الشمال يختلف عنه في الجنوب؟! فلماذا سيختلف الفعل الإراديّ كالصداقة والجحود، في الغرب عنه في الشرق؟!
لا فرق، الفرق في أن اللاإراديّ ومن كونه كذلك لا حاجةَ لتعريفه فتعريفُه ذاتويّ، في ذاته، مخفيّا كان كالألم أو بائنا كالبكاء. أمّا الإرادي فبحاجة إلى قواعدِ تعريف، فتعريفه غيرويّ، وعندما يجتمع البشر على وحدة التعريف لا تبقى للفرد وجهةُ نظر لا في الفعل ولا في ردّ الفعل.
والفرق الآخرُ أنّ اللاإراديّ بديهيٌّ في ردّ فعل البشر عليه، أما الإراديَّ فنظريٌّ في ردّ الفعل، بمعنى وما دمنا في البكاء والألم والصداقة والجحود، فالبكاء والألم لم يكونا بحاجة للبشر لوضع تعريف لهما وبالتالي التعاملِ معهما بناء على هذا التعريف، لكن الصداقةَ والجحود وإن تساويا في وضع اسميهما مع البكاء والألم إلا أنهما كانا بحاجة البشر إلى تعريفهما وبالتالي وضعِ قواعدٍ للتعامل معهما.
العلاقات القائمة اليوم في مجتمعاتنا والمسماةُ صداقةً هي كلُّ شيء إلا الصداقة، فهي خاليةٌ من كلّ أو أكثر المعاني التي في الفعل الذي مارسه البشر قبل أن يسمّوه صداقة، فهي، أي العلاقاتُ اليوم، وكما نعرف، قائمةٌ على الكثير من الأشياء المشتركة الماديّة الآنية، وهي بالتعريف البشريّ: مصاحبةٌ أو صحبة ليس إلّا، وهي أهونُ وأسهل من الصداقة بناءً والتزاما وزوالا، وأدنى من الصداقة مكانا ومكانة، وكونُها كذلك فهي موسميّة تُبنى على رمال متحركة وتزول بزوال المشترك عند أول هبوب، ليجد المُصاحبُ نفسَه دون صحبة، وإن كان تخلّى فيها أو بناءً عليها عن صداقاته سيجد نفسَه عاريا كليّا، فالصُّحبة تمنحك غطاءً حينما تتخيّل أنك عار بحاجة لكساء، لكن الصداقةَ وإن فارقَتْها الصحبةُ ردحا من الوقت، تمنحك الكساء حينما تعرى فعلا وتتوق بكل جوارحك لدفء.
الصداقة فعل إراديّ مارسته الأمم وعرفته كلاما طبقا للفعل، فالعرب قالوا: الصدق نقيض الكذب، والصديق من صدق في المودّة والنصيحة، والصداقة هي المُخالّة من الخُلّة، والخُلّة هي: الصداقة المختصّة التي ليس فيها خلل. والخليلُ هو الصديق الذي أصفى المودّة وأصحها، وقيل للصداقة خُلّةٌ لأن كلَّ واحد يسدُّ خلل صاحبِه في المودّة والحاجة إليه. وقيل: خليل الرجل، قلبُه. وقيل: الخليل هو الحبيب الصادق الناصح الرفيق السيف والرمح.
فإن لم تكن: محبّا خالصا، وصادقا صدوقا، وناصحا نصوحا، ورفيقا رفيقا، وسيفا صارما ورمحا مثقّفا عند الحاجات وفي الملمّات، فاطلق على علاقاتك من الأسماء ما شئت اللهم إلا الصداقة.
أترك الصداقةَ في محرابها تبكي يُتمَها فحتى دورُ الأيتام ضاقت في وجهها.