(نصّ الكلمة في أمسية إشهار روايتي: “وطني يكشف عرْيي” وأربع مجموعاتي القصصية الأخيرة: “مأتم في الجنّة” و”سمائيّة البوعزيزي” و”لفْظ اللجام” و”رسالة مؤجلّة من عالم آخر” في نادي حيفا الثقافيّ 22 كانون أول 2016).
قد يرى البعضُ فيما أنا ذاهبٌ إليه في كلمتي خروجا عن المألوف في الندوات الاحتفائيّة و\ أو التكريميّة، إذ يقتصر عادة دورُ المحتفى به على توزيع الشكر على وعلى… وإني فاعل، ولكن قبل ذلك سأقول:
أولا: عندما اتصل بي فؤاد (فؤاد نقارة رئيس النادي) قائلا بما معناه : “خلّصنا عاد…”، وخلّصته، سألني إن كان عندي أيُّ اقتراحات فأجبت: “لا… افعلوا ما ترون وتريدون”. لاحقا اتصل حسن (حسن عبّادي مركّز النادي) ليسألَني إن كان هنالك من أمر أريده، فلم تختلف إجابتي. ولم أتحدث مع نبيه (الناقد نبيه القاسم) بتاتا ولا مفيد (صيداوي صاحب دار الأماني للنشر – ناشر الرواية) ولا محمد (الناقد محمد هيبي) في موضوع الأمسية ولا في غيرها في الفترة الأخيرة. ولذا ف-“خْطَيْتِي” في رقابهم جميعا، فلا أعرف ما الذي ينتظرني هذا المساء!
أمّا ثانيا: ف- “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله”. (إنجيل يوحنا الإصحاح 1 : الآية 2). وفي سياقنا في البدء كانت الكلمةُ كان الابداعُ، ثمّ جاء التقييمُ أو النقد (التقييم والتقييم “التقويم”). فالنقد وضع قواعدَه مستنبطة ً ومبنيّةً على ما كان بدءا، ولذا فالنقد خارطةُ طريق ليس إلا، ولو كان الأمر على عكس هذا لصار النقد حاجزا أمام الابداع، وهذا فعلا ما حدث في بدايات النهضة الأوروبيّة انسياقا وراء الابداع الإغريقيّ، إلى أن تشعّبت خارطةُ الطريق.
وعند العرب لم يختلفِ الأمرُ، وشهدت الحركة النقديّة نقلاتٍ نوعيّة منذ أن كانت الكلمة، فمن يتابع حركتَنا النقديّةَ العربيّة، يجد أنها ازدهرت وتطورت وتراكمت، وسيجد لها أطوارا بدءا بالطور البدويّ الجاهليّ وانتهاء بطور النقد العلميّ.
وسيجد فيها مصطلحاتٍ أو اصطلاحاتٍ كالنقد الغنائي والصناعيّ والمقارن والمبدئي والنحوي. وسيجد في العلميّ منه مسالكَ، مسلكَ النقادِ الرواة، ومسلكَ الكتّابِ وفقهاءِ العلماء. كابن المقفع و بشرِ بن المعتمر والجاحظِ، من المعتزلة، الذين فتحوا باب النقد على النثر كذلك. ولما استهل القرن ال3 الهجريّ، كان النقد الأدبيّ على طريقة الرواة وعلماء اللغة قد نضج واستوى، وظهرت فيه بعضُ المؤلفات القيّمة.
(ك- “طبقات فحول الشعر” لمحمد بن سلام الجمحيّ، وك- “الشعر والشعراء” لابن قتيبة الدينوريّ، وك- “نقد النثر، ونقد الشعر” كتابين لقدامة بن جعفر بن قدامة بن زياد، محصورين بالنقد ليس كسابقيهما).
وستجد فيه طرقا تقوم على الموازنة بين الشعراء، وتخضع للحركة البلاغيّة، وتسير في ركابها، ولا شكّ امتدادٌ مع زيادة في الاتساع والعمق للنقد البلاغيّ الذي أبدعه فصحاءُ المعتزلة وكتابُهم.
وهكذا فظهر النقدُ كعلم مستقل من علوم البلاغة، وفيه أُلّفت مؤلفاتٌ كبيرة، والشجرةُ النقديّة منَ ازدهار إلى ازدهار، ولم تذوِ إلا حينما ذوت بقيّةُ أشجار رياضنا، ولمدة ستِّ مئة سنة، هي عصرُ المماليك والعثمانيّين، عصرٌ يترحم عليه البعضُ اليومَ.
(ومن الأمثلة كتابان مشرقيان: “الصناعتين” لأبي هلال معسكري. ت.395 هجرية، و”المثل السائر” لضياء الدين بن الأثير. ت. 625 هجرية. وأخريان مغربيان: “رسالة التوابع والزوابع” لابن شهيد الأندلسيّ. ت.416 هجرية، و”العمدة” لابن رسشيق القيراوانيّ. ت. 426هجرية. ومنها إلى كتاب “تلخيص المفتاح” للقزويني. المتوفي 739هجرية).
ثالثا: ما الذي أريد أن أقولَه مستغلّا أو مستثمرا – “يحقّ للعريس ما لا يحقّ لغيره” ؟!
رُقيّ الحركة الأدبيّة منوطٌ بعمليّةِ تبادليّة تكافليّة بين الأدباء والنقاد والقراء، فعلى النقاد النقد بعيدا عن القريظ وبعيدا عن “موزنة” العمل الأدبيّ بمعايير جامدة، خصوصا إذا كانت مستوردةً غيرَ مبنيّة على الموروث، وإلا صار النقدُ حاجزا في طريق الابداع و- “اللي بده يزعل يدق راسه منّي وجر”. وعلى الأدباء نقد النقد، بتخطّي حدود خارطة طريقه دون وجل ول-“يتشوّش” تفكير النقّاد (يا د. محمد- كان قال في نقده الرواية أن إطلاق الصفة “روانصيّة عليها قد شوّش عقله) . وعلى الفريقين، الكتّاب والنقّاد، أن يدركا أن الناقدَ الأخيرَ هو القاريءُ فهو الضحيّة (بين أقواس أو بدونها)، وحتى لو لعن الكاتبَ، فمعناه أن الكاتبَ استفزّ فيه شيئا، وهذا هو المطلوب.
وكمثال على هذه التكافليّة التبادليّة بين الكاتب والناقد والقاريء، سأجعل “الموس في لحيتي” !
فهذا الناقد (د. محمد) يقول:
“أيُّ متابعة لطرقِ السرد عند سعيد نفاع لن تبعدَه عن هذه الحالة ( همّ الشكل الفنيّ)، مما يضعُنا أمام أمرين: عدمُ معرفة سعيد نفاع بطرق السرد الفنيّةِ الحديثة، أو نفيِ هذه الطرق… فالراوي كليُّ المعرفة مثلا، وبأشكاله وقدراته الفنيّة المختلفة، لا نكاد نعثر عليه في أيِّ من نصوص سعيد نفاع.”
ويضيف: “… ولكن ما أعرفه أن هذا التذييل (روانصيّة) شوش تفكيري قبل قراءة الرواية وأثناءَها. وقد لفت نظري صديق أعرفُ مني في مجال الرواية والنقد، إلى أن التذييلَ المذكورَ فيه محاولة للتهرب من النقد، بمعنى إذا عاب النقدُ الرواية، عندها يستطيع الكاتبُ أن يقول: هذا نصُّ رواية وليست رواية.”
وأما القاريء (مصطفى عبد الفتاح- الكاتب) فيقول، أن سعيد نفاع يعلن وفي مقدمته أنه يكتب روايةً مختلفة، لا تخضع لقوانينَ الروايات. ويضيف:
“من الصعب أن تكتفيَ بقراءة الرواية مرّة واحدة فقط، ستجتاحُك فورا عشراتُ الأسئلة، ستقف وتفكر طويلا بكل كلمةٍ بكل جملةٍ بكل فقرة، وستقف حائرا هل قرأتَ روايةً جميلة هادفة لها رسالةٌ عميقة أم أنك قرأت نصا فلسفيّا عميقا بحاجة لإعادة القراءة كي تستوعبَ ما يقوله الكاتب؟ وفي كلا الحالتين ينتابك شعور من المتعة والسعادة في كل كلمة في الرواية فهي تشدك إليها بكل قوة، وتأخذك إلى عوالمَ شتى لتدخلَك في مواضيعَ مختلفة”.
وأما أنا فأقول:
في “مذيّلةٍ” لمجموعتي: مأتم في الجنّة- أواخر ال2011. كتبت:
تناولت كتابة “المقطوعة” الأدبيّة منذ شبابي المبكر وما ألهاني عنها، نادما، إلا الغوصَ (أو الغوصُ) في العمل السياسيّ الاجتماعي. تناولتها بعيدا عن النظريّات والتعريفات وصنفت ما كتبت تحت باب “القصة القصيرة”. كتبت وأكتب ما أحس فيه وما أجد به حاجة لإيصال رسالة، مدعيا أنه إذا أفرح ما كتبت أو أحزن، أو أتعب أو أراح، أو أغضب أو أسر، أو ثور أو هدأ، أو حتى سبب لي الشتيمة فقد وصلت الرسالة.
أومن بالمثل الصيني: “من يفكر بوضوح يعرض بوضوح”، فابتعدت عن الطلاسمَ رغم إني طرقتها في بعض القصص- النصوص، اكتفاء لشر الحداثة والحداثيين، فكتبت إشراقاتي محاولا قدر الامكان التبسيط. لذا لم أتعب نفسي يوما كثيرا بلون فستان المقطوعة ولا بشكل تسريحة شعرها ولا ب”المكياج” الذي تغطي بها وجهها، وهذا لا يعني أني أهملت ذلك كليّة. ولكني هكذا أطلقتها، ومرجعيتي قولُ ابن الرومي عندما سألوه عن أحب أبيات شعره إليه، فقال بتصرف: “شعر الشاعر كأبنائه، فيهم السليم وفيهم العليل، وفيهم المعافى وفيهم السقيم، وكل عزيز على قلبه”.
ف- “الروانصيّة” اشتقاق واع لا هروبا ولا تهربّا. فهل كان أي سرد يستطيع أن يعطيَ حبَّ راشد العبثيّ أكثرَ من نصّ “أفروديت”؟ وها كان أي سرد يفي اغتصابَ الخال لابنة اخته الطفلة، ومكانةَ ودورَ المرأة في مجتمعنا أكثرَ من نص “الخيمة والنخل” ؟ وهل كان أي سرد يفي بكاءَ الرجال حقَّه أكثرَ من نص “لن أخونَ أمي مرتين”؟ وهل كان أي سرد يفي الخيانةَ، بكلّ أوجهها، حقَّها أكثرَ من نص “الرسالة اليتيمة”، رسالةُ الأخت التوأمِ لأخيها ال- “تركها” شابا ؟ أو قضيّةَ الثقة بالنفس في نصّ “الرسالة القديمة”؟ أو اعتمادَ الشك بوصلتَنا في نص (شعري) “انتصار الشك”؟
لم أعتقد ولا أعتقد ؟!
ثُلّةٌ كبيرة من النقاد يعتبرون أن روايةَ “زينب” لمحمد حسين هيكل، المتجددة بعد الحرب العالميّة الأولى، وباسمها الأول “الفلاح المصري” في لبوسِها الأسبق في العام 1909م. هي الروايةُ العربيّة الأولى، فما الذي اختلف في غالبيّة ما نقرأُه اليوم من روايات، وبعد 110 سنوات عن رواية “زينب”؟!
أما في القصة القصيرة… أليست بعض مقامات بديع الزمان الهمذانيّ قصصا قصيرة ؟! فلماذا نتوّج نحن تشيخوف، وموباسان، وألان بو آباء للقصّة القصيرة؟!
وعودٌ على بدء. هؤلاء، الكاتب والناقد والقاريء، ثلاثةُ أضلاع الحركة الأدبيّة. فلا رقيَّ فيها إن لم يُجَد الكاتبُ المتمرّد، والناقدُ الشرس، والقاريءُ المُستفَز.
رابعا: بعدّ لم أقلْ وقد أطلت الفاتحة !
يعزو بعضٌ كثير فشلَ روّاد الحركة النهضوية التنويريّة العربيّة، التي انطلقت في نهايات القرن التاسع عشر وأوائلَ العشرين، في “نقدهم” مجتمعاتِنا للنهوض بها، إلى اتباعهم “محاكاةَ” الغرب رغم اختلاف الموروث. فهل نقادُنا يسلكون مسلكَ النهضويّين التنويريين بمحاكاة قواعد النقد الغربيّة، ثمرةَ ثقافتهم في الجامعات الغربيّة بنسختها الإسرائيليّة، بدل أن يؤسسوا على “تلخيص المفتاح” وانطلاقا من اختلاف الموروث ؟!
فلماذا نجد في نقدهم:
“إن الكاتبَ استطاع وبناء على نظرية جورج أن…”
بدل أن نجد: “إن الكاتب استطاع وبناء على نقد النثر لقُدامة بن جعفر أن….”
أو نجد: ” إن الكاتب استطاع وبناء على ما اعتقد أن…”
سؤال أتركه مفتوحا !!!
وأخيرا، لا بدّ مما ليس منه بدّ:
فيا مفيد…
يروى أن امرأ القيس عندما أراد أن يردّ جميلا للإمبراطور البيزنطي على دعمِه إياه في الأخذ بثأر أبيه، وما عنده ما يردّ، قال له: “وما يجزيك منّي غيرُ شكري إياك”.
حالت حقيقةُ وجودي في الأسر وهمومُ ما بعد الأسر دون أن أوجه، حتى اليوم، ل-“دار الأماني للنشر والتوزيع م.ض.-عرعرة” لصاحبها الكاتب مفيد صيداوي، ما تستحق من شكر وتقدير على لفتتها الوطنيّة، إذ تبنت وطبعت ووزعت وما زالت وعلى نفقتها الخاصة روايتي “وطنيّ يكشف عُرْيِي”. فكثيرون رأَوا الرواية وربّما قرأوها قبل أن تقتحمَ جدران وأسلاكَ السجن عليّ لأراها، فتنيرَ عليّ ظلماتِ الزنازين، وتمنحَني الفرحَ النابع من أن في الدنيا ما زال الكثيرُ من الخير والخيّرين.
لستَ يا مفيد الإمبراطور ولست امرأ القيس، ولكن وجدت في قوله أبلغَ ما يمكن أن أقولَ لك ف- “ما يجزيك منّي غير شكري إياك”.
أما النقاد: لو تعرفون ما قال الناقد أحد أبطال نوال السعداوي في روايتها “زينة” ؟
“مهنة، النقد الأدبيّ متطفلةٌ على الأدب الحقيقي والفن، مثلَ الديدان الشريطيّة، نحن نقادُ الأدبِ لسنا إلا مبدعين فاشلين، نعوّض عن فشلنا بنقد أعمال الآخرين، نحن عاديّون، مثلُ بقية البشر، ليس عندنا موهبةٌ، نحاول الوصولَ إلى الأضواء عن طريق تلميع إبداع الآخرين، نحن مثلُ ماسحي الأحذية.”
للوهلة الأولى، ما يتبادر إلى الذهن أن نوالَ السعداوي ب-“تبْحش على قبر أبو النقاد”، ولكن تعمقّا في قولها يوردنا إلى خلاصة، أرادت ذلك أو لم تُرد، أنه عندما يكون النتاجُ الأدبيّ أحذيةً يصير النقادُ ماسحي أحذيةٍ. فلا نتاجَنا الأدبيَّ أحذيةٌ ولا نقّادَنا ماسحي أحذية.
فيا د. نبيه…
عرفتك استاذا وللمرة الأولى عندما أخذتني من يدي طالبا في الصف الحادي عشر، إلى زاوية في ساحة المدرسة “تنقدني” حول مقال لي في مجلة “الغد” تحت عنوان: “أي مستقبل للشباب الدروز”… ومن ثمّ أطلقت لنا المجلّة الطلابيّة “الشعلة” منبرا.
ثمّ تابعتك ناقدا مشهرَ الحسام لا تهاب الوغى، لا أعرف لماذا أحسّ أنك أغمدتَه، لو تعرف كم نحن بحاجةٍ لمن يسيّلُ منّا الدماءَ بين الفينة والأخرى، فجرّد حسامَك فنحن جدُّ محتاجين إليه!
وأما د. محمد…
عرفتك عن قرب من خلال تأسيسِنا اتحاد الكرمل للأدباء، وكان لنا حديث عن النقد والنقاد، وتابعت دراساتِك النقديّةَ قراءة وسماعا أحيانا، وشدتني فيها الشراسة، فأيها الناقد الشرس لك منّي قول البحتريّ: “قضقضْ عصلا في أسرتِها الرّدى”.
أما نادي حيفا الثقافي وراعيه المجلس الملّي الوطني…
ففقط من يرحلُ مع الأديب حنّا أبو حنا في رحلة البحث عن التراث… أو حتى مع يعقوب يهوشواع (والد أ ب يهوشوع) في طيّات الصحافة العربية في فلسطين 1908 إلى 1918، يستطيع أن يدرك أيَّ جذور تحيون وأيَّ شجرة مباركة تنمّون.
وأخيرا لعائلتي الصغيرة، زوجتي وأولادي “الله يعينكوا عليّ”.
ولكم جميعا: ما يجزيكم منّي غيرُ شكري إياكم.
سعيد نفاع