قيس فرّو… وكي لا تضيع أو تُشوّه الرسالة! رسالة مفتوحة مُعادة إلى الكتّاب والأكاديميّين في الكرمل، وعامّة.

رسالة مفتوحة مُعادة إلى الكتّاب والأكاديميّين في الكرمل، وعامّة.

سعيد نفّاع

23 كانون الثاني 2020م

فاتحة…

الرسالة الأصليّة نُشرت في صحيفة الحديث عدد 23 كانون الثاني 2020، ولكن بسبب خطأ تقني عند الناشر سقطت منها نهايتها والتي فيها كان “بيت القصيد”، وتصحيحًا اقترح الناشر إعادة النشر، فرأيت أن تكون كذلك ومَزيدة.

قرأت بعد النشر بعض التعقيبات ممّن رأوا أنفسهم “متضرّرين” من الكتاب، ويلاحظ المرء مباشرة من خلال قراءة هذه التعقيبات التشنّج غير المبرّر والنابع من قراءة جزئيّة للكتاب، أو حتّى قراءة ما قيل عن الكتاب. إذ إنّ الردود جاءت عصبيّة ومن خلال كيل اتهامات عشوائيّة بعيدة عن النقاش الموضوعي الشرعي.

وهنا أودّ الإشارة إلى إنّ الشهادات وأي شهادات وخصوصًا الأكاديميّة منها لا تجعل من حاملها مثقّفًا إن لم تتعدّ كونها “رخصة عمل”، حتّى لو حصل عليها متميّزًا، ولا تعطيه الحقّ أن يتهجّم على إبداع غيره متسلّحًا بها وفقط، لأنها تكون في مثل هكذا نهج سلاحًا مثلومًا يؤذي ولا يقطع.

وهنا وبكلّ تواضع وأنا “المُقتحم” التأريخ ودون أن أكون “مُدَبْلمًا” أجدني مضطرّا أن أشير إلى أن الفصل الذي يتناول الفترة ما بين 1920 -1948 في الكتاب، كنت تناولته بحذافيره وما سبقه بخمسين سنة في كتابي: “العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى ال-48” وقبل عقد من الزّمن، وفيه ناقشت قيس فرّوا في نقطتين على الأقل حول كتابه الإنجليزي في الموضوع ولم يفسد النقاش للودّ قضيّة إذ لم تكن حاجة لكيل الاتّهامات بالحيدة عن سواء السبيل. وأثلجت عقلي الحقيقة: أنّ قيس أعاد في كتابه هذا صياغة موضوع النقاش من جديد، ولا مجال هنا للدخول في التفاصيل، فليس هذا موضوعنا.

وعودة إلى الرسالة الكاملة والمَزيدة.

أعزّائي!

أذكر أن اليونسكو نشرت عام 1978م معطيات عن التعليم الجامعيّ في العالم، وكانت أفادت: أنّ أقل نسبة للطلّاب الجامعيّين في البرازيل؛ 10 طلّاب لكل 1000 نسمة. كنت حينها طالبًا جامعيّا في تل أبيب وكنّا نصدر، الطلّاب العرب، نشرة جامعيّة تحت اسم “الشيخ مونّس” القرية المُقامة على خرابها جامعة تل-أبيب، فكتبت فيها تقريرًا عن النسبة في القرى الدرزيّة والتي تراوحت بين 3-5 طلاب (حسب القرى) لكل 1000 نسمة وأخفضها في الكرمل، وكان طيّب الذكر قيس فرّو من القلّة أولئك.

الكرمل اليوم يعجّ بالجامعيّين ومنهم كثرة من المبدعين في مجالات شتّى، ولا غرابة أن تُعقد الأماسي الثقافيّة الكثيرة، والأمسية التي عقدتها “دار جدل” قبل أيام في دالية الكرمل احتفاء بصدور كتاب بروفيسور قيس فرّو: “دروز في زمن الغفلة – من المحراث الفلسطيني إلى البندقيّة الإسرائيليّة”، كانت مميّزة جوهرًا وشكلًا، ولكنّ الأمر الطبيعي أن تثير هذه الأمسية بشكلها ومضمونها جدلًا وكمّا من أسئلة وتساؤلات بعضها موغلٌ وبعضها ارتباطًا بالأمسية.

بدءًا، لا يختلف الكتاب موضوع الأمسيّة بالتوجّه لا بلّ وبجزئه كذلك في المضمون، عن كتب أخرى صدرت متناولة الأقليّات البشريّة “المشرقيّة”، وليس فقط الدرزيّة وإن كانت أبرزها، في ظلّ قيام دولة إسرائيل وما رافق ذلك من تداعيات، ولعلّ كتاب الصحافي سميح غنادرة: “المهد العربيّ – المسيحيّة المشرقيّة…”، وكتاب الدكتور نبيه القاسم: “الدروز في إسرائيل بطبعته الأصليّة عام 1976 والمزيدة عام 2019، وكتاب كاتب هذه الرسالة: “العرب الدروز والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة حتّى ال-48” بطبعته الأولى دار الجليل-الأردن عام 2009 والدار التقدّمية لبنان 2010 والطبعات الثلاث الأخرى في البلاد آخرها العام 2018، ومؤخّرا كتاب: “العرب الدروز في إسرائيل” تحرير دكتور يسري خيزران، لعلّها عيّنة.

يختلف الكتاب عمّا قبله في المواضيع المُتقابلة بالكمّ الكبير من الوثائق وبعض الأطروحات وإضافات في سياقات مختلفة، ولكنّ الأمسية بالأمس بطرحها وشخوصها أثارت فيّ السؤال: ما الذي حدا ممّا بدا عند البعض (القضيّة ليست أسماء) والذين اعتبروا حينها مثل هذه الكتب محاولات تبريريّة؟!

تاليًا، وهذا سؤال (والسائل قد يخمّن الإجابة): قيس فرّو ليس “كرمليّا” أو “درزيّا” وفقط، فلماذا تقتصر المداخلات حول الكِتاب في الأمسية على كرمليّين ودروز؟!

وثالثّا، وهذا تساؤل (والمتسائل يعرف عادة الإجابة): قيس فرّو ليس فئويّا كي يفتقد المرء في الأمسية وجوهًا مثقّفة ليست قليلة من الكرمل، فلِما المقاطعة؟! ولا يظنّنّ ظانّ أنّي لا أعرف الإجابة، والملامة تقع ليس بالضرورة على المبادر دون المقاطع، أو المقاطع دون المبادر!

لست في هذه الرسالة المفتوحة بصدد تناول الكتاب، ولكن من الضرورة بمكان أن يقال: أنّ الكتاب يحمل مجموعة من الرسائل الجدّ هامة وفي كلّ اتجاه، وبعضها إعادة صياغة وإيضاح موقف كان طرحه بروفيسور قيس نفسه في كتاب سابق بالإنجليزيّة، وعلى الأقل في محطّتين هامّتين ما قبل ال-48؛ ثورة ال-36 ومعركة هوشة والكساير واللتين كان لهما الأثر الكبير على مسيرة الدروز في البلاد ما بعد ال-48 وبالتالي شقِّ طريق طبقًا ل-“بندقة تاريخ” هاتين المحطّتين إسرائيليّا صهيونيًّا ومتصهينًا، وعربيّا. فلماذا غاب ذلك عن المداخلات؟! ولا يقولنّ أحد إنّ المجال ما كان ليتّسع فهنالك المهمّ وهنالك الأهم!

الرّسالة التي أردتم أن توصلوها أيّها الأخوة في الأمسية واعتمادًا على ما جاء في الكتاب -وأنا أدّعي أنّي أعرف طروحاتكم وبمعزل عن الأمسية والكتاب- هي قضيّة الهويّة، فهل نجحتم؟!

من نافل القول، إنّ الهويّة وقبل أن تكون نيشانًا هي ممارسة ميدانيّة. فأين مثقّفو الكرمل من المشهد الثقافي العربي في البلاد؟! لماذا لا يأخذون فيه الدّور اللائق بهم في هذا المشهد ميدانيّا ولهم فيه، انتاجًا، باع طويل؟! وللمثال: قبل مدّة عُقد المؤتمر الثقافي الأول برعاية الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48 غابت عنه كلّ الوجوه الإبداعيّة من قرى الكرمل!

كيف يمكن أن نوصل الرسائل التي نحملها وكتاب قيس فرّو يحملها وجاء ليزوّدنا ب-“كواشين” إضافيّة تدعيمًا لهذه الرسائل ورفع أيّ شكّ حولها، كيف يمكن إيصالها إن غِبنا عن المشهد الثقافيّ العربيّ ميدانيّا، وبقيت الرسائل في نطاق الكرمل وأكّاديميّيه وبين يديّ بعض الأكاديميّين هنا وهنالك وبعيدًا عن الناس، خصوصًا والمتربّصون بها أكثر من كثرة؟!

الإيصال أو التوصيل المطلوبان ليسا من باب رفع تهمة وتبرئة ساحة وتجميل حال، فكلّ الكتب التي صدرت ليست هي لوائح دفاع وتبرير مثلما ذهب ويذهب البعض وكرمليّون منهم، هي لوائح اتهام وبيّناتها: “من فمكم ندينكم”، اتّهام للمؤسّسة واتّهام لذوي القربى واتّهام للغَفَلة منّا؛ الغافلين منهم والمُغفَّلين.

الإيصال والتوصيل لرسائل قيس فرّو لن يتمّا إن جاءا استعراضيّا انتقائيّا، ووسيلة لما يخدم الموصل (المتداخل) وقناعاته، الإيصال الصحيح هو ذاك الذي يشقّ الطريق سهلة أمام الرسالة، ولا يستقدم عِداءً للكِتاب من “المتضرّرين” وإنّما ذاك الذي يضعهم في مواجهة أنفسهم ويستحثّهم إلى قراءته لا بل ويفحمُ البعض من أصحاب “عنزة ولو طار”. فهل أوصلت المداخلات الرسائل؟! حقيقة لا أدري رغم الشكّ!

الكلام أعلاه كُتب طبعًا قبل أن أقرا التعقيبات “المتشنّجة” حول الأمسية والكتاب، وبالذات تعقيب الأخ زايد خنيفس المقتضَب، وتعقيب الأخ منصور معدّي المطوّل. لزايد أقول: قيس فرّوا في كتابه الإنجليزي عدل الشيخ المرحوم حسن خنيفس وأيّما عدل، وتطرّق إلى وفد جبل العرب للصلح وبموضوعيّة مطلقة، ولا تذهبنّ بعيدًا في علاقات الشيخ المرحوم صالح خنيفس وأنت تعرف وأنا أعرف ومن فم ولسان الشيخ، خلاصات الشيخ في هذا الموضوع، فالأسهم يجب أن توجّه ليس إلى قيس فرّو وإنّما إلى “الغدّارين” من الحركة الصهيونيّة الذين كتبوا ما كتبوا، وما جاء قيس إلّا ليضعها أمامنا مشعلا نستفيد منه وليس من باب إهانة أحد حيّا كان أو ميتًا.

ونفس هذا الكلام أقول للأخ منصور معدّي، مع قلّة معرفتي به، رغم استعماله كلمات مهينة في حقّ المؤرّخ والمتداخلين، ولكن تكفي الإشارة إلى أمر واحد ممّا يكتب كي يكون مؤشّرًا على المبالغة في كلّ ما كتب، يقول منصور: ” والكتاب يُعدّ، ومن وجهة أكاديمي باحث في موضوع التاريخ والمختص ببحث هذه الفترة… يُعدّ تسيسًا للتاريخ ودحض الحقيقة التاريخيّة من أجل تحقيق أجندة فكريّة عصريّة حديثة. وكذلك رهان على تاريخ طائفة التي ضحّت الكثير… وقامت بإنقاذ 250,000 عربي من خطر النزوح واللجوء، أمر لم تقدم على عمله كل الجيوش العربيّة المتخاذلة آنذاك.”

لست في صدد نقاش طروحات الاخ منصور، ولكن يا أخ منصور، إنّ كلّ من تبقى من العرب بعد ال-48 من النقب جنوبًا حتّى فسوطة شمالا: 102,000 أضيف إليهم لاحقًا أهل المثلّث باتفاقيات الهدنة بين الأردن وإسرائيل، وقرابة ال-25 ألف الذين عادوا لأسباب مختلفة، وقرية عيلبون مثلّا، ليبلغ مجموع من تبقّى 156,000، وهذا مجمع عليه في كلّ المصادر؛ الأمميّة والعربيّة والصهيونيّة. فمن أين أتيت بال-250,000، فلا يُعقل أن نتّهم غيرنا بعدم الدقّة ونرتكبها في فاتحة كلامنا؟!

وأخيرًا وبعودة إلى الرسالة الأصل.

الغفْلة التي يطرحها قيس فرّو ليست قضاءً وقدرَا، وقد شهدت المسيرة وانطلاقًا وعلى خلفيّة ما يطرحه قيس، صحوات عادت دالّتها البيانيّة لتنحدر، ولعلّ أبرزها في عقد السبعينيّات وأقواها في العقد الأول من الألفيّة الحاليّة (راجع بحوث مؤتمر هرتسليا والقسم المتعدد الثقافات في جامعة حيفا)، ولكنْ على ضبابيّة الغفلة التي يتناولها قيس فهي أقلّ ضبابيّة من الغفلة التي تجتاح الدروز في العقد الأخير.

ولعلّ تساؤل المتداخلة تفاحة سابا في نهاية مداخلتها وبما معناه: “هل ستكشف لنا الأيام مستقبلاً وثائق أخرى عن زمن غفْلتنا اليوم”، تساؤل له ما يبرّره!

فهل تعتقدون أيها المثقّفون التنويريّون وطنيّا واجتماعيّا (العمّال قبل الأكاديميّين والمرأة قبل الرجل) في الكرمل وفي كلّ قرانا، إن الرسائل التي حملها كتاب قيس فرّو ستصل وتزيح عنّا الغفْلة إن بقينا خلف حواجز: منكفئين في جغرافيّتنا، وعلى حمائليّتنا، وعلى حزبيّتنا، والأهم على ذواتنا نتغنّى ب-“إنجازاتنا” الفرديّة ماديّا وروحيّا، وتبقى شهاداتنا مجرّد رُخص عمل، والنرجسيّة ديدنُنا، والتقوقع الفئويّ ومن ايّ نوع كان دينُنا؟!

فدرهم عمل مع الناس وبين الناس خير من قنطار وعظ آتٍ من الأبراج العاجيّة وبالصياغات البلاغيّة، وحتّى لو جاءت في مؤلّف هام كالذي نحن بصدده!!!

في آخر سهرة ليست بعيدة جمعتنا؛ بروفيسور قيس والشاعر أسامة ملحم وأنا وآخرين، كانت بعض هذه الأسئلة والتساؤلات موضوعَها. والتوافق كان: إنّ على “النُخَب” الدرزيّة أن تتخطّى كل الحواجز حولها وبينها في عمل مشترك وحينها يمكن للغفلة وليدة الغفلة أن تمّحي.

قيس فرّوا ليس كرمليّا فقط، ولا درزيّا فقط، ولا فئويّا بتاتًا لا اجتماعيّا ولا طائفيّا لا بشخصه ولا بكتابه!!!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*