أتخيّل وعلى ذمّتي، أنه وبعد النكبة في ال-48، كان هنالك من أهلنا الفلسطينيين في مخيمات اللجوء من يرفض أن يستمع إلى برنامج “سلاما وتحيّة” والتي كانت تبثّه الإذاعة الإسرائيليّة، إذ كان يجول مذيعوها في قرانا العربيّة حالين ضيوفا على المخاتير بعد أن يكون “الناطور” أعلن قبل أيام حضورهم، ليلتم الكثيرون ممن تبقى منّا ممنيّا النفس أن تتاح له فرصة أن يُرسل عبر “أثير دار الإذاعة الإسرائيلية” سلاما وتحيّة لمن شُرّد من أهله، ومن منّا نحن الكنّا صغارا من لا تزال محفورة في قاع مخّه الجُمل سيّدة الموقف ولازمة الرسائل: “سلامي إلى ….. مجهول محل الإقامة” و-“نشكر الإذاعة الإسرائيليّة التي أتاحت لنا هذه الفرصة”.
من نافل القول إن لهذا الكرم الحاتميّ عند المؤسسة الإسرائيليّة كان ما يبرّره خبثا، وأكيد لم يخطر حينها على بال المشرّدين من أهلنا أن الاستماعَ إلى البرنامج هو من باب التطبيع إذ من المؤكد أن هذا المصطلح لم يكن في قاموس العلاقة معنا أو مع إسرائيل، ولكن من المؤكد أنهم وجدوا لمقاطعة البرنامج ألف سبب وسبب ولو أن الامتناع أفقدهم نعمة سماع بارقة حياة لأحبتهم. حتى بعد ذلك وإلى العام 1967 كانت كل علاقة معنا هي كثيرا أكثر من التطبيع، هي خيانة كبرى إن لم تكن أمّ الخيانات.
أعتقد أن التطبيع كمصطلح أُطلق على العلاقة مع كلّ ما في إسرائيل ومع كلّ من في إسرائيل، واعتُمد بعد اتفاقيات السلام مع مصر ومن ثمّ مع الأردن، و”الفاعل” هم نخب سياسيّة ونقابيّة وثقافيّة في هذين البلدين ولحقتهم نخب في بقيّة العالم العربيّ عندما فتحت أبوابها لإسرائيل ودون حاجة لاتفاقيّات سلام، ونحن صرنا في هذا السياق وما زلنا “المفعول معه” سياسيّا ونقابيّا وثقافيّا، حاملين وزر بقائنا!.
لم يترجّل الموضوع عن جدولنا يوما، ولكنه طفا عندنا عشيّة وغداة الأمسية التي أحياها شاعرنا طيب الثرى محمود درويش في حيفا قبل سنوات تلبية لرغبة محبيه على هامش زيارة لأمه المريضة. عندها انتحل كثيرون منّا موقف “الفاعل”، وعاد هذا النقاش قبل مدّة قصيرة ليطفو يوم زار الناصرة الفنان التونسي لطفي بُشناق ولكن بأقل زخم، وها هو اليوم يعود ولكن أقل زخم من “تطبيع” محمود وأكبر زخم من “تطبيع” لطفي بشناق، وهذه المرّة موضوعه الشاعر المصريّ هشام الجخّ الذي تقيم له على ذمّة الراوي صحيفة كل العرب أمسيّة شعريّة في الناصرة مدفوعة التذاكر. (بالمناسبة وربّما لقُدْحٍ في ثقافتي لم أسمع به قبلا).
أقرّ وأعترف بملء فمي أن موضوع التطبيع حقل شائك جدّا، ولا يمكنك إن اخترت المسير فيه أن تنجح بتجنبّ أشواكه، وأكيد أن غالبيتنا هنا ذاقت طعم أشواكه وبعضنا علق في أشواك “قَنْدُولِه” و-“سُوّيدِه” (الله لا يذيقها لأحد!)، وله مع الأشواك قصص وحكايات يستطيع أن يسوقها مثلا يُحتذى أو لا يُحتذى.
المعضلة الأساس أن البعض السياسيّ والثقافيّ في العالم العربيّ لا يرى فقط في العلاقة مع المؤسسة الإسرائيليّة تطبيعا، وهذا يمكن أن يهضمه عقل المرء، وإنما يرانا كجزء من هذه المؤسسة ويذهب إلى أن أية علاقة معنا نحن كأقليّة فلسطينيّة هنا تطبيعا، وهذا لا يمكن أن يهضمه عقل المرء. مع هذا البعض لا مجال للنقاش وهو مزايد إلى أقصى حدود المزايدة، وتستطيع وأنت مرتاح الضمير أن تذهب به بعيدا أكثر. وعلى سبيل المثال شاركت مرّة ب”قبعتي” السياسيّة وليس الثقافيّة كمراقب في المحكمة الدوليّة ضدّ إسرائيل إثر عدوانها على لبنان والتي عقدت في بلجيكا، فانبرى أمثال هذا البعض محتجا على وجودي في حين أنه كان هنالك من القوى العربيّة من لا يصل أولئك إلى أخمص أقدامها موقفا وممارسة فتصدّت لأولئك وليس قبل أن “أبحش على قبور جدودهم “.
الغالبيّة العظمى من أصحاب مواقف “عدم التطبيع” في العالم العربيّ سياسيّا وثقافيّا، حسمت القضيّة في صالح التواصل معنا سياسيّا وثقافيّا، اللهم إلا أنها اقتصرت ذلك على منابرها هي وفي رحاب بلدانها، ليظلّ السؤال الشاغل لنا نحن: هل اعتلاؤهم منابرنا نحن في حيفا والناصرة ويافا تُعدّ تطبيعا؟!
واضح أن القضيّة بالنسبة لهم ليست حيفا والناصرة ويافا، القضيّة هي إسرائيل المحتلّة كامل التراب الفلسطينيّ من النهر إلى البحر، ولن يلطخوا جوازات سفرهم بختم شرطة الحدود الإسرائيليّة، ففي ذلك اعتراف بطبيعيّة ما هو غير طبيعيّ. لو تعمقنا في هذا الكلام لوجدنا أن الاعتراف قائم نظريّا ولكن بحكم الأمر الواقع وغصبا و-“ما في اليد حيلة”، ولكن الزيارة هي الاعتراف بطبيعيّة غير الطبيعي أو تطبيعا وهذا يعني الاعتراف فعليّا.
يُمكن لنا أن نطرق هذا الطرح من جوانب شتى وأن نطرح عشرات الأسئلة صعبة الأجوبة: فما الفرق مثلا بين زيارة شاعر أو كاتب وبين زيارة قريب من مخيمات اللجوء في مصر أو الأردن أهله في ال-48 أو حتى أطلال بيته أو بلدته؟! أو ما الفارق بين زيارة كاتب أو شاعر وزيارة قريب من الشتات الغربيّ الحامل جواز سفر دول الشتات قريبا له في ال-48 أو حتى أطلال بيته أو بلدته؟! وهل ستبقى الصلاة في الأقصى والقيامة أمنِية صعبة المنال عصيّة على المؤمنين من أبناء أمتنا كُرمى لعدم التطبيع؟! ومتى سينتهي هذا الموقف، أبعد قيام الدولة الفلسطينيّة إلى جانب إسرائيل أو فقط بزوال إسرائيل؟!
المُطالب بالأجوبة على الطروحات أعلاه هو “الفاعل”، ولكن إلى أي حدّ علينا نحن “المفعول معه” أن نتماهى مع هذه الطروحات وتماما من الباب المسمّى: التطبيع؟! وهل بالضرورة أن تتطابق أجوبتنا مع أجوبتهم واعتمادا على مسوّغاتهم لعدم التطبيع؟!
بداية أعتقد أن باب التطبيع ليس الباب الذي منه علينا نحن هنا أن نلجَ الموضوع، فليس التطبيع أو عدمه هو الذي يجب أن يحدد موقفنا من الموضوع، يمكن لمن منّا الذي مع الزيارات ويمكن لمن منّا الذي ضدّ الزيارات أن يعللوها أو يبرروها من أي باب يشاؤون ولكن بتاتا ليس من باب دحض أو دعم ادعاءات دعاة عدم التطبيع، ولو على الأقل من باب الفارق المكانيّ بين “الفاعل- صاحب الفعل” و-“المفعول معه – موضوع الفعل”.
هذا ليس معناه الانتقاص من حق أحد من “المفعول معه” أن يؤيّد فعل “الفاعل”، ولكن ليس انتقاص كذلك أن لا يؤيّد “المفعول معه” فعل الفاعل ، ولكن أبدا لا يستطيع أن يفعل “المفعول معه” مؤيّدا كان أو معارضا، فعل “الفاعل” لا شكلا ولا مضمونا.
انطلاقا من ذلك أرى أنه يجب ألا يكون ضير في أن يأتينا من يشاء وأن يستقبل منّا من يشاء من الساسة والمبدعين العرب، فالفارق ليس كبيرا بين أن تُختم جوازات سفرنا على معابر الأردن ومصر والمغرب وقطر والسعوديّة، وبين أن تُختم جوازات سفرهم على المعابر الإسرائيليّة أو بلادنا إن شئت، بغض النظر عمّن يُشغلها.
فليس بدخولنا المغرب أو السعوديّة اعترافا بديموقراطيتهما وقدسيّة حقوق الإنسان فيهما، وليس بدخول أمثالنا من العرب بلادنا اعترافا بديموقراطيّة إسرائيل وحقوق الإنسان فيها، ولا حتى اعترافا باحتلالها فلسطين لا في ال-67 ولا حتى في ال-48، وإذا كانت القضيّة حول تجميل ديموقراطيّة إسرائيل مثلما ذهب البعض منّا فلنا ألف موقع نجمّلها فيه وندفع الغالي والرخيص في سبيل الوصول إليه.
نحن بحاجة لرفد متواصل لقوانا سياسيّا وأكثر ثقافيّا خصوصا وأننا محاطون بجدران عزل مرصوصة البنيان كنّا وما زلنا بأمس الحاجة لدكّها، فالتواصل بيننا كأبناء أمّة سياسيّا وثقافيّا وفي الاتجاهين، هو ضرورة وحاجة لازمتان وبالذات على ضوء وضعنا الخاص، وهو رافد قوّة وتحصين يجب أن تصغر في سبيله الكثير من الادعاءات الأخرى على صحتها النسبيّة، وما يصحّ لنا ليس بالضرورة أن يصحّ لامتدادنا، ولذا فالموقف يجب أن يكون منطلِقا من ربوع قرانا المهجرّة وليس من الصالونات في القاهرة كانت أو في عمّان مع الحقّ الكامل لرُوّادها في الخيار والموقف.
التطبيع في سياقنا هو فعل يخصّ “الفاعل” ونتاج ظروفه، وكوننا “المفعول معه” وإن اتفقنا مع هذا الفعل أم اختلفنا معه لا يمكن أن يكون ومسوغاته، وفي الحالين: الاختلاف والاتفاق، مرجعا أو مصدرا لأي موقف نتخذه من وفي الموضوع، مرجعنا ومصدرنا لبناء موقفنا هما وليدا ظروفنا ومنهما يُختزل الموقف بغض النظر إن كان مع الزيارات أو ضدّ الزيارات، وفي كل الأحوال مصطلح التطبيع ليس المسوّغ ولا يمكن أن يكون المرجع والمصدر.
سعيد نفاع
أواسط شباط 2015