محمّد بكري، ليس أصعبُ على المضحّي من تركه أعزلًا من موقفٍ ممّن ضحى في سبيلهم وهذا أضعف الإيمان.

 

محمّد بكري- تضامن رام الله 4.2.20

الأخوات والأخوة

بدءًا، لا يستطيع المرْء في مثل هذه الأمسية أن يمرّ على المسرحيّة الهزليّة والتي تحمل عنوان: صفقة القرن. وأرى أن أتشارك وإياكم بيانَنا: الاتحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48، فاتحة لكلمتي.

كلّ كلمة “قرف” يمكن أن تقال أو تُكتب حول المسرحيّة المهزلة التي شهدها البيت الأبيض المُقام على جماجم الهنود الحمر، كلّ كلمة كهذه أكبرُ من المسرحيّة بشخوصها ومضمونها ومنتجيها ومخرجيها والمصفّقين فيها.

حقوق الشعوب لم تكن مرّة بضاعة في صفقات، فالعمليّة ساقطة من مجرّد تسميتها. حقوق الشعوب تصنعها الشعوب بعرقها ودمها، ولا يصنعها الغرباء، ولا تُمنح من أحد وأيّا كان، ولا يقرّرها أحد وأيّا كان أو كان موقعه وانتماؤه، وأيّا كانت مرجعيّاته الفكريّة الغيبيّة الظلاميّة، أو السياسيّة العنصريّة البهيميّة.

الشعب الفلسطيني، شعبنا، كالعنقاء طائرنا العربيّ، خرج من كلّ المحارق عبر تاريخه، وهو قادر أن يخرج ليس فقط من وعلى هذه المحرقة، فقد تخطّى قبلها كلّ محاولات الإبادة الوجوديّة وبالتالي إبادةِ حقوقه الوطنيّة في ثوابته؛ الدولة المستقلّة والقدس عاصمتها والعودة.

شعبنا الفلسطينيّ لم يضيّع الفُرص كما يحلو لبعض الصفَقة القول، فالفُرص التي يتحدّثون عنها لم تكن إلّا للنّيل من حقوقه الأساسيّة الأوليّة، دفع الغالي والرخيصَ كي يسقطَها وأسقطها رغم الأثمان الغالية التي دفعها وما زال، والتي ترخص أمام ما كان يمكن أن يكون لو قبِلها. الفرصة الوحيدة الحقيقيّة ضيّعها “أبطال” مسرحيّة الأمس؛ حين رفضوا المبادرة العربيّة للسلام بيروت 2002م، فرصةٌ من المشكوك فيه أن تعود.

يرى الاتّحاد أنّ الردّ الآنيّ المطلوبَ هو وحدة أبناء شعبنا بكلّ نسيجه الاجتماعيّ وفصائله السياسيّة والفكريّة وفي كلّ أماكن تواجده، بعمل وحدويّ ورؤى وحدويّة وخصوصًا حول تحديد الصراع المركزيّ في المنطقة، فهذا هو السلاح الأقوى في طريق إحقاق حقّه الأزليّ الأبديّ.

والآن إلى محمّد…

نحن كعرب فلسطينيّين في الداخل، نعيش في بلادنا حالةً شبهَ مستحيلة، يستطيع المرء أن يصوغَها بكلمات معدودات بعيدة عن المفردات السياسيّة:

“نعيش في دولة تريد لنا أن نكره كلَ ما يحبّ شعبُنا وأن نحبَّ كلَّ ما يكره شعبُنا وأن نتّخذ حليفًا كلَّ عدو لشعبنا ونتخذ عدوًّا كلَّ صديق لأبناء شعبنا، وحتّى لو كان ذاك العدو وذاك الصديق من أبناء شعبنا وأهلنا.”

كلُّ محاولات المفاضلة بين الوطنيّ والحياتيّ في العلاقة التبادليّة بيننا وبينها، التي اتّبعناها ونتبّعها بتغليب الحياتيّ على الوطنيّ والتي تشهد تصاعدًا وتأخذ في السنوات الأخيرة حيّزا أكبرَ في هذا السياق، لم تُفد ولن تفيد، وما تمسُّكنا بها وتحت أيّ شعار أو تبرير أو تعليل إلّا من باب الانتهازيّة.

لم يكن مرّة الطرح الوطنيّ نقيض الطرح الحياتيّ، وكلّ من يضع الواحدَ في مواجهة الآخر يخطئ للأول ويخطئُ للثاني، لا بل يرتكب خطيئة في حقّ الأول وفي حقّ الثاني.

ولعلّ في كلمات محمّد بكري المُحرّض ضدّه بشأنها البيّنة القاطعة!

فماذا يقول:

محمّد بكري قال: “لن أتراجع عمّا قلت قيدَ أنملة، فالصهيونيّة عدوةُ شعبي في احتلال الأرض وسلب حريّة أبناء شعبي وتعذيبِهم، وسأبقى على هذا الموقفِ حتّى تنتهي الحركةُ الصهيونيّة إلى زوال، لأنها عنصريّةُ غيرُ إنسانيّة، وتحمل مفاهيم العداء للبشريّة. أنا لم أحرّض على إسرائيل ولا على اليهود، بل الصهيونيّة والاحتلال…”

هل شفعت مصطلحات محمّد بكري له: “لم أحرّض على اليهود ولم أحرّض على إسرائيل”!؟

لم تشفع ولن تشفع!

محمّد يقول: سأبقى على هذا الموقف حتّى تنتهي الحركة الصهيونيّة إلى زوال…

محمّد جدّا متفائل… ولكن الأهمَّ أن ندركَ كما يدرك محمّد: أنّ مواجهةَ الصهيونيّة هي في الدرجة الأولى مواجهةُ وطنيّة.

يعتقد البعضُ أنّ في إسرائيل هنالك فصلًا واستقلاليةً سلطات، في هذا الاعتقاد كمّ من السذاجة كبير. هذه الدولة في كلّ ما يخصّ قضايا “الزعرنة” عند اليهود وبغض النظر إن كانوا رؤساء دولة أو حكومة أو مواطنون عاديّون، يوجد سلطةُ قضاء واستقلاليّةُ سلطةِ قضاء، ولكن وحتّى في هذه؛ قضايا “الزعرنة” تختلف الأحكامُ بين العرب اليهود قسوةً تجاه العرب.

القضايا التي تصنّفها المؤسّسة ماسّة في “البقرة المقدّسة- الأمن وغيره من البقرات أو العجلات” يغيب عنها القضاء واستقلاليّة القضاء وتحلّ مكانهما “سياسة قضائيّة” تطغى صهيونيّةُ ويهوديّةُ القضاة وإسرائيليّة القضاة. هذه الدولةُ تعمل في النهار كمؤسّسة وفي الليل كمؤسّسة مختلفة كليّا، لدرجة أن البعضَ يروح إلى القول:

كلّ العالم دولٌ عندها مخابرات إلّا إسرائيلُ فمخابراتٌ عندها دولة.

أمام هذه المؤسّسة يقف اليوم محمّد بكري، ولماذا؟!

دأبت هذه المؤسّسة أن تضربَ كلّ النّخب؛ السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي تراها تتخطّى بطروحاتها والأهمُّ بعملها الهامشَ المُتاح في التأثير على “بقراتها المقدّسة” السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة. فما دُمت تلعب ضمن الهامش فالعب ما شئت إلى ذلك سبيلا!

محمّد بكري من أولئك الذين تخطّوا الهامش بفنّه!

لن يكون شفيعُ محمّد إلّا صمودُه والدّعمُ الشعبيّ والمفقود لشديد الأسف، من هذا الباب تحقّ لمؤسّسة محمود درويش كلمةُ تقدير وشكر، وبفضل مديرها عصام خوري عضو أمانة الاتّحاد العام للأدباء الفلسطينيّين- الكرمل 48، نحن نتضامن اليوم معك، ولا يسعنا إلا التأكيد على:

ليس أصعبُ على المضحّي من تركه أعزلًا من موقفٍ ممّن ضحى في سبيلهم وهذا أضعف الإيمان.

وأخيرًا… محمّد بكري وأنا كنّا زملاء دراسة في الثانويّة وتشاركنا في الصفّ التاسع نفس الطاولة، فأتمنى ألا نصير كذلك زملاء سجن وأسر نتشارك نفس “القاووش”!

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*