تحذير: خطر صناعة الوهم
كلّ ناقد كاتبٌ فاشل.. جائز. كلّ كاتب ناقدٌ فاشل.. غير جائز، لسبب مقدّر وهو أنّ الأدب فعلٌ ونقد الأدب حكيٌ. وليس الحكي كالفعل. ولأنه حكيٌ فينبغي أن يكون ذكوريًا في حدّته وصراحته ووضوحه إلى حدّ الفحولة.. أحيانًا. وعذري معي.
ليس لي على مستوى المبدأ موقف معادٍ من الخنوثة إلا إذا وصلت إلى حدّ تضييع الموقف أو تمييعه. أتحدّث عن “الموقف” ولا أتحدّث عن الهويّة الآن. الخنوثة حالة تركيبية تكسر ثنائية القطبين ونمطية التنافر بينهما. ولذلك قد تكون تعبيرًا أو انعكاسًا لواقع سئم من سطوة التفكير الأفقي الرتيب. لكنها من جهة أخرى قد تكون مؤشّرًا إلى منسوب العجز. الخنوثة حالة مركّبة من أضداد، ولا تتجاور الأضداد ولا تتحاور إلا بعد أن تتعطّل القدرة على الحسم والفصل. الخنوثة حالة التفافية على واقعٍ يطالبنا بإصرار بقول الحقيقة. والحقيقة لا تتجزّأ ولا تقبل القسمة إلا على واحد. لكنّ واقعنا نفسه يحمينا من السقوط والعجز بالذهاب إلى الوسط. الوسط يحمي بقدرته على المباعدة بين الخصوم وفكّ الارتباط بين الأنداد. صغار الحيوانات الوليدة يُقصيها أهلها عن الأطراف ويحصّنها بالوسطية في الوسط. قد تظهر الخنوثة في تجاور الإبداع والنقد وما يفرزه هذا التجاور من تحاور. باعتبار أنّ النقد يخلو من معاني البدعة المستترة في شقوق الإبداع. الخنوثة النصّية حالة توتّر مستمرّ بين قسريّة المعنى واجتهادية الدلالة. هي نمط تفكيري دبلوماسي مراوغ يرتقي إلى حدود النسق الثقافي المَرَضي أحيانًا. وهي خُلُق امتدادي تراكمي خليط من “المرافعات” الصاخبة والهمس الخافت…
نجد في أدب سعيد نفاع هذين المعنيين من الخنوثة متجاورين. لعبة الكتابة عند سعيد نفاع تنهض على ترنّح التجاور بين الأضداد والأنداد وما تفرزه بالضرورة من أنماط التحاور كتجاور التصريح والتلويح، والحاضر والغائب، والصائت والصامت، والكتابي والقرائي… وهكذا. وهي لعبة مسحوبة في مرجعيّاتها العامّة من فكرة التقمّص الدرزي.. هكذا أظنّ. سعيد نفاع هو كيان مركّب تقمّصته بعض أنماطنا وأنساقنا الثقافية العامة فصار صورة لها، يجمع الناسخ إلى المنسوخ دون أن يشطبه. تجربة سعيد نفاع الأدبية مثيرة في مادّة القول وأسلوبه. المادّة مثيرة لأنها لا تكتفي بتغطية كلّ مساحة الهمّ الفلسطيني، وتعالقاته الفكرية مع فضاءات أخرى، وإنما تضيف إليه تجربة السجن التي ظهرت على مرحلتين في الأول والآخر. وهي تجربة خاصة تكاد تقتصر عليه في امتدادها وعمقها. قدرته على القول الآيديولوجي تتّكئ على فعل آيديولوجي متواصل منذ كان في أول شبابه. لكنّ تجربته الأدبية استطاعت أن تليّن صخب القول الآيديولوجي، وضجيج الحماس الذي يرافقه، بأدوات كثيرة منها تطعيم الحكائي بأنماط من المُلَح الشعبية وهمس القول الفلسفي المتعالي والسخرية الملوّنة مثلما يليق بواقع محتقن.
لا تعنيني شخصية سعيد نفاع في ذاتها، أولا لأنّ الحكم للأفعال لا للصفات ولا للأسماء. ثانيًا لأنني لست طبيبًا نفسيًا تحليليًا ولا أريد أن أتقمّص شخصيّة الطبيب. النصّ الأدبي هو محاولة لترجمة القصد من اللغة المهموسة المكتومة في الوعي الفردي إلى الكلام المجهور المتداول في الوعي الجمعي. والقصد في المحصّلة الأخيرة هو من مظاهر التشكّل الثقافي العام. وهكذا يعنيني نفاع كحامل وناقل للأنساق الثقافية العامة. القراءة إذًا هي فعل ارتدادي أحاول من خلاله أن أسير بالاتجاه المعاكس الذي سار فيه نفاع: من النسق الثقافي إلى القصد في الوعي إلى “انكشاف” الوعي في اللغة أو الكلام النصّي، لأنّ كلينا نتاج ثقافي حضاري. الكتابة هي المرحلة الأخيرة من تمظهرات الثقافة والحضارة وتشكّلاتها، والقراءة هي محاولة للعودة إلى المرحلة الأولى بالاتجاه المعاكس. وهذا في الحقيقة هو التوتّر الدائم بين الكتابة والقراءة: إثبات ومحو، تشفير وفكّ التشفير، وفكّ التشفير هو تشفير جديد. وإذا كانت كذلك فإنها حالة سيميائية (عضوية) في المقام الأول، تحمل الشيء وضدّه. ولذلك لا بدّ أن تكون المقاربة الإجرائية بمفاهيم سيميائية.
الأدب فعل انتقامي من الذات أو من الآخر. والانتقام هو قتل على شرف الحضارة والثقافة. الانتقام هو في تمظهراته الأولى حزن ممهور بغضب ساطع. لا يكون الأدب إلا ردًا على واقع مستفزّ. ينتقم الأدب من الواقع وتشكّلاته فيسعى إلى استبداله. ويرفض أن يكتفي بدور المرآة المعلّقة في غرف النوم. لأنّ المرآة قد تكون أداة لتفخيم “أنويّة” الأنا. في القِصاص حياة والأدب قِصاص، إن لم يكن الأدب قادرًا على مقابلة العين بالعين والسنّ بالسنّ والردّ على الاستفزاز باستفزاز مثله، فهو باطل. كيف يكون الأدب شريعة مشروعة من شرائع حمورابي إن كان مخصيّا غير قادر على الانتصاب أمام الشرّ؟! وما معنى الاستفزاز أصلا؟ الاستفزاز فعل حضٌّ. فعل أمر. والحضّ من مردودات الإيمان بعقيدة أو بمنظومة فكرية. والإيمان في هذا السياق هو فعل ماض (ومضارع) يتبعه أمر بالضرورة. حين تؤمن بشيء بمصداقيّته وأحقيّته في الوجود والمجاورة لا بدّ أن تستفزّ غيرك وتستنهضه وتحضّه عليه. إذا كان الحزن والغضب هو أول مسوّغات الفعل الأدبي واستحقاقاته فهذا يعني أنّ التفاضل والمفاضلة بين الأدباء لن تكون في هذا الجانب لأنه من طبيعته وفطرته. ليس بهذا يتفاضلون. إذًا بماذا يتفاضلون؟ في التشكّلات الجمالية وحدّتها ومداها وصلابتها ورخاوتها وعنفها ومسالمتها. بعض القصص عند سعيد نفاع نمطية تقليدية حسب مواصفات الموديل الأبوي الصارم في مادّتها وخطابها الجمالي. وبعضها استحداث جميل على كلا المستويين المادّي والجمالي.
لكنّ الردّ هو فعل استجابة، هو التحاق التابع بالمتبوع! وحتى يتجاوز هذا الدور لا بدّ للأدب أن ينتقل من مربّع التابع إلى مربّع المتبوع. لا بدّ له أن يفجّر وراءه موجات من ردود الفعل. لا بدّ أن يفضّ الصمت وأن يُلحق الضرر بمفهوم السكينة والاستقرار الذي يعطل فينا كلّ أشكال التحفّز والاستنفار. لا ينفع الأدب في حداثاتنا المتهالكة إلا للهجاء ولم يخلق للرثاء ولا للفخر ولا للغزل وبالطبع لم يخلق للمدائح. في كلّ هذه الأغراض الشعرية التي انقرضت تمجيد للموديل النموذج المتحصّن في سجن اللغة لا يفارقها. فالمحبوب “كامل الأوصاف” هو هرطقة لغوية، في أفضل حالاتها، وليس صورة أيقونية. ليس هناك محبوب أو مرثي أو ممدوح يرتقي إلى درجة الكمال في الواقع فتأتي القصيدة لتعوضّنا عن حالة الغياب هذه. وهذا هروب من الواقع المهيمن وتزييف للثقافة وليس استبدالا لها ولا تصحيحًا لمساراتها. هذا الهروب هو حالة استمناء بها نستبدل الحقيقة بوهم نظنّه حقيقة. يدرك سعيد نفاع، خصوصًا في تجربته القصصية المتأخّرة، قلق الخنوثة في الأدب الفلسطيني. فهو من جهة أولى يتحدّث في خطاب الوهم عن انفراجات افتراضية، ومن جهة ثانية ما زال الإنسان الفلسطيني يتخلّق بثقافة الصدام الطائفي والعائلي والقبائلي والحزبي والجندري والاجتماعي والفقهي والحزبي. وما زال هذا التخلّق يزداد خِسّة ووضاعة يومًا بعد يوم. حين يهجو الأديب، ولا أقول الكاتب لأنّ الكاتب قد يرثي ويفاخر ويمدح، فإنه يفصح عن حزن والحزن موقف مبدئي وينفث سخطًا والسخط موقف عملي. لا حياد في الأدب ولا حياد مع الأدب. لا نحتاج إلى ندّابات أدبية. كلنا نتقن فنّ الندب بالفطرة، هذه ميزة تعلمناها من أجدادنا ورضعناها من أمهاتنا. كانت أمهاتنا وجدّاتنا يبكين في الأفراح والمناسبات الجميلة عند الولادة والشهادة أكثر من بكائهن في حضرة الموت. ويظلّ السؤال معلقًا في الذهن كيف يحوّل سعيد نفاع النصّ الأدبي من نشاط استهلاكي إلى عدوى؟ كيف ينفض عنه آثار المديح وبقايا الفخر والرثاء ويجعله هجاء مستفزًّا؟ ينجح في مواضع كثيرة ويفشل في بعضها. وعليّ واجب البيان والتفصيل فيما يتعلّق بمواضع الفشل.
(1) “التصفيط” و”السهسلة”: توتّرات الكتابي والنقدي
“التصفيط” ممنوع في الأدب و”السهسلة” حرام. والفرق بين الممنوع والحرام هو كالفرق بين الخطأ والخطيئة… “الدوري المهاجر” هي مجموعة مجموعات كان سعيد نفاع قد نشرها على امتداد عقود. ما يعني أنّ المسافة الزمنية الفاصلة بين المجموعة والمجموعة قد تركت آثارها الواضحة على جماليّات الكتابة. لكنّ جمعها هنا لم يراعِ امتدادها الطولي بل جاء “تصفيطًا” نمطيًا. بعثرها نفاع وألغى تراتبها وتتابعها ليعيد ضبطها بقواسم مضمونية مشتركة.. ضلّ وأضلّ. التصفيط النمطي، أو التنميط “التصفيطي” باختصار بليغ، على النحو الذي نراه في مجموعته الجامعة، هو ممارسة نقدية ذاتية لاهثة، تخفي شيئًا من أثر الرغبة الفرويدية المكتومة. التنميط أداة إجرائية لمواصلة السيطرة على النصّ وتكريس نسق التوصيل. والأدب تواصل وليس توصيلا، أو هكذا ينبغي له أن يكون. تنميط القصص في قوائم مضمونية أو فكرية هو محاولة بريئة في دالّها القصدي خبيثة في مدلولها، والخبث ليس شرًا بالضرورة، لأنه ببساطة محاولة “لسهسلة” الأمور أمام القارئ ومنحه طرف خيط.. السؤال: هل نفاع وحده يملك الخيط، أو طرفه؟ ثمّ ألا يكون طرف الخيط مهترئًا أو قصيرًا لا يوصّل ولا يتواصل؟ إذا تحوّلت أنماط “التصفيط” إلى أنساق فكرية ثقافية، في المشهد الأدبي الفلسطيني في الداخل، فإنّ النتيجة ستكون كارثية.
لو نظرنا مثلا إلى واحد من تلك الأنماط التي “يقترحها” نفاع وهو نمط “النكبويّات” لوجدنا أنّ التفكير القبْلي، الذي يسبق هذا القرار بالتسمية، يقوم على فكرة الانشغال بالعلل لا بالمعلولات. بهذا الانشغال تصير النكبة حالة فكرية عامة، بعد أن كانت ظرفًا تاريخيًا جللا. حتى اللغة قد تُصاب بعدوى الحالة النكبوية وتولّد نصًا منكوبًا لا يلد إلا معنى قسريًا ممسوخًا. وهل نحن في حاجة إلى مواصلة التأكيد على بكائيات النكبة؟ ألسنا في حاجة إلى تجاوزها إلى الأثر؟ التفكير النكبوي، بفعل احتقان اللفظة نفسها بالمأساة، يغري بالبكائية والنواح والعويل، ما يدفع بالتالي إلى احتراف التوجّع والتفجّع. والثقافة العربية بعمقها وامتدادها تؤنّث البكاء لفظًا وتمارسه فعلا. تنسبه للنساء على الملأ ويمارسه الرجال بالستر. تمارسه المرأة على مستوى الدالّ ويمارسه الرجل على مستوى المدلول.
وبالعودة إلى الكتابة ذاتها التي تتجسّد في قصص نفاع يلاحظ القارئ أنّ الكاتب يجتهد في قراءة الواقع الذي ينتمي إليه، بكلّ ارتجاجاته وانشطاراته، وهو يفعل ذلك على مسارين متقاطعين: (1) تحديد أدران الواقع، وهي تستدعي المعاينة العاجلة، (2) تحديد العلاج المناسب.. بهذين المسارين، الداء والدواء، لا يخرج نفاع عن الإجماع الأدبي العام ولو قدر أنملة. سعيد نفاع يجرؤ على “التصفيط”. و”التصفيط” فعل لأنه ليس حدثًا عارضًا عابرًا بل تسبقه مواقف ونوايا، وقد تكون “غير مقصودة”. ما يفعله نفاع في هذا “التصفيط” هو فعل تسمية، أو بتعبير أدقّ، هو فعل عنونة، والعنونة من آليات الاختزال. والاختزال تجنيد للمعنى وحشد للحقيقة. يحرّرنا نفاع في فعله هذا من قسرية التتابع الطولي الامتدادي، الذي ظهرت فيه القصص، ليفرض عليها وعلينا قولا نقديًا خجولا لا يجرؤ على المجاهرة به بالضمير المنفصل. “التصفيط” قراءة على قراءة. والقراءة على قراءة هي فعل توجيه وترشيد بالإضمار المستتر أو الالتفافي. وهو فعل أبوي يحتفظ نفاع من خلاله بحقّ الكتابة والقراءة، بحقّ الرأي والرأي الآخر. وهذه من الآفات الأدبية.
إذا كانت الكتابة في ذاتها قراءة للواقع فإنّ نفاع في هذا “التصفيط والسهسلة” يقرأ قراءته، أو هو يضيف على قراءته الأولى مزيدًا من القراءات. لأنّ القراءة الثانية التي تتكرّس بفعل “التصفيط” تصبح مع تراكم الزمن في حكم الفرمان، من باب “وهل هناك أعلم من سعيد نفاع نفسه بقصصه أصلا؟!” وهكذا يحاول نفاع، من حيث يدري أو لا يدري، والنوايا لا تعنينا بقدر ما تعنينا العواقب، السيطرة على طرق إنتاج المعنى/الحقيقة/المعرفة وطرق الاستهلاك الثقافي على حدّ سواء. إذا كانت “القراءة” في فعل الكتابة، قراءة الكاتب لواقعه، تُفضي إلى تشفير القصد (Encoding) فإنّ قراءة القارئ في مقابل ذلك هي محاولة لفكّ التشفير (Decoding). وفكّ التشفير يحوّل النصّ إلى مستهلَك مستنفَذ. التأويل إذًا “يميت” النصّ. وهكذا يسعى نفاع بهذه المحاولات الاقتحامية إلى إحياء القصد باللغة وإماتته بالتأويل. وليس هناك من يحيي ويميت إلا الله. وهل هذا التفكير النمطي غريب على أنساقنا الثقافية السياسية الفحولية؟! “السهسلة” و”التصفيط” والتنميط من هواجس الإله الصغير.
سعيد نفاع مفتون بسطوة اللغة وقدرتها على المواجهة والصدام. لكنّ النصّ الأدبي أنثوي تحتي مراوغ خجول يتأتئ أمام الحقيقة. والفعل النقدي ذكوري فحولي فوقي صاخب. وهذا الافتتان أوقعه في حيرة وارتباك فسعى إلى الجمع بينهما في تصالح مؤقّت تبدّى في ثلاثة أنماط، تسرّبت من الشقوق المباحة في وعي سعيد نفاع الكاتب، هي ثلاثة بنود تعاقدية. والمصالحة هي تفكير وسطي يضمن حقّ الطرفين: 1) التنميط في “التصفيط” في ممارسات نقدية قبْلية ذكية ومتذاكية، 2) التعليق النقدي البَعدي في ممارسات شبه نقدية مستقلة، 3) ممارسات نقدية على استحياء في النصوص نفسها، وهي على نوعين: (أ) تعليقات في النصوص، انظر “رسالة مؤجلة من عالم آخر” أو “أو – فورتونا وصديقتي”، (ب) ملاحظات لاهثة في التجنيس الأدبي تطال مسألة العلاقة بين الحالة التجريبية والنموذج المثالي الأبوي.
تنزع نفسي الصاخبة إلى نبر النقد لأنّ حاجة النقد إلى قلّة أدب أكبر من حاجته إلى الأدب والتأدّب. تميل نفسي إلى وهج الحقيقة. وقد يتّهمني بعضهم بأني في هذا الذي أقوله أتذيّل النسق الإفحامي في الثقافة العربية المتراكمة. والإفحام فعل تصفية بالضربة القاضية لا تقوم للخصم بعدها قائمة ليحاجج ويحاور. الإفحام نسق استبدادي مأنوس في ثقافتنا الممتدّة قبل عصر الاستبداد الحديث بقرون. وإن كان لا بدّ من ثقافة الإفحام في بعض الأحايين فلتكن في نقد الأدب لا في الأدب.
(2) الحكائي والفلسفي: توتّرات التلصّص والحوارية
التقينا عام 1990 في بيت جن وسألني: “هل فعلا تحتاج قصّتنا إلى بعض الرمزية؟” تعليقًا على كلام كنت قد قلته في ذاك اللقاء. اعتقدت وقتها أنّ القراءة الأدبية بطبعها عملية تبادلية ذات اتجاهين أو انفعالية تفاعلية وهي لا تصير كذلك إلا إذا استطاعت اللغة:
- أن تخون ذاتها في تفعيل حقّها في التجاوز والمجاز. إذا كانت اللغة وظيفية تواصلية بالفطرة فلا بأس أن تحاول الإفلات من فطرتها ولو بصفة مؤقّتة. فالتبادلية والأخذ والردّ في عملية القراءة، التي تنقلنا من قراءة الشرح إلى التفسير ثمّ التأويل، تحتاج إلى بعض اللزوجة اللغوية للتملّص من مواجهة الحقيقة.
- أن تمارس نوعًا من النرجسية الشعرية في احتفائها واحتفالها بمواصفاتها الجمالية الإغوائية. فإذا خانت الحقيقة والتفّت عليها صار من حقّي أن أطالبها بالتعويض؟! والأدوات التعويضية هي في الأخير احتفاء ببلاغة اللغة وتملّص ألفاظها وتراكيبها، وهذا ما يضمن تفاعلا لكنها لا تضمن تبادلية، وهذا التفاعل يعني الإقبال الانفعالي الذي قد يشكّل مدخلا أو إغراء وإغواء للدخول في موقف حواري مع النصّ.
إذا اجتمعت هاتان الميزتان، الخيانة الشرعية والنرجسية الشعرية، بمقدار متوازن تحقّق الإبداع في أجمل صوره. ولا شكّ في أنّ التفاعل بأشكاله أمر موصول باستعداد القارئ وقابليّته لذلك. والرمز أول مستلزمات الحوارية… هي ثلاثة أنماط من الكتابة الحكائية الصاخبة والفلسفية الهادئة في أدب سعيد نفاع: (1) الحكائية “الخالصة”، (2) “الحكافية” نمط تداخلي بيني توفيقي، Inter genre، يجمع الحكائي والفلسفي في كيان واحد، (3) الفلسفية “الخالصة”. أما النمط الحكائي فله دعامتان مركزيتان: (1) عدد الفعل: وفرة الأفعال الخارجية التي تمارسها الشخوص في الزمكانية النصّية، (2) نوع الفعل: الصخب الحركي وما يثيره من غبار في ميدان النصّ. هذا هو النمط الدرامي الذي يتوجّه بالخطاب إلى بَشريّة القارئ وغريزيّته التحتيّة. قصص سعيد نفاع في مستواها الحكائي مكتوبة حسب الأصول الأبوية للحكاية، ولأنها محتشدة بالنوادر والطرائف والقفشات الغرائبية والمواقف العجائبية التي تميّز مجتمعنا الفلاحي فهي غير مملّة خصوصًا تلك القرويّات والسجنيّات. أما النمط الفلسفي فينتقل نفاع فيه من سذاجة الحكاية إلى عمق التراشق الذهني في القصّة الفلسفية. قصص سعيد نفاع في مراحلها الأخيرة تغفل الحكائي التلصّصي لصالح المساحة الحوارية التي يضمنها المستوى الفلسفي. يليق الصخب بالحكاية لأنها مصنوعة من ضجيج الواقع ومادّة التاريخ، ويليق بالفلسفة الهمس لأنها مصنوعة من هدوء الوعي وعمق الفكر. ومرّة أخرى لا يكفي أن يحزن الأديب ثمّ يغضب ويسخط، لا بدّ له أن ينقل عدوى الحزن والسخط إلى القارئ. وهنا قد يحتاج إلى شحنة من الالتفاف على المعنى والحقيقة. والالتفاف والمراوغة هو أصلا من طبيعة اللغة حتى وإن كانت معيارية. والمراوغة تحتاج إلى مستلزمات واستحقاقات أولها الرمز الذي ينقل اللغة من الحقيقة إلى المجاز. من هنا إصراري على شيء من الرمز يتحدّى القارئ. بالتحدي يتحوّل القارئ من التلقّي إلى المشاركة الفاعلة. وإذا أصرّ الكاتب على ضوضاء الحكائيه فلا بدّ أن يعوّضنا عنه بشيء من لوازمه أو تبعاته. ولمّا كانت الفلسفة في تعاليها وأنفتها الفكرية لا تليق تمامًا بطبيعة السردي فلا بدّ أن يبحث الكاتب عن صيغة توفيقية. والنمط “الحكافي” هو الذي يصالح بين نمطين متقاطبين نافرين: الحكائية الدرامية من جهة والفلسفية الحوارية من جهة أخرى، على نحو ما نجده في قصة “أو – فورتونا وصديقتي” (ص 246). وهي نموذج موفّق لهذا النمط البيني. وهذا ما يجعلها على قدر كبير من الجمال رغم تلك الجملة الاقتحامية التي تصدّرت القصّة والتي سيق بها لتؤدّي بعضًا من وظائف “السهسلة”.
في قصّة “الخيمة والنخيل” (ص 233) تقلّصت مساحة الحكي الدرامي المؤسّس على حركيّة نشطة للشخوص في الزمكانية النصّية وتراجعت إلى حدود الفعل الواحد وهو التوصيف. ولمّا تراجعت الحكائية إلى هذا الحدّ كان لا بدّ أن يدخل الخطاب الفلسفي من الباب الأمامي. وبدأت الفلسفة في تبنّي الأمثولة، وهي أبسط أشكال الترميز، قناةً لتمرير القول الفلسفي في السردي. من هنا بالضبط نشأت الحاجة إلى أيقونات فكرية قادرة على أداء فعل التمثيل. وهكذا كانت “الخيمة” و”النخيل” مثالا لا حقيقة، وكلاهما من العلامات أو الأيقونات الثقافية الحضارية العربية الممتدّة. وهي متصادمة في تمثيلاتها. فالخيمة موسومة بالحلّ والترحال والنخلة بالثبات والاستقرار. والعلاقة بينهما جدليّة واضحة. كلّ من يراجع مفردات القصّة يجد كمًا هائلا من الأضداد اللفظية والتضادّات التركيبية التي تمنح القصّة توتّرها الجميل وهمسها الشعري المغري. حتى أنّ النهاية التساؤلية تتوافق مع الإحساس بالحيرة والارتباك وحالة الانفتاح وضعف القدرة على الحسم والجزم. وهذا الإحساس يستمدّ نسغه من اجتماع الشعري والسردي في خطاب واحد. وككلّ أمثولة فيها من الغنج والدلال ما يجعلها تتمنّع وهي راغبةٌ. ترغب القصّة وتتمنّع في آن واحد. ما يعني أنها تحتمي بشفافية الرمز وتضع بعض المفاتيح لفكّه. ولعلّ هذا التوتّر بين الرغبة والتمنّع من أبرز جماليات هذه القصّة. وفي المحصّلة الأخيرة رغبتها في الانكشاف والتواصل مع القارئ توصل إلى مجالات معرفية قريبة ومتاحة كالسياسة الراهنة وامتداداتها الحضارية والثقافة وعمقها العربي. والأمر نفسه ينسحب على قصّة “القابضة عنان اللجام” (ص 240) رغم اختلاف التفاصيل بين القصّتين. على العموم، الشعر والفلسفة والرمز كلها ركائز في تحالفات جمالية عضوية، ونعني بالعضوية القدرة على التفعيل والعدوى. ولذلك تغلب السكينة على إيقاع هاتين القصّتين ويخف نبر الدراما في كلتيهما. وحين تسكت الحركة وتسكن يتحرّك الوعي بنفس القدر بالضبط.
أما في قصّته “أو – فورتونا وصديقتي” (ص 246)، التي تقدّم ذكرها، فيجمع سعيد نفاع بين الحكائي والفلسفي جمعًا موفّقًا بين درامية الصدام وهمس القول الفكري. وحكائيّة القصّة تقوم على سبعة أشكال من التوتّرات الضديّة المردودة إلى:
- اختلاف بيولوجي بين الشخصيّتين يفضح بعض الرغبات الجنسية الصامتة غير الجهرية.
- خلاف آيديولوجي يتيح التشيّع لأحد قطبي الشرق والغرب.
- خلاف جنساني يسمح بتناظر دامٍ غير محسوم بين أعراف اجتماعية (تساهم الجملة الافتتاحية في بيانها وفضحها).
- صدام شخصي ذاتي بين طباع كلّ من الشخصيتين الفاعلتين، هو وهي، وكلاهما يمثّل حالة بغليّة حميدة تغذّي التنافس الفكري بينهما. غير أنّ هذا التنافس لا يخلو من ثقافة الإفحام الداعشية التي يلغيها النصّ بقدرته على تعطيل الحسم. وهذه الحالة البغلية تساهم في إخصاب النصّ وقدرته على توليد المعاني والدلالات.
- تعارض الإقفال والانفتاح. رغبة الشخصيّتين في الحسم من جهة وانفتاح النصّ على مزيد من التوتّرات المحتملة. الرغبة في إفحام الخصم من جهة والمتعة الحاصلة في الانفتاح على مزيد من الحوار، وكلّ ذلك طبعًا بفضل تلك الحالة البغليّة الحميدة. في القصّة الكثير من مضادّات التسوية والتصفية، ما يجعل الحوار فعلا استمراريًا.
- صدام الجهاد والاجتهاد. ولعلّ التوفيق بينهما من باب الجهاد بالاجتهاد هو المخرج الأمثل من الحالة العدمية الصِفريّة التي يعيشها عالمنا العربي من أقصاه إلى أقصاه. والجهاد بالاجتهاد، على النحو الذي أقترحه هنا، قائم على افتراضين: (أ) هناك فعلا ما يدعو إلى مزيد من الجهاد لتغييره أو استصلاحه، (ب) ووجاهة الأداة التي تضمن ذلك وهي العقل الاجتهادي. والعقل لا يُستنفر إلا باستفزازه.
- الركون إلى اتفاقات بين مرجعيّات ثقافية في التكوين الحضاري العام، من جهة، وبين تكريس ثقافة الهدم والصدام والمحو، من جهة أخرى، وهي تنهض على قائمتين: الجرأة والمعرفة. فأنت لا تجرؤ على هدم بعض المرجعيات بغير علم. والهدم هو فتوى موثّقة وموثوقة تستند إلى معرفة.
ولعلّ مكامن النجاح في هذه القصّة هي في هذه الوضعية الخنثوية القادرة على خلق توتّرات بين الأضداد. وأبرز مظاهر هذه الضدّية هو التجاور بين الحكائي والفلسفي وما يفرزه من تحاور بينهما. والحكائي في هذه القصّة يوفّر المرجعية الجمالية التي تهيّئ للفلسفي وتسهّل عليّ قبوله واستساغته. بغير هذا الحدّ الأدنى من الحكائية الدرامية يصعب على القارئ أن يركّز ذهنه في نقاش فلسفي فوقي متجرّد. على العموم، تحتاج الحكائية الدرامية شكلا من أشكال التصادم بين شخصيّتين “بغليّتين” يُفضي إلى حوار نِدّي غير مأنوس يرفض الحسم السهل والمتاح. وهذا كلّه ما يدفع القارئ للسؤال “من ومتى وأين وكيف ولماذا” والإجابة على هذه التساؤلات تشبع غريزة القارئ وحبّه الفطري للمعرفة والاستطلاع. وبعد مرحلة تفعيل الغريزة ينتقل النصّ إلى تفعيل الوعي. حالة خنثوية موفّقة تقوم على توتّرات التجاور بين الأضداد وتحاورها.
(3) الهمس والصخب: توتّرات التخفّي والتجلّي
قصة “الخائن” (ص 19) مثال موفّق لتفاعلات النصّ الهامس الصامت والنصّ الصاخب الصائت. أنسنة الشجرة، كعلامة جغرافيّة، هو ارتقاء بها من الأرضي اليومي المبتذل إلى الرمزي السامي. نقل الشجرة من البروة إلى إحدى الحدائق العامة في القدس هو نقل من حدود الجغرافيا المحدودة ومن حدود التاريخ العابر والمؤقّت إلى مستوى اللغة العابرة للزمان والمكان. ولذلك وجب أن تكون الشجرة شجرة زيتون. والفكرة مألوفة في كلّ أدبنا الفلسطيني، بوصفه أدبًا آيديولوجيًا، خصوصًا عند توصيف آثار الفقد وما يتبعه من حزن وحنين. كان محمود درويش يغضب في كلّ مرّة يطلب منه الجمهور أن يلقي قصيدته القديمة “إلى أمي”، وهو نفس السبب بالضبط الذي كان يدفع الجمهور لطلب سماعها: استسهال الترجمة الفورية وتشييء الأمّ ونقلها من الحالة الإنسانية إلى الحالة الوطنية. وهكذا كانت القصيدة “تمكّنهم” من ضرب عصفورين بحجر واحد خفيف: تحويل الأمّ إلى وطن يصير معادلا موضوعيًا لها وبديلا عنها. الحركة في قصّة سعيد نفاع معاكسة تمامًا. التشييء والأنسنة حركتان متعاكستان، لكنّ النتيجة الجمالية واحدة: ترميز. سعيد نفاع يرقّي الشجرة إلى مستوى الإنساني. وأنسنة الوطن، أو بعض من لوازمه وأشيائه، هو فعل كتابة. أما في قصيدة درويش فهو فعل قراءة لا علاقة لدرويش نفسه بالأمر. حين تصير شجرة الزيتون امرأة خصبة فإنها تتحوّل إلى لغة. واللغة لا تموت، يحميها نفاع من الموت بالرمز ويحييها باللغة. تختفي الشجرة بهويّتها الشجرية لتتقمّص صورة امرأة في قصّة سعيد نفاع. وفي قصيدة درويش تختفي الأمّ لتظهر على شكل وطن. لعبة التخفّي والتجلّي مؤشّر دقيق إلى حركة نشطة من التفاعلات الخفيّة في فعل الكتابة. تتنازع هذا الفعلَ رغبتان: تملّك المعنى وترويض الدلالة. نقل الأمّ من معناها الإنساني المأنوس إلى دلالتها الرمزية المنفتحة هو من خيارات القراءة التي لا يصلح معها التصويب والتخطيء وإن كان الأمر يُغضب.
في قصّته “مأتم في الجنة” (ص 51) يحلم الراوي بأنه منتدب لرحلة قصيرة وسريعة إلى الجنّة ليكون بعدها شاهدًا ونذيرًا. وهي رحلة سبقه في شكلها أبو العلاء المعرّي قبل قرون. كلّ رحلة كهذه هي اختراق لقوانين الحقيقة الأرضية المأنوسة، بالتداول المتراكم، على امتداد قرون. وإذا كان لا يعرج بأحد إلى تخوم الجنة، إلا من اصطفاه ربه لضرورات الرسالة، فإنّ الراوي في “مأتم في الجنة” ورحلته الوهمية الافتراضية ترتقي إلى مستوى الرمزي بالضرورة. ولعلّ الأمثولة (Allegory) هي أليَق التقنيّات الترميزية لتحقيق لعبة الخفاء والتجلي. لكنها لعبة زجاجية بطبعها لسببين: (1) الرمز في الأمثولة هشّ كالزجاج ينكسر بسرعة، (2) لأنه شفاف يحقّق لعبة الخفاء والتجلي. الزجاج يحجز بصفة جزئية فقط، يمرّ عبره شيء ولا يمرّ شيء آخر. لكنك تستطيع أن تخترقه بالنظر لترى ما “يخفي” وراءه. سعيد نفاع في هذه القصّة يواصل لعبة الخفاء والتجلّي حتى في بنية القصّة: سفر إلى الجنة، وهي ليست قريبة حتى تكون متاحة بهذا الاستسهال، ليرى ما يحدث هناك بأمّ عينيه ويسمع بأذنيه وحواسّه ما يحدث بالفعل في الجنة. فالراوي موضوعي ولا يقول إلا الحقّ، والحقّ هو ما يراه ويسمعه من مصادره الأولى. اليقينيّة التي يتمايز بها الراوي و”يفاخر” محقّقة بالصوت والصورة. وهذا ما يريده من وراء رحلته الافتراضية إلى هناك. والراوي لم يقم باقتحام المشهد الذي رآه في الجنة، بتعليق هنا أو مداخلة هناك، حتى حضّه مختطفوه على واجب التبليغ. ولولا هذا الحضّ لما “تدخّل” الراوي أصلا. فما على الرسول إلا البلاغ. حتى لفظة “بلّغ” مشحونة بظلال دينية تضفي على المشهد بعضًا من القداسة التي لا يصلح معها التكذيب. فلا يشكّكنّ أحد إذًا بمصداقيّته. نحن نعلم، وسعيد نفاع يعلم أكثر منّا، أنّ هذا النأي في لعبة التخفّي وراء هذه الآليات هي لعبة متّفق عليها وكلّ الأطراف مؤتمنة على قوانينها. وحين نتظاهر بالتخفّي يأتي التجلي فيما بعد أبهى وأقوى وأشدّ.
لا يذهب إلى الجنّة ولا يفرح فيها وبها إلا من قضى في مواجهة الأعداء. يحاول سعيد نفاع رتق الثقب المزمن الذي تتسرّب منه الحكمة والمنطق ويتناثر منه الصواب سدى. فلا يعقل أن نلقي بأطفالنا في التهلكة لنوصلهم إلى الجنّة. لا هم يصلون إلى هناك ولا نحن. لا بل نحن ذاهبون إلى الجحيم بفعلتنا. القصّة صادمة في نهايتها. تظنّ أنك تصعد لكنك تُفاجأ بأنك في الهاوية لفظًا ومعنًى. إحساس سيزيفي يصاحب ذهنية اللاذروة (Anti-Climax). وأثر اللاذروة كالصعود إلى تحت. رحلة الراوي في القصّة هي لضرورات الغفران. والغفران في التبليغ. وبعد التبليغ لا حجّة لأحد على أحد تحميه من الجهل. ذنوبنا لا تغتفر. لا غفران ولا عفو ولا تقادم لقاتل أبنائه وبناته. وإذا كان هذا القاتل يتعزّى بذهاب المقتول إلى الجنّة فهو واهم. لذّة الشهادة المتوهّمة لا هي تخفّف الحكم على القاتل ولا هي بالحقيقة التي تعوّض المقتول. القصّة ماكرة إذًا، لكنّ مكرها من النوع الساذج. الاطمئنان إلى حلاوة الشهادة، التي نمنحها لكلّ قتيل نحن نقتله بالغفلة والصمت والجهل والذلّ، هي فعل إفحام. إفحام الحقيقة وإسكاتها بالتكتّم. وإسكات “الضمير” المتيقّظ فينا. كيف تزغرد أمّ الشهيد وصارت تعلم الآن أنّ ابنها الذي قتلناه بصمتنا ذاهب إلى مأتم ولن يهنأ برحيق الشهد الذي توفّره الشهادة؟!
(4) الممارسة والنظرية: توتّرات النصّ والنوع
مجرد التجاور في التجربة النصّية الواحدة بين النصّ والنوع، وبين الواقع والأدب هو شكل من أشكال الحوار بين الابن والأب. لكنه يشكّل هاجسًا يُشغل الكاتب كثيرًا إلى حدّ القلق. والقلق في الأدب، على العموم والخصوص، صفة حميدة ومحمودة. في قصّة “رسالة مؤجّلة من عالم آخر” (ص 243) تنتصب جدلية التجاور والتحاور بين الانعتاق والالتصاق: الانعتاق من أبوية النموذج الأدبي والاحتماء بلفظة “نصّ” المائعة. “سمّه قصّة إن شئت”. يسمح الراوي للحفيد أن يسمّيها قصة بعد المشيئة. حتى في التعبير لعبة الأضداد واضحة. في الفعل “سمّه” دعوة صريحة وقوية بقوّة فعل الأمر لوصل النصّ بنموذج القصّة. وفي كلّ دعوة بعض الرغبة المعلنة أو المكتومة، ومن جهة أخرى لا مشيئة تعلو على مشيئتك. وفي هذا القول نوع من التحلّل من الدعوة أو التراجع عن الطلب. وهكذا نجد الشيء وضدّه في هذه الجملة. تجاور الأضداد مؤشّر إلى روح خائفة متردّدة بالضبط كما يعترف الراوي نفسه في المتن. من جهة ثانية يعلم الراوي علّة خوفه وحيرته ورهابه وهو يحدّدها في النصّ. وإذا كان يدرك العلّة فقد قطع نصف الطريق إلى المعلول.
مسألة العلاقة بين النصّ الواحد والنوع الشامل، بين الفرد والمجموع، بين الحالة التجريبية وبين الجنس الأدبي الصارم والملزم في شرائطه وضوابطه ومعاييره هي مسألة تشغل سعيد نفاع كثيرًا ككاتب ناقد. ومن الطريف أنه يجعلها جزءًا من جسد النصّ من باب الالتفات النرجسي. إنّ الممارسة النظرية في عمق القول التجريبي هي في ظاهرها وباطنها جمع بين ضرّتين، لا يقدر على العدل بينهما إلا مجنون أو عبقري، وكلاهما ممسوس. لا يستطيع نفاع التستّر على رغبته في الجمع بين ضرّتين ولذلك أرى أنّ الجملة التي تقفل النصّ ليست موجّهة للحفيد بل هي لي ولكلّ من يمارس فعل النقد أو الانتقاد. ولعلّ التجاور بين الكتابة والنقد في هذه القصّة ليس التجاور الوحيد في النصّ. فإذا نظرنا إلى مادّة القصّة وجدناها أقرب إلى القول الفلسفي منه إلى الحكائي. من جهة أولى في القصّة حكي، وهو من ركائز النمط السردي، وفيها من جهة ثانية شعر. ولعلّ هذا التجاور بين جنسين أدبيين “متخاصمين” في النصّ الواحد هو ما يخلق نوعًا من القلق التحاوري. سعيد نفاع يتحدّث في هذه القصّة من حنجرة الراوي الفيلسوف الملثّم والمقنّع تفضحه لغته الشعرية العالية أو المتعالية على الحفيد، “فهل فسّرت لك؟”. أراد أن يقول “هل فهمت؟” فاستثقلها فتراجع لفظًا ولم يجعلها معلّقة بقدرة الحفيد على الفهم والإدراك بل في ضعف قدرته هو على التفسير. الجملة القفلية الأخيرة في ذاتها تعبير التفافي إضافي عن حالة “الخوف والحيرة والرعب” التي اتسم بها فضاء النصّ كله. كانت الحالة تمسّ الوجود والمصير (المضمون) فصارت تمسّ هويّة النصّ وانتماءه إلى الجنس الأدبي العام (الشكل). كان القلق يطال الجوهر فصار يمتدّ إلى الأداة. نفاع قلق من الواقع ومن لغة التعبير عنه، أو هو قلق من قدرة اللغة على التعبير عنه. ولنسأل الكاتب: ما حاجتك إلى هذه الجملة التي توجّهها إلى حفيدك الذي يصعب عليه فهم ما تقول؟ وليكن ما كتبته نصًا أو قصّة، بماذا يعنيك الأمر الآن في القصّة نفسها المسكونة بهمّ مصيري وجودي؟ الجواب لا يلغي وجاهة السؤال. ينشغل سعيد نفاع بفعل الكتابة كأداة تعبير تحتي عن واقع، قريب أو بعيد، وقدرتها على بلوغ الحقيقة فيدعمها بأداة تعبير فوقي يوضّح التحتي. ختم النصّ بلفظة “نصّ”، تلحقه ثلاث نقاط متتالية، هو رغبة في نفي صفة التخييل عن النصّ. وهذه النقاط الثلاث هي لإشباع حالة النفي بالوقف. والوقف قطع. وإذا كان القطع يتحقّق بنقطة واحدة في آخر الجملة تلزم التسكين (والتسكين وقف وقطع) فما بالك بثلاث؟! نفي التخييل عن النصّ هو نفي للإبداع، والإبداع من البدعة. وفي مجمل الكلام، جوهر مضموننا وأدواتنا الإجرائية تترنّح كلها تحت أعباء “الخوف والحيرة والرعب”… لعبة المجاورة بين المضمون والشكل، على هذا النحو الذي قدمناه، لا تخلو من ذكاء.
في قصّته “مع سيدي بخير ومع ستّي بخير” (ص 230) يقلب سعيد نفاع الترتيب. نفس الجملة تتكرّر هنا في التظهير وهناك في التذييل. لكنها ليست نفس الجملة تمامًا. الجملة التذييلية هناك بالإيجاب “سمّها”. والجملة التظهيرية هنا بالنفي أو السلب، “لا تسمّها قصّة إن شئت”. إذا كانت في القصّة السابقة متورّطة في الواقع فهذه متورّطة في الحقيقة. وما يؤكّد حقيقيّة هذه القصّة مقابل واقعية القصّة السابقة هو هذا الانتقال من الإيجاب إلى السلب. في الحالتين التوتّر الحاصل بين النصّية والقصصية يعكس محاولات الكاتب الهروب من سلطة النوع الأدبي باتجاه فوضوية النصّ وفقًا لمنسوب الضغط الذي يمارسه الواقع على وعي الكاتب. سعيد نفاع يعكس هذه الحالة بدقّة وبذكاء في هاتين القصّتين.
في تجربة سعيد نفاع القصصية هاجس النوع الأدبي يقتحم وعيه بالقوّة. وهذا الهاجس مردود إلى قلق الناقد في سعيد نفاع الكاتب. فالناقد الذي فيه يشرف ويحذّر ويرشد ويقتحم (أبو حماد يفشل في عودة مهجّري شعب (ص 26)، بئر الخشب، (ص 45)، المفتاح واليرموك (ص 62)، بنت الرئيس (ص 166)، مشمشتنا الشامية (ص 189)، مع سيدي بخير ومع ستي بخير (ص 230)، “أو – فورتونا” وصديقتي، (ص 246)، ظريف بلدنا يحرم الرفيق “ح” القيادة (ص 302)، حديث القهوة (ص 312). كلّ هذه القصص، التي يبدو نفاع فيها قلقًا على هويّتها النوعية، هي قصص (Par excellence)، ومعظمها حسب مواصفات النموذج الأدبي التقليدي. على العموم، لقد حسم علم السرد (Narratology) هذه المسألة منذ عقود. لا تقلق يا سعيد بهذا الشأن. وإن كنت أظنّ أنّ قلقك هو قلق الناقد على الكاتب. وهو قلق تُحسن توظيفه لتدعم به قلقك الوجودي بصورة التفافية ذكية.
العلاقة بين الأدب والواقع هي من شغل التنظير الأدبي. هكذا كانت منذ وجد الأدب، لكنها بدأت تشكّل هاجسًا يقلق الكتّاب أنفسهم في عصر التفكيك الذي أعقب الحداثة. النظرية بطبعها ذكورية، وممارستها عندنا فحولية. وهي ذكورية لأنها منظومة من الأنماط والضوابط القسرية الملزمة. لا يكتفي نفاع بقدرة اللفظ على أداء الحقيقة حتى وإن كان اللفظ أيقونة خرائطية لا يختلف بشأنه اثنان. فشعب هي قرية شعب وليس لها ثانٍ يعترف بها العالم على خريطته. وجودها خرائطي ملزم (Mapping). ومثلها مصمص والعفولة ومجد الكروم وبيت جن. وهكذا يلجأ سعيد نفاع إلى تقنية إضافية، تقنية نظرية، يؤكّد فيها على ضرورة التلاحم بين الواقع والأدب، ف”أيّ تشابه بين شخوص هذه القصّة والواقع ليس صدفة”. ولكنه لا يكتفي بالجملة “النظرية” في ذاتها فيذهب إلى كسر الأتمتة في توظيف التعبير إمعانًا في لفت الأنظار إلى المعنى. كلّ من يوظّف التعبير من الكتّاب يوظّفه بصورته المقلوبة “أيّ تشابه بين شخوص هذه القصّة والواقع هو من محض الصدفة”. نفاع يقلب التعبير ويكسر المأنوس الرتيب في توظيفه. وكلّ كسر واختراق هو فعل توكيد.
(5) الشخصية والشخص: توتّرات الحدث والفرد
الحدث شخصية والفرد شخص.. ما زالت قصّتنا الفلسطينية في الداخل، في معظمها، تُرسّم حسب النمط الأرسطي في علاقة الشخوص بالأحداث. بمعنى أنّ الشخصيات هي دمى في مسرح ظلّ لا تتبدّى في حقيقتها البشرية لأنّ وظيفة الفاعل تنحصر في قدرته على خدمة الفعل. كنت أرجو أن تتحوّل الشخصيات إلى شخوص على النحو الذي بيّنته في كتابي (Heroizability 2015). كيف تجعل الشخصية قادرة على النطق وهي مخنوقة بالحدث غارقة بالظرف؟ وكنت أرجو أن يغرق فيها الظرف. ينبغي لنظام الوعي الفردي أن يتحكّم بوعي النظام العام. لا يعقل أن تظلّ تجاربنا القصصية تكريسًا لسلطة الحدث وسطوة الظرف. وهذه نكبة جمالية ثقافية لا تُفضي إلا إلى مزيد من الشخصيات المنسوخة والمكرورة.
والخنوثة في هذا الموقف تعني ذكورية المادّة وفحولتها وأنثوية الأشكال. والذكورية على مستوى المادّة تعني احتكام التجربة القصصية برمّتها لسطوة النموذج الأبوي للقصّة الفلسطينية. والمادّة ملقاة على الطرقات. وعلى مستوى الموقف تعني الذكورية الصدام مع أركان الشرّ. وذكوريّتها التي تصل إلى حدّ الفحولة، أو “التياسة”، تظهر في الانسياق لسطوة الشعار الصاخب والعنيف. سعيد نفاع ثوري في أفكاره، وقد دفع ثمنًا باهظًا لهذا الفكر، لكنه ما زال تقليديًا في نظرته إلى مكانة الفاعل في النصّ. وهو خلل يحتاج إلى إصلاح. والإصلاح يبدأ من تغيير في علاقات المركز والهامش. ما جاء في المركز يجب أن يصير هامشًا وينعكس. يجب على الشخصيات في قصص نفاع، وغيره طبعًا، أن تتحوّل من الهامش إلى مركز الفعل والحركة في النصّ. عندها فقط تصير الشخصيات شخوصًا. وهل تستطيع الشخصية الهامشية التي يسكنها الظرف أن تُحدث تغييرًا ثوريًا أصلا؟ بعض الكتاب المعروفين والبارزين عندنا من أدرك أهمية المسألة فتمرّد على سلوكيات الأب النموذج ولم ينقلب ضدّه بالكامل، حالة إصلاح لا انقلاب، فصارت القصّة عنده تتجرّأ على سلفيّة اللغة وجدّيتها وتكشيرتها. وصارت خضراء بعد أن كانت رمادية… لن أستمرّ في التفاصيل لأنها مادّة مطوّلة لدراسة أخرى (محمد نفاع نموذج جيّد لما أقول). زعزعة الأنساق التفكيرية المهيمنة بالتجريب الجريء هو مطلب جمالي وثقافي ووطني على حدّ سواء.
شخصياتنا موجودة هناك بكامل جهوزيّتها وكمالها النموذجي حتى صارت قوالب جاهزة موضوعة على الرفوف جاهزة للإنتاج والنسخ. هذه الجهوزيّة القبْلية جعلت نفاع، وغيره طبعًا، يعمد إلى شخوص حقيقية تاريخية لا وهمية ولا افتراضية. إلا أنّ هذه القوالب الأبوية “تصنّمت” في سطوتها وآن الأوان لنقلق بشأن الإبن وحقّه في أن يكون لقيطًا. الإنسان العربي في أعرافنا المتراكمة رقم أو عدد، أو هكذا يحاولون إقناعنا بقوّة النار والحديد. إنّ الحالة الرقمية أو العددية التي يَسِمون بها الوضعية الإنسانية في بلاد العرب هي من إرهاصات العلاقات المتوتّرة بين الحاكم والمحكوم. لا يتردّد الحاكم في تصفية المحكوم بمفاهيم الجسد (انظر من باب التمثيل قصة “سجين” لزكريا تامر)، حتى وإن بقي حاكمًا بغير محكومين، أو تحويله إلى حالة صِفرية بالمستوى الرمزي وهذا ليس ببعيد عنا. لا بدّ للغة وأصحاب اللغة، في هذه الحالة المحتقنة، أن يقنعونا بالعكس. عليهم أن يعيدوا للإنسان هويّته الإنسانية التي يصرّ الحاكم على سلبها باستمرار، بحكم وظيفته كأداة استعمارية إجرائية، بأن يضعوه في مركز الواقع النصّي. وظيفة الكاتب أن يتقن لعبة شدّ الحبل مع الحاكم.
في قصص السجن الجميلة والمثيرة في تجربة سعيد نفاع القصصية فرصة ذهبية، وفي بقيّة القصص فرص أخرى إن لم تكن ذهبية فهي فضّية على الأقلّ، لموضعة الإنسان في مركز النصّ لأنّ السجن كمكان يوفّر الحدّ الأدنى فقط من مُلهيات الشخصية. بوصفه من أدوات العزل والتعطيل الحركي، يوفّر السجن جوًا مناسبًا لمكاشفات الوعي وممارسات فعل الحوار الذاتي. حالة اللافعل التي تمنحها تجربة السجن، بالنسبة للسجين والسجّان على نحو ما فعله إدريس في رائعته “مسحوق الهمس”، قادرة على نقل الأشكال الخطابية من مقارعة الظرف إلى محاسبة النفس. من الصدام مع الشيطان إلى الصدام مع الذات. لم يستغلّها نفاع لخيبة أملي الشديدة.
كلمة أخيرة: قل لي كيف تفكّر أقل لك بماذا تفكّر (فيتجنشتاين)
حاولت أن أقرأ الحضاري في الجمالي. حاولت أن أقرأ جماليات النصوص وأشكالها وبنياتها بوصفها حاملا للأنساق الثقافية والحضارية العامة. دراسة الأدب ينبغي أن تبدأ من الداخل النصّي ثمّ تتّجه إلى الخارج الواقعي حتى لا يسقط الدارس في إغواءات الإسقاط. والإسقاط هو فعل غزو واقتحام بقوّة ما تحمله المعرفة المسبقة من سطوة. وحين نقتحم النص بآرائنا المسبقة ونلزمه بهذه الآراء نكون قد شوّهنا الحقيقة وعطّلناها. لا شكّ في أنّ أنماط تفكيرنا وأخلاقيّاتنا في كلّ المجالات المعرفية والسلوكية تتسرّب بهدوء إلى أدواتنا التعبيرية بكلّ أشكالها لأنهما لا ينفصلان. من يقرأ بتأنٍّ تجربة سعيد نفاع في القصّة يدرك أنها تنقسم إلى مرحلتين: (1) مرحلة القصّة الحكائية الدرامية، هي مرحلة السرد الصائت في السبعينيّات والثمانينيّات، (2) ومرحلة القصّة الفلسفية الحوارية، هي مرحلة السرد الصامت، في العقدين الماضيين. هذا التحوّل هو عنوان المرحلة الراهنة. لو أخذنا عيّنة من قصص سعيد نفاع (سبع قصص، ص 225 – 251) لوجدناها مؤشّرًا دقيقًا الى التحوّل الجمالي بين المرحلتين والذي يعكس تحوّلا ثقافيًا واضحًا في أنماط تفكيرنا وأخلاقنا التي نتخلّق بها في كلّ مناحي السلوك الإنساني. كنت قد بعثرتها على امتداد هذا المقال. أحاول أن أسمّيها باختزال وتكثيف: (1) خفوت النبر الحكائي المؤسّس على الدرامية والحركية النشطة وعلوّ صوت الهمس الفلسفي وهمس الوعي، (2) تقليص عدد الشخوص الفاعلة في النصّ الواحد إلى الحدّ الذي يسمح بإبطاء وتيرة الحدث وإيقاعه من جهة ويسمح بنوع من التفكير الهادئ من جهة أخرى، (3) اضطراب الصوت التفاؤلي الذي تحاول اللغة من خلاله أن تحمينا من قسوة الواقع بقوّة الوهم، (4) ارتباك الحالة العامة بفضل التجاور الكثيف للأضداد، على نحو ما تعكسه النهايات الحذرة، والقلق الذي يرافق كلّ حالة خنوثة يفرزها التجاور الضدّي.
لا تسمّها دراسة، سمّها مشروع دراسة. سمّها محاولة. سمّها قراءة.. سمّها ما شئت!