جلبوعيّات (2) مع الكومونة الأخيرة

تبعثرت آمال كثيرة عندما قضى أعداء العدالة البشريّة على “كومونة باريس” قبل قرنين ونيّف، وقضى حلفاؤهم الموضوعيّون الداخليّون والخارجيّون على “كومونة موسكو”  قبل عقيدين ونيّف. وفي المطرحين، ظنّ القُضاة وظنّ الضحايا وظنّ آخرون أن الحلم في هذا الشكل من العدالة الاجتماعيّة رغم النواقص فيها وفي وعائها، والتي نتجت لا لتوك في جوهرها وإنما لتوك في بُناتها وربّما في طبيعة بناتها، قد ولّى إلى غير رجعة في كلّ زمان ومكان.

ولكن ما لم يخطر على بال هؤلاء وأولئك، أن ضحايا الظلم الاجتماعيّ في شتّى أصقاع العالم الذين وُلدوا للحريّة وسُلبت منهم حين قرّروا أن لا يطأطئوا الرؤوس للظلم، أعادوا ل-“الكومونة” مجدها “أبطال أخوتك لا مكرهون”، قبل البناء تصديّا وخلال البناء إصرارا وبعد البناء صمودا، وأعادوه في مكان عزّت فيه الرّحْبِةُ من الأمكنة.

في طريقي إلى الأسر في القسم الأمنيّ من سجن الجلبوع ( وجبل الجلبوع طبعا، منه براء)، سئلت في مقابلة إذاعيّة: هل تعتبر هذا اليوم أصعب يوم في حياتك؟ فأجبت: لا !. وتابعت بما فحواه ومعناه :

“الموضوع فعلا كان خطرَ على بالي في الأيام التي خلت، ووجدتني أقرر أن يوم دخلت، في بداية حياتي، السجن العسكريّ رفضا للخدمة العسكريّة الإجباريّة، كان الأمر أصعب، فالفارق العمريّ وما يضيفه من الوعي يلعب دورا كبيرا في قياس الصعوبة، ويظل الأمر نسبيّا”.

لم تكن لحظات الفراق على أبواب السجن سهلة بتاتا، وحقيقة إني احتجت لطاقات جمّة لأحبس الحشرجات في حلقي والدموع في عينيّ، ليس جريا عل المقولة : “عيب على الرجال تبكي!”، فأنا لا أومن بها، ولكن كي لا يعتقد السجّان المدجج حولي لحظة تشفّي، ولكن الأهم إني لم أرد أن أعكر بدمعي دموع أحبتي وأزيد على دموعهم دموعا، ففي دموعهم ما يكفي.

ما أن قرقعت الأبواب خلفي قاطعة فضاء حريّتي الجسديّة، حتى جرّدني السجّان من غالبيّة ما كنت أحضرت من “أغراض”، ألبسة وكتب وغيرها، ولأسباب شتّى تافهة وفي الكثير منها مثيرة للسخرية… فهذا يشبه لونُه لونَ ملابس السجانين، وذاك، مثلما فهمت لاحقا، يمكن أن يكون محشوا بالممنوعات (والممنوعات هنا ليست السموم، فالأسرى أنظف كثيرا من ذلك، ولكن شرائح تلفونات مثلا أو رسائل أو….). وطبعا جردني السجّان من ملابسي التي ألبس، جائلا في كل أنحاء جسدي وحتى لباسي الداخليّ نظريّا وتخنولوجيّا، وتفاجأ حين قدّمت له بمحض إرادتي ما تحت لباسي الداخليّ ليفتشه، فسارع قائلا: لا… لا حاجة !

باختصار، دخلت السجن نظيف الجسد ممّا قد يعكر صفو مهمة السجّان، ولن أتعبك عزيزي القارىء في الإجراءات والمقالات الأتفه عند العاملة الاجتماعيّة، عن ميولي الانتحاريّة مثلا، وعند ضابط الأمن عن الطلب مني الامتناع عن استعمال “مركزي” مع السجّانين أبناء جلدتنا مثلا وهكذا لأدخل نظيف العقل والنفس كذلك ممّا قد يعكرّ الأجواء، وعندي ولي مع هؤلاء “أبناء جلدتنا” الكثير من الأقوال والمواقف، مما لا أستطيع البوح به خوفا عليهم لا عليّ من سطوة !!!

أسوق هذا عزيزي القاريء، لأصل بك بعد هذه الجولة المختصرة  مع من هم خارج الأسلاك وفي الطريق بين الأسلاك، إلى أولئك الذين هم داخل الأسلاك. ما أن فُتح باب القسم وطُرق خلفي، حتّى وجدتني محاطا بالعشرات ممّن أعرف قليلَهم بحكم زياراتي لهم سابقا كمحام وكعضو كنيست، وكثيرهم الذي لا أعرف، الكل يعانقني مقدّما نفسه وكأنهم من “بقيّة أهلي”، ويتساقط الكلام على أذنيّ غزيرا لدرجة أني لم أعد أميزه، وفقط بعد مدّة تصير تخطر على بالك الفوارق بين “الحمدلله على السلامة” التي سمعت توّا وتلك التي اعتدت أن تسمع قبلا، وهكذا مع “أهلا وسهلا” وغيرها.

عندما انتهى الاستقبال ومددت يدي تلقائيّا لالتقاط “كيس” أغراضي لم أجده، ليقول قائل: الكيس في الغرفة “المهجع- القاووش”، تفضّل !

البُرش الأرضيّ (السرير. وشتّان ما بينه وبين الأسرّة) كان مرتبّا جاهزا، والخزانة (ثلاث طاقات في خزانة حديدية مثبّتة على الحائط هي والصدأ خِلّان) مليئة إحداها بكل ما أحتاج من القليل المتوفر لدى الأسرى، والاثنتان المتبقيتان مبطنتان بورق الجرائد، لتفصل بين الصدأ وما أبقى لي السجان من ألبسة، تركوها لي لأرتبها “على كيفي”، وليوفروا لي كل ما ينقصني من الحاجيّات، بعد أن فعلتْ فيما أحضرت يد السجان فعلها، طبقا للممنوع والمسموح أن أدخلُه حرصا على سلامة واستقرار الأمن !.

باختصار، التفاصيل كثيرة في كل ما يتعلّق باستقبالك كأسير نزيل جديد، إذ يوفر لك زملاؤك الجدد في “القاووش” والقسم، كل ما يمكن أن تكون بحاجة إليه معنويّا وماديّا، الأمر الذي ينسيك سريعا صدمة سلب حريّتك. والأمر على غاية من الأهميّة ليس في حالتي الشخصيّة، إذ أنا من القلّة الذي دخل الأسر مهيّأً، فلك أن تتخيل أولئك الذين يسحبون ليلا من فراشهم بلباس نومهم وما يستر عوراتهم حتى في أقسى الأيام بردا، أو أولئك الذين سقطوا جرحى في ساحات المعارك ومنها إلى “رحلة” عبر الزنازين، واصلين إلى الأقسام وقد هدّهم ظُلّامها وظلامُها، لك أن تتخيّل ما يفعله بهم هكذا استقبال.

ما أن يهدأ بك المقام قليلا، وعند أول فرصة تفتح فيها أبواب “المهاجع- القواويش” حتى تبدأ زيارات من مهاجع أخرى، ولا يدخل نزلاء قاووش إلا وأيديهم ملأى بما تيسّر في “الكانتين”، وما أن يضعوها حيثما اتفق في القاووش الضيّق حتى يأخذوك بالأحضان عناقا، وحتى هذا له طقوسه، فلا قبلات على الوجنات كما نفعل خارجا، وإنما عناق يلتصق فيه الصدر بالصدر ثلاث مرّات مع تربيت قويّ على الظهر، ويقتصر الكلام على التعارف والترحيب ولدقائق قليلة، إذ تتبيّن لاحقا إن “خفّة الدم في الزيارة” ليست فقط حرصا على راحتك وإنما فسحا للمجال لآخرين، ولا يخرج رفاق قاووش قبل أن يحددوا وهكذا دون أخذ رأيك: “الفطور غدا عندنا القاووش رقم كذا”، وهكذا العشاء، لتجد نفسك وعلى مدى أكثر من أسبوع تنتقل من “عزومة” إلى أخرى في القواويش الخمسة عشر في القسم.

والأهم لتفهم لاحقا، وحتى لو كان الأمر بالنسبة لك فيه “كم حبّة مسك زيادة” وهذا فعلا ما كان بالنسبة لي، أولا أن هذا تقليد يُمارس تجاه كل الجدد، وثانيا أن الأسرى وبعد معركة طويلة قاسية مع السجّان، استطاعوا أن ينتزعوا الحقّ أن يأكلوا ممّا تصنع أيديهم، لا ما تصنع أيادي السجّان، وما عليه إلا أن يوفر لهم المواد الخام، فتفننوا في الطبخ بما تيسّر، وهو قليل، ولا شكّ أن طبيخهم ينافس أفضل طبيخ طبّاخات الأعراس في قرانا، ليندر أن تشتهي أكلة من صنع يديّ أمك أو زوجتك!.

تمرّ الأيام الأولى لتبدأ تكتشف إنك تركت عالم ال-“أنا” إلى عالم ال-“نحن”، اشتراكيّة في أسمى تجلياتها، الصغير يخدم الكبير والكبير يعامل الصغير كابنه أو أخيه الأصغر، والكل يخدم المريض، والفقير الذي حيلة لذويه في تزويده بما يلزم لا يشعر بذلك. وإذا تعرّض أي من الأسرى للأذى من السجّان أو غُمط حق له على السجّان لا يُترك في الصراع وحده، يرد المجموع بالسلاح المتوفر إلى أن يبلغ أحدّه وهو الإضراب عن الطعام تضامنا واحتجاجا، وعلى الغالب ما تنتصر البطون الجائعة.

العنف بين الأسرى ممنوع فعلا وكلاما، وإذا حدث وعلى ندرته بين صغار السن عادة، فهنالك لجنة انضباطيّة تحاكم وتعاقب وقبل ذلك تُصلح، ولا اعتراض على قرارها الذي يدوّن ويعمّم ويُقرأ في كل المهاجع. وتصل العقوبة حتى الجلد، وهنا كان لي اعتراض واحتجاج وتوجه أعلنتها: “كل شيء إلا عقوبة الجلد، فالمناضل يُعاقب ولكن لا يُذلّ، وفي الجلد مذلّة”.

كل ما يمكن أن يخطر على البال ولا يخطر، من مُثل في معاني التكامل والتكافل والأخلاقيّات، تجده خلف تلك الجدران الباهتة والأسلاك الشائكة، لا يعكرها إلا صلف السجّان وإجراءاته القمعيّة المنصبّة على الغالب على معنويّات الأسرى. ولكن في هذه المواجهة غير المتكافئة يصرّ الأسرى أن ينتصروا دائما، ورغم كلّ شيء فإن لم ينتصروا فعلى الأقل لا ينكسرون، وليس فقط ماديّا وإنما معنويّا كذلك في العلم والتعلّم، موضوع كنت طرقته بكل تفاصيله في “جلبوعيات (1)” المنشورة سابقا.

باختصار تجد نفسك تقول لنفسِك وعبرها لكل الناس: يا ليت السلوكيّات التي تسود بين هؤلاء الناس، والتي تذكرك بأصالة سلوكيّات أهلنا قبل أن تعمي أعينهم السلوكيّات المستوردة، هي التي تسود مجتمعاتنا اليوم!

هذا غيض من فيض، فإن كلّ قسم في غياهب السجون هو “كومونة”، والأخيرة الباقية في العالم ولأمد طويل بعد أن آذاها أول من آذاها أهلها، ويبدو أن هذه “الكومونات” ستبقى جزءا من حياة شباب شعبنا خاصّة وأبنائه عامة كذلك إلى أمد طويل، فطوبى لبُناتها “أبطال غير مكرهين”، ولعلّ في ذلك عبرة لمن يعتبر!

الحريّة ثاني أغلى وأرفع قيمة يملكها الإنسان، فمن قدّم هذه القيمة قربانا على مذابح الأوطان،  ليس غريبا عليه أن يسلك مثل هكذا سلوك، وتهون برفقته الحياة أصلا وحياة الأسر فرعا رغم قساوتها وضيق فضائها، وغياب القمر عنها إلا إذا تصادف وتلاقى مكانه في عليائه اشتياق نظرك إلى رحب الفضاء الليلي عبر كُوَى الزنازين والقواويش.

طوبى لكل المقيّدين جسدا الأحرار روحا وقيما.

الأسير المحرر- سعيد نفاع

أواسط كانون ثاني 2017

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*