من كتاب “הערבים הטובים” وأرشيف ال “הגנה”
ترجمة كرمل كرمل- دالية الكرمل
“عرب جيّدون – ألمخابرات الاسرائيلية والعرب في اسرائيل، عملاء ومُشغّلون، متعاونون ومتمرّدون أهداف وطرق” هذا هو عنوان جديد الباحث الاسرائيلي د. هيلل كوهين. وقبل ان نحاول سبر اغوار ما يدور وراء الكواليس لدى المخابرات الاسرائيلية ذات لباع الطويل، نتوقف قليلا مع الكاتب الباحث:
د. هيلل كوهين باحث في معهد طرومان في الجامعة العبرية وفي معهد القدس لدراسات اسرائيل. كتابه السابق “جيش الظلال” حاز على جائزة اسحاق رابين لدراسة اسرائيل، وسيصدر قريبا بطبعة انجليزية، اما كتابه “الغائبون الحاضرون” فقد صدر بالعبرية عن معهد دراسة المجتمع العربي في اسرائيل، وبالعربية كذلك من قبل: (معهد الدراسات الفلسطينية في بيروت).
صدر هذا الكتاب حديثا عام 2006 من قبل داري النشر (عبريت وكيتر)، يضم سبعة فصول، تلخيصا، ملاحظات، مراجع وخرائط. عدد صفحاته 310 من الحجم المتوسط.
قبل ان نتصفّح هذا الكتاب الهام، وما فيه من مراجع لاجهزة الظلام الاسرائيلية التي عملت على قمع الاقلية العربية في وطنها، نقرأ ما سُجّل على غلافه الاخير:
كتاب “عرب جيدون” يكشف الستار عن قصة ما زالت طي الكتمان، عن واقع العلاقات المركّبة بين العرب في اسرائيل وجهاز الامن، وعن التغلغل المخابراتي العميق في داخل المجتمع العربي في البلاد. يعتمد الكتاب على وثائق سرّية جدا للمخابرات الاسرائيلية ولمكتب رئيس الحكومة ووحدات المخابرات والاقليات في شرطة اسرائيل، هذه المعلومات تنشر هنا لأول مرة.
منذ تأسيسها رأت دولة اسرائيل بالعرب الذين تحولوا سريعا لمواطنيها طابورا خامسا لا يستهان به وخطرا امنيا، لذا طمحت لاحتلال ارضهم وكبح وعيهم والتلاعب بطرق تصويتهم، المخابرات الاسرائيلية وعملاؤها العرب كانوا اداة مركزية للوصول الى الاهداف الامنية والسياسية هذه: فقد شُغّل المتعاونون خارج الحدود لاهداف التجسّس، التخريب، النهب والقتل، المتعاونون من بين الزعامة ساعدوا في مصادرة الاراضي، تجنيد الاصوات لحزب مباي والسائرين في فلكه، ولقمع التنظيمات المعادية، المخبرون نقلوا كل صوت معارض، وجهاز المعارف كان من نصيبه الخضوع للتعقب الدقيق.
من خلال عشرات القضايا العينيّة والمثيرة، ينقل كتاب “عرب جيدون” تاريخا بديلا للمجتمع العربي في اسرائيل ولاسرائيل نفسها، ومن بين ذلك يُزاح الستار عن ضخامة تمرد جيل الشباب للنكبة، وتهتز الصورة المهتزة كأن هذا الجيل مستسلم وسلبي.
هنا وصف للقصة الحقيقية ما وراء تجنيد الدروز، ويتضح كيف سلك رجال المخابرات لتجنيد رجال ومؤسسات للعمل لصالح المؤسسة الاسرائيلية.
انها قصة لقاء مثير بين اقلية تبحث عن طريقها في واقع جديد لدولة فتيّة تفتقر الى الامن، وتحت تصرفها اجهزة مخابرات متشعّبة، انها كذلك قصة الاشخاص: عرب ويهود، مجندون ورجال امن عايشوا وضمّموا ذلك“.
ولا بد للمترجم (ن.ن) من ملاحظة اخرى، بعض الاسماء الصريحة الواردة في الكتاب، اكتفيت بالاشارة الى اول حروفها فقط، لانني على ثقة بان بعض اولئك العملاء عادوا الى جادة الصواب وانخرطوا في صفوف نضال شعبهم، ولا نود الاساءة لا سمح الله لأنجال واحفاد القسم الآخر، فمنهم الطيبون والابرياء، ولا تزر وازرة وزر اخرى.
ونرجو المعذرة من القراء والاهل سلفا.
في صباح احد ايام شباط 1956، خرج العريف موشي يافت، المجند في الحكم العسكري، مع الشيخ م. مختار القرية الدرزية (ي) في الجليل الغربي كي يوزع اوامر التجنيد على شبان القرية، وصلا بيت س.ش.ط. سألاه ان كان ابنه قد مثُل للخدمة، الاب هاجمهما صارخا: “انني اعارض تجنيد ابني، من وافق على تجنيد الدروز للجيش الاسرائيلي هو ابن عاهرة”. ثم توجه للمختار قائلا: “اذا جُرح ابني على حدود مصر او سوريا، سأذبحك في الشارع“.
قُدّمت شكوى للشرطة، شهر واحد بعد ذلك، عاد ك.س.ط الى بيته ليلا في جولس، كان عمره آنذاك ثلاثين سنة، سبعة اشخاص كمنوا له قرب بيته، هجموا عليه، اوقعوه ارضا، اغمضوا عينيه بالكوفية قائلين: “الآن تعرف كيف توقّع عنّا وتبعثنا للجيش“.
ط. هذا قدم قبل يوم لقائد وحدة الاقليات اسماء بعض الشبان الدروز الملزمين بالتجنيد، وقد اعتقد ان هذا هو سبب الهجوم عليه.
هذان الحدثان لم يكونا شاذين عن القاعدة، وهما يعبّران عن نظرة اكثرية الجمهور الدرزي للتجنيد الالزامي المفروض عليه. في البداية كانت خدمة احتياطية منذ عام 1953، وبعدها خدمة نظامية منذ عام 1956، الحدثان يعبران كذلك عن اختلاف الرأي داخل العائلات في قضية التجنيد. وكما في عائلات اخرى فانه في عائلة طريف يمكننا ان نجد مؤيدين ومعارضين. هاكم معطيات قسم التجنيد في فرع القوى البشرية: من بين 197 شابا ملزمين بالتجنيد من قرى الجليل الذين استدعوا للخدمة في بداية عام 1956، فقد لبّى الدعوة طوعا 51 شابا فقط، ومن بين 117 شابا من الكرمل مثُل فقط 32، حوالي الربع، خلافا للاعتقاد السائد ونقضا معينا للادعاء وكأن الدروز هم الذين طلبوا تطبيق قانون التجنيد الالزامي عليهم، يبدو ان توق الدروز للتجنيد كان محدودا، اقل ما يقال، (وكذلك لدى الزعامة كانوا معدودين وعلى رأسهم اعضاء الكنيست: ج.م، ص.خ، ل.ا، حيث عبّر هؤلاء عن تأييد متحمس للتجنيد). وكذلك الاستعداد لعقد “حلف الدم” مع جيش الدفاع كان محدود الضمان. وكما فهم رجال الامن فان المعارضة نتجت عن عدة اسباب: بعضها شخصية (عدم رغبة طبيعية للخدمة في الجيش)، بعضها سياسية درزية داخلية (خلافات بين معسكرات في الطائفة) وبعضها سياسية عامة (تماثل مع القومية العربية او عدم الرغبة للمس بالعلاقات مع الدروز في الدول العربية). المسؤولون عن شؤون الدروز في حزب مباي وفي الوزارات الحكومية رأوا بذلك فشلا لزعامة الطائفة، التي لم تهيئ الارضية للتجنيد لدى الشبان، في المرحلة الاولى من المحادثات، بحثوا امكانية حل وحدة الاقليات ودمج الدروز في وحدات عامة. الا ان قائد الوحدة عارض ذلك “الطينة البشرية آنفة الذكر تعاني من الشعور بالنقص والشك ولا يمكنها التغلب على ذلك بدمجها في وحدة واحدة مع اليهود.” هذا ما كتبه يعقوب هبية قائد وحدة الاقليات واضاف: “يبدو لي انه لاسباب امنية كذلك فمن المفضل ان يكونوا في وحدات منفصلة لنجاعة المراقبة عليهم”، لأجل ذلك قرر رجال الامن المحافظة على اطار الوحدة وحمل الامور على محمل الجد وقمع معارضة التجنيد في العمل على مستويين مقبولين: الاقناع والاغراء (مثل اعطاء رخص سلاح للناشطين في مجال التجنيد واستعمال القوة)، وسيلة القوة كانت سهلة التطبيق: مكتب التجنيد حوّل للشرطة قائمة عينية لرافضي التجنيد، قامت الشرطة بالاعتقالات، وفتحت لرافضي الخدمة ملفات جنائية.
وقد اطلقت المحكمة سراحهم فقط بعد ان اعلنوا عن رغبتهم في التجنيد، وفي ذات الوقت منعت الشرطة معارضي التجنيد من اقامة اجتماعات احتجاجية بذرائع شكلية.
معارضو التجنيد لاقوا تأييدا من قبل الزعماء الدروز في الدول المجاورة وعلى رأس هؤلاء سلطان الاطرش، زعيم الدروز في سوريا، ففي مقابلة مع راديو دمشق وضّح الاطرش لمستمعيه بان اسرائيل تستعمل طرق الخداع والتفرقة لتجنيد الدروز، وان الشيوخ المؤيدين للتجنيد لديهم مصالح شخصية ولا يمثلون الطائفة، وقد وعد العرب في اسرائيل ومن ضمنهم الدروز: “نحن نبني قوة في كافة الدول العربية لتحريركم من الاستعمار” كما طالبهم بعدم الاستجابة للدعاية الاسرائيلية. وفي نداء له مع ثلاثة من زعماء الطائفة في سوريا ولبنان اعلن الاطرش ان الغاية من تجنيد الدروز هي المس بهم وبعلاقاتهم مع بقية العرب، وقال ان اسرائيل لن تمنح الدروز كامل الحقوق وستنظر اليهم كخونة (لشعبهم ولدولة اسرائيل).
“ج.د.م، ص.خ، ل.ا، وغيرهم لوّثوا سمعتكم الطيبة، عودوا لانفسكم، انظروا الى مستقبلكم واعلموا ان اسرائيل تلعب بكم وتورّطكم، قفوا الى جانب اخوتكم العرب في كفاح الانقاذ لان يوم النصر ليس بعيدا، النصر للعرب والموت للسلطة الصهيونية وعملائها” هكذا اختتم البيان يوم 28/8/1956.
للتغلب على المعارضة داخليا وخارجيا، وسّعت الشرطة عمليات اعتقال الرافضين، ففي بداية آذار 1957 قامت بعملية ملاحقة الرافضين في دالية الكرمل وعسفيا، قوة شرطة اُرسلت لكل قرية مع قائمة باسماء الرافضين والناشطين ضد التجنيد، في عسفيا نجحت الشرطة باعتقال دزينة منهم، ورغم المعارضة غير العنيفة من قبل عائلاتهم، في الدالية كانت العملية اكثر تعقيدا، رئيس المجلس رفض مرافقة الشرطة لأن انتخابات السلطة المحلية كانت وشيكة، فبعث مع الشرطة مرسال المجلس، وفي ذات الوقت انذر كل المطلوبين بقدوم الشرطة. فقط 3 مطلوبين تم الوصول اليهم، اعتقلوا واقتيدوا للمجلس المحلي، اجتمع معظم السكان بسرعة حول بناية المجلس قائلين: “لن نسمح باخراج المعتقلين من بناية المجلس حتى لو دعت الحاجة للقوة”. ضابط الشرطة تشاور مع قائده وهذا سمح له باطلاق سراحهم بكفالة على شرط ان يمثلوا في اليوم التالي في محطة الشرطة، مثُل الثلاثة (وفي نهاية الامر وافقوا على التجنيد)، لكن بقية زملائهم واصلوا الرفض. اسباب معارضة التجنيد، فصّلها عشرات المشايخ من شفاعمرو وما حولها في رسالة لرئيس الحكومة ووزير الدفاع جاء فيها:
1. طبقا للظروف الزمنية الصعبة والحساسة التي نمر بها، فاننا نرفض بشكل قاطع ونهائي طلب التجنيد الالزامي في جيش الدفاع الاسرائيلي.
2. نحن عرب في اسرائيل وتقع علينا كافة الواجبات التي يفرضها القانون المدني، كدفع الضرائب التي فُرضت علينا، انما من المهم ان نؤكد اولا اننا (عرب) والعربي لا يحارب اخاه العربي بأي ظرف وبأي مكان.
3. اسرائيل ليست بحاجة بشكل ماس لخدمتنا نحن الدروز في الجيش، نحن يمكننا خدمة الدولة بطرق “مدنية” اخرى..
4. يجب معاملة الدروز في اسرائيل كمعاملة بقية العرب فيها، والجسم الذي طالب بتجنيد الدروز للخدمة الالزامية في الجيش لا يمثل الدروز حقا.
تعليلات معارضي التجنيد كانت ذات وزن ثقيل ومئات الدروز (حوالي 1500 حسب بعض المصادر) وقّعوا على هذه العرائض، كما عبّروا عن قلقهم بان التجنيد سيمس ليس في مصالح الطائفة في البلاد، انما بالدروز في الدول المجاورة كذلك. وكان من عبّر بشدة قصوى ضد التجنيد، مثل الشيخ فرهود قاسم فرهود من الرامة الذي قال: “يجب تصفية الشيوخ الذين وقّعوا على تأييد تجنيد شبان الطائفة”، هذا هو الامر طبقا لتقرير مخبر ارسلته الشرطة لاجتماع عقد في آذار 1957 في الخلوة (بيت صلاة الدروز) في كفر ياسيف.
خلال عدة اشهر تبين ان المعارضة الجماهيرية قد تحمل وزارة الدفاع على دراسة موقفها من جديد، الا ان الامر لم يكن كذلك، حركة الرفض لم تصمد زمنا طويلا امام محاولات الامتناع والسجن، الخلفية الجماهيرية للرافضين اخذت تتداعى ورويدا رويدا توقف الاحتجاج، بعد شهرين تمكن قسم العمليات في قيادة الاركان العامة من رفع تقرير لوزارة الدفاع جاء فيه: بعد عمليات الحكم العسكري والشرطة توقف “التحريض” ضد التجنيد و “الامر اصبح في طي الماضي“.
لماذا تعنّتت المؤسسة الاسرائيلية لتجنيد الدروز ولم تمتنع عن استعمال القوة لهذا الامر؟ اشارة واحدة على ذلك اعطاها المستشار للشؤون العربية زئيف ديبون، ففي جلسة للجنة برلمانية لشؤون الاقليات برئاسة رئيس الكنيست يوسيف شبرنتساك، عضو اللجنة يغئال الون بادر الى بحث “لاصطياد المتهربين” كما اسمى ذلك، وهذا ما قاله ديبون: (في البداية اقيمت الوحدة الدرزية من متطوعين فقط، الا انه حين بدت صعوبات في ايجاد عدد كاف من المتطوعين، لهذا انتقلوا للتجنيد الالزامي طبقا لنصيحة احد الزعماء، هذا تعليل موضوعي.
وحدة الاقليات عانت من نقص في القوى البشرية، في البداية حاول الجيش الاسرائيلي تدعيم مراسيم التجنيد بواسطة الارشاد والاقناع، بعدها قُدمت اقتراحات لمنع تصاريح التنقل عن الدروز الذين لا يخدمون في الاحتياط، ووضع الصعوبات امامهم بوسائل اخرى، الا ان الامر لم يُجدِ، ومن هنا تمخضت المبادرة للانتقال للتجنيد الالزامي. بشكل مبدئي فهذا تعليل كاف، الا انه علينا الا ننسى انه امام الجيش كانت كذلك امكانية لحل الوحدة، لأنه على اية حال لم يكن لها اهمية ضمن قوات الجيش، الا ان هذا الخيار اُلغي، المسؤولون عن الموضوع مثل ديبون اهتموا دائما على التأكيد بأنه قُرر مواصلة نشاطات الوحدة حتى لو كان ذلك في اطار التجنيد الالزامي حسب طلب زعماء الطائفة. كما ان بن غوريون نفسه تطرق للموضوع مع تطبيق القانون على الدروز فقال: انا لم اوافق على اصدار امر لتجنيد الدروز، الا بعد ان اكدوا لي بان كل الذين يتحدثون باسم الدروز، السلطات المدنية والدينية في كافة الطوائف (المقصود الطائفة) يؤيدون ذلك، وحصلت على وعود بأنهم تحدثوا مع الجميع وهم موافقون، لكن يوجد كما يبدو إما شبان لا يريدون الخدمة في الجيش، او زعماء موافقون، انها طائفة متنازعة جدا، جدا.
طلب زعامة الطائفة كان ذريعة فقط، سبب التعنت الاسرائيلي يجب البحث عنه بادئ ذي بدء في المستوى السياسي، فقد صدق الاطرش الى حد بعيد حين ادعى بان الهدف من التجنيد هو الفصل بين الدروز وبقية العرب، ابعاد تجنيد الدروز للجيش طُرحت وتُطرح اليوم عن ماهية وزنهم كمحاربين. في وثيقة لوحدة الاقليات طرح الموضوع بصراحة، التأثير المباشر “لوحدة الاقليات” كان تقريب الطائفة الدرزية الينا وربطها بنا واساءة العلاقات بين الدروز والمسلمين في البلاد، وزعزعة الثقة بالدروز خارج البلاد. لم ترغب اسرائيل في التنازل عن هذا الانجاز، في منتصف سنوات الخمسين طمحت اسرائيل لتوسيع “استخدام” الدروز، قائد وحدة الاقليات اقترح استخدامهم لاهداف امنية داخلية ومخابرات: “نشاطات تربوية وارشاد من شأنها ان تُقرب جيل الشباب لقضايا اسرائيل وتزيد من اخلاصهم، ويمكن الاستعانة بالكثيرين منهم في مجال: الامن الداخلي، الكشف عن عملاء خارجيين، متسللين، مهرّبين وما شابه ذلك، الرجال المعينون الذين يقع عليهم الخيار بدقة، سيكونون دعما قويا للعلاقات مع الخارج من حيث المخابرات وبالاساس من الناحية السياسية.
هذه هي اذن الاسباب الاكثر جوهرية لتعنّت اسرائيل في تجنيد الدروز، وهذا هو السبب كذلك بان التعليل الاساسي للمعارضين: كونهم عربا ويطمحون للمحافظة على علاقاتهم مع العرب في الداخل والخارج لم يحظ بالاهتمام وعزلهم عن العالم العربي كان هدفا جوهريا للتجنيد، وليس نتيجة متمخّضة عن ذلك.
دفعة جوهرية اخرى لتجنيد الدروز قدمها التنافس الشخصي الاسرائيلي للتأثير على الطائفة، وحاجة رجال في الطائفة لايجاد اوصياء عليهم في جهاز الدولة. الاشخاص البارزون الذين لعبوا دورا في النشاط بين الدروز ومنذ فترة الانتداب البريطاني: كان من بينهم رئيس بلدية حيفا: اباحوشي ويهوشع بلمون اللذان ايّدا التجنيد، وبالمقابل ففي منتصف الخمسينيات وصل رجال من كافة التيارات في الطائفة الى نتيجة، بأنهم لن ينجحوا في تأليب قوى ذات اهمية دون دعم الجهاز الاسرائيلي او ممثلين كبار عنه، حتى يحصل الدعم كان على زعامة في الطائفة التأكيد على ولائها للدولة وموافقتها على تجنيد الشبان الدروز. اولئك الذين انضموا الى الحركة الصهيونية في فترة الانتداب – رؤساء عائلة أ.د من عسفيا، و ص.خ من شفاعمرو، لم يكونوا من الزعامة القيادية، فقد دعموا التجنيد بشكل قاطع، في منشور اصدره ل.ا عام 1955 لم يُبق أي شك بالنسبة لموقفه: (تجندوا بجماهيركم يا ابناء طائفتي وقدموا قربانكم لصندوق الدفاع)، واضاف: (استعد ايها الشباب الدرزي للكفاح وواصل جهودك للدفاع عن وطنك الحر، اسرائيل المزدهرة، لا تتردد في القيام بواجبك تجاه وطنك المحبوب… عاشت الحرية، عاشت اسرائيل وعاش استقلال اسرائيل“.
حقا ان أ.د و خ. نالا تأييد قائد وحدة الاقليات امنون يناي ومستشار رئيس الحكومة يهوشع بلمون أ.د عُين رئيسا للمجلس المحلي في عسفيا وبعدها قاضيا في المحكمة الدينية الدرزية، خ حصل على دعمهما في جولاته الانتخابية للكنيست.
بالمقابل وقف الشيخ امين طريف الذي تحفّظ من التجنيد لأنه اراد منع المس بالعلاقات بين الطائفة في البلاد والمراكز الدرزية في الدول المجاورة، ولأنه خشي من المس بالقيم الاخلاقية لدى الشباب الدرزي، الا ان موقفه هذا كان وبالا عليه، فمنذ قيام الدولة كان منهمكا في تدعيم مركزه كرئيس للطائفة، بينما كان معارضوه يهاجمونه بسبب عدم الشفافية في ادارة اموال وقف النبي شعيب، احد مصادر الدخل الهامة لدى الطائفة مستغلين تحفظه من تجنيد الدروز للمس بمكانته امام السلطات.
ان معارضته تجنيد الدروز حتى ابّان حرب 1948 اثارت ضده الحقد من قبل العائلات التي ارسلت ابناءها للحرب. هكذا كان عام 1949، حيث قال الشيخ ص.ع.ا أب ثاكل فقد ابنه في معركة يانوح، تشرين الاول 1948 (حيث قُتل فيها عشرة جنود دروز من وحدة الاقليات بنار مدافعي القرية). موظف وزارة الاديان يعقوب يهوشع قال: (الشيخ امين طريف القى الحرمان السري على المتجندين لجيش اسرائيل (ابان حرب 1948) ولهذا السبب لم يدفن ضحايا معركة يانوح وكانت جثثهم قوتا لطيور السماء).
حين طرح موضوع تجنيد الدروز للاحتياط عام 1953، دعا معارضو الشيخ امين طريف لمؤتمر صحفي، فصّلوا فيه معارضته للتجنيد نتيجة لدوافعه العربية – الوطنية. سلمان طريف، اخو الشيخ عرف آنذاك ان هذا الموقف سيمسّ بجهود امين طريف لتعيينه كزعيم معترف به في الطائفة وتكون لديه السلطة الكاملة على املاكها والاعتراف بسلطته في الافتاء. لذلك دعا هذا لمؤتمر صحفي نقيض لتقويض الادعاءات ضد اخيه وتلطيف النقد حول معارضته للتجنيد، في هذا المؤتمر اعلن الطريفيون عن تأييدهم للتجنيد بشرط ان قادة وحدة الاقليات الذين مارسوا الفساد كما يدعون، يُستبدلون بآخرين، وبهذا نجحوا ليس فقط في تلطيف النقد ضدهم، انما في توجيه علامات الاستفهام تجاه قائد وحدة الاقليات امنون يناي والمستشار يهوشع بلون اللذين ايدا معارضيهما: ل.أ. و ص.خ، استمرارا لهذا المسار اتصل طريف برئيس بلدية حيفا اباحوشي من آباء العلاقات مع الدروز في سنوات الثلاثين، حين كان سكرتيرا لمجلس عمال حيفا. هذا اللقاء ساعد الفريقين: الطريفيون وجدوا لهم وصيّا قويا، وحوشي وجد طريقا لتجديد تأثيره بين الدروز، فقد (تبنّى) طريف وكذلك عضو الكنيست ج.م. الذي ساعد كذلك القوات اليهودية في الحرب الا انه كان متحفظا بالنسبة للتجنيد. واخذ يعمل لتغيير الآراء بالنسبة للتجنيد.
الشيخ امين واخوه سلمان توقفا عن ابداء معارضتهما للتجنيد بعد الاتصال مع حوشي وبعد لقاء لهما مع موشي شاريت (التفاصيل الكاملة ليست معروفة). سلمان تبنّى فجأة موقفا جديدا: سيكون اسهل على الدروز اذا فُرض عليهم قانون التجنيد الالزامي، لان تجنيدهم تطوعا سيظهرهم بشكل سلبي في نظر من حولهم. هذا الادعاء يمكنه جمع ممثلي الدولة، الدروز المؤيدين للتجنيد والدروز الذين قرروا حاليا تأييد التجنيد الاجباري. كذلك الشيخ امين تنازل عن معارضته بشرط، قبلته وزارة الدفاع: الشبان الراغبون في الدراسة الدينية (وكذلك العُقّال – رجال الدين) يكونون معفيين من التجنيد، وبهذا حُيّدت معارضة آل طريف للتجنيد. وتمخض وضع نتج عنه انه لا يوجد أي زعيم كبير لا يؤيد تطبيق القانون على الدروز، طريق تجنيد الدروز الزاميا وترسيخ مكانة الشيخ امين كرئيس للطائفة مُهدت على مصراعيها.
في سنوات ما بعد تطبيق التجنيد الالزامي على الدروز عُزز مشروع الفصل بين الدروز وبقية الطوائف العربية في الدولة، في عام 1957 اعلن عن الدروز كطائفة دينية مستقلة (في فترة الانتداب كانوا تحت صلاحيات قضاء المحاكم الاسلامية، وكان من رأى بهم طائفة اسلامية وليست دينا قائما بذاته). في عام 1961 حصلت الزعامة الروحية الدرزية على اعتراف شرعي قانوني كمجلس ديني، وبعد ذلك بسنة ووفق على قانون المحاكم الدرزية واقيم جهاز قضاء درزي منفصل، احتفالات النبي شعيب التي كانت سابقا مخصصة لرجال الدين فقط. تحولت الى احتفالات جماهيرية، كراس عن النبي ومقامه اُعدّ خصيصا للطلاب الدروز، في الموقع اجريت احتفالات منظمة لفرق كشفية درزية، وتحول القبر لمكان لاداء اليمين لاغراء الدروز بعد تجنيدهم.
من بين كافة هذه المسارات، فممّا لا ريب فيه بأن التجنيد للجيش (هو الذي صعّد ازمة الثقة بين الدروز وبقية ابناء الطوائف الاخرى)، كما قدر ذلك نائب مستشار رئيس الحكومة للشؤون العربية، اهرون لايش، عدا عن التجنيد نفسه، فان الاستخدام المقصود بوحدة الاقليات لتمشيط القرى المتروكة وطرد اللاجئين الذين تسللوا عائدين الى بيوتهم، فهذا ما زاد التوتر بين الطوائف.
ابّان سنوات الستين، لاحظ لايش وبقية المنتدبين على الملف الدرزي في المؤسسة الاسرائيلية، لاحظوا السخط من قبل دروز عديدين، بشكل خاص شبان، وخافوا بان الامر سيتمخض عن استمرارية رفض التجنيد او التعبير عن انتماء قومي عربي، سبب هام لهذا السخط، كان شعورهم الصادق بأنهم لا يحصلون على المساواة بالرغم من خدمتهم العسكرية. سبب آخر كان: (تماهي قسم من المثقفين الدروز مع الحركة الوطنية العربية)، وكان هذا شهادة قاطعة بان عروبة الدروز لم تختف وكذلك وجود توتر داخلي في الطائفة حول قضية الهوية.
التعبيرات عن قلق داخل الطائفة لم تكن قليلة في الستينيات، بعضها ظهر جليا في لقاءات بين الافراد وبعضها في الصحف، درزي من حرفيش نشر في آذار 1964 رسالة في جريدة “الاتحاد” اتهم فيها الشيخ امين طريف بمحاولة زرع التفرقة بين الدروز والعرب. في نفس الشهر كتب صلاح شوفانية من شفاعمرو: ان الحكومة تحاول ايجاد الخصام بين الدروز والعرب، الا انهما شعب واحد فعلا، درزي من البقيعة اضاف في مقال له: (ان الدروز فرع من الدوحة الاسلامية يستخدمون كأداة في سياسة فرّق تسُد التي تتبعها السلطات، في حين انهم يُظلمون كباقي العرب)، وللتعبير عن هذا الموقف بشكل واضح، توجه قفطان عزام حلبي من دالية الكرمل، الى محكمة العدل العليا طالبا تغيير تسجيل قوميته في الهوية من درزي الى عربي. (يتبع)
** ملاحظة المترجم: هذا الفصل يعتمد على مصادر من الارشيفات المختلفة، حيث تمكن الباحث من الوصول اليها. عدد المصادر والمراجع هو 63، ثبتت بين الصفحات 288-291. وهو ما اقتضى التنويه.
– – – – – –
رد فعل مكتب رئيس الحكومة يتيح نظرة اخرى لطريقة عمل اخرى للجهاز ضد الدروز، موظف قسم الارشاد في المكتب، مئير مئير، اعد رد فعل لتوجه حلبي، فتوجه للمستشار للشؤون العربية، طالبا ايجاد درزي يوافق على التوقيع على رسالة، الرسالة المفبركة تشمل رواية الدرزي طبعا لصيغته الصهيونية، يحتاج الى تحليل مفصل [الاضافات بين الاقواس المربعة مني]جاء فيه:
اسمحوا لي ان اعبّر انني درزي فخور بأصله كأحد ابناء بني معروف [الاسم الشخصي للدروز، الكاتب اليهودي يستعمل ايحاءات داخلية كي يوفر مصداقية] كابن لهذه الطائفة بعد الاضطهاد المستمر من ناحية جيراننا العرب [موضوع الاضطهاد من قِبل العرب هو موضوع جدل بين الدروز، اسرائيل تبنّته لهدف بلورة تاريخ درزي موحّد “ضد العرب”]، هذا الموضوع مهد الطريق السلطاني لوجود طائفي مستقل، لمصلحة ابناء الطائفة جميعا [عرض الخصوصية الطائفية، ليس كفرّق تسد انما في عملية لصالح الطائفة]…. ها هو يُنشر في قرى الدروز موضوع احد وجهاء الطائفة، الذي كافح سنوات طويلة لأجل نيل حقوقها [قفطان حلبي كان من زعماء الطائفة في دالية الكرمل]، الآن تاقت نفسه لوظيفة لم تكن من نصيبه، ربما كان صادقا والوظيفة من نصيبه، وربما، ليعذرني ان اخطأت بلغتي وقلمي، لم يكن على حق، [حلبي اراد تعيينه قاضيا، الكاتب يعرض صورة تشير الى ان معارضي السلطات يفكرون فقط في مصلحة الطائفة].. يبدو لي ان الطائفة كلها عليها ان تندد بالتقلب هذا [محاولة بلورة كافة الطائفة ضد المؤيدين للقومية العربية]. رسالة بعثها مئير لممثل المستشار للشؤون العربية في حيفا، نيسيم طوقتلي، تكمل الصورة: (يبدو لي انه كان من الاجدى لو هوجم المذكور اعلاه [حلبي] من قبل “الدروز” واضاف “حين تُكتب الرسالة وتنشر [باسم درزي يوافق على ذلك]. عندها ستهتم بايجاد شتيمة مقابلة في الصحافة العبرية“.
هذه الرسالة صيغت في اطار الجهود لبلورة وعي درزي اسرائيلي خاص وتحييد ابناء الطائفة الذين يؤيدون القومية العربية. مئير هذا كان واضحا له انه لن يصعب العثور على درزي يوافق على التوقيع على هذه الرسالة. كان دروز ايّدوا الانعزالية على قاعدة فهمهم للتاريخ الدرزي، وقاموا بدور في نشاطات بلورة الهوية الدرزية الانعزالية (بما في ذلك بواسطة منبر المواطنين الدروز الذي نُشر في الجريدة الحكومية الهستدروتية “اليوم”). دروز كثيرون ايدوا ما قامت به وزارة المعارف والثقافة في استبدال معلمين مسلمين ومسيحيين بمعلمين دروز في المدارس الدرزية، ومع ذلك، فان مدى الرابطة بالاسلام بقي مثار جدال، حين قال الشيخ طريف عام 1964، واصبح الزعيم الروحي الرسمي للطائفة، بأن عليه ان يتشاور مع وزارة الاديان في موضوع هل رمضان عيد درزي، هوجم الشيخ من قِبَل الذين يرون بالدروز عربا مسلمين تماما. في رسائل لهيئة التحرير عُبّر عن غضب تجاه وزارة الاديان (كما يدعي الكُتّاب بان الوزارة قد تحايلت على الدروز ومنعتهم من الاحتفال بعيد الفطر) وكان من قرر اذا كان الشيخ غير قادر على اتخاذ القرار وحده بخصوص اعياد الطائفة، فعليه الاستقالة من منصبه.
البحث حول عيد الفطر بدأ قبل اكثر من عشر سنوات، ففي عام 1952 طلب المعلمون الدروز عطلة لهذا العيد، هذا الطلب جاء موازيا للرغبة في عطلة لأيام الجمعة، لاحظ يهوشع بلمون ان الحديث يدور حول مؤشرات “تريد الاقتراب من جيرانهم المسلمين كما في عهد الانتداب” وحسب تحليله فقد وُجد تياران في الطائفة الدرزية يقابلان بعضهما: انعزالي واسلامي، التيار الاسلامي تزعمّه الشيخ امين طريف، وهو الذي تزعّم كذلك معارضة التجنيد. “يؤسفنا القول ان المكاتب الحكومية لم تنجح في تشجيع الجناح الدرزي المتحفّظ من المسلمين، بل العكس” كتب بلمون للمخابرات، الا انه مع مرور الزمن فقد وطّد طريف زعامته، خاصة العلاقات المطلوبة مع كبار الموظفين في السياسة الاسرائيلية، ومنذ ان وافق على تجنيد شبان الطائفة فقد تبنّى خطا درزيا انعزاليا نسبيا (طبقا للسياسة الاسرائيلية الرسمية) وعرف كيف يجذّف بين كافة الاطراف في الطائفة وفي اروقة الحكم معا.
النداءات لاستقالة الشيخ امين طريف التي اطلقت عام 1964، لم تحظ بتأييد واسع، لانه نجح في المناورة بين مراكز القوى في الطائفة، وكذلك نجح في ادارة الامور بحذر تجاه مؤسسات الدولة، خاصة في مواضيع حساسة كأراضي الدروز المصادرة، في السنوات الخمس بعد قيام الدولة، صودر من الدروز في الجليل حوالي ثلاثين الف دونم، وهذا ما الحق الضرر الكبير بمصدر معيشتهم حتى ذلك الحين، استعدادهم للخدمة في الجيش لم يشفع لهم في الغاء حدة هذا الاجراء. عمليا، فان المصادرة دفعتهم للبحث عن العمل في صفوف الجيش، الشرطة، حرس الحدود ومصلحة السجون، وبهذا فان مؤسسات الدولة حصلت على ربح مضاعف جرّاء مصادرة الاراضي، وبالمقابل فان ربح الدروز كان موضع خلاف، ومع ذلك فان رؤساء الطائفة وبضمنهم الشيخ طريف، كادوا لم يفعلوا شيئا للحفاظ على الارض.
هنا وهناك كُتبت عرائض ضد المصادرة، وانضم دروز للسكان العرب المحتجين عامة. لكن كبار الزعماء لاذوا بالصمت، واحيانا تواسطوا كذلك بين الدولة واصحاب الاراضي، أي انهم ساعدوا الدولة في استملاك الارض التي تاقت اليها، واقنعوا الفلاحين بقبول تعويض (نقدا او ارضا)، صمتهم كان رهيبا خاصة في قضية اراضي مُغر الخيط. اراضي مغر الخيط المسماة ايضا مغر الدروز في المنحدرات الشرقية لجبال صفد (قرب حتصور الجليلية)، كانت قبل قيام الدولة ملكا لأهالي بيت جن، القرية الدرزية الكبيرة في جبل ميرون، الموقع ممتد الاطراف يزيد عن ستة آلاف دونم، بعضه قابل للزرع والآخر ارض صخرية، استُخدمت المغر كمأوى للرعاة، زرائب للمواشي ومخازن للادوات الزراعية، هذه الاراضي استُغلت جماعيا من قبل اهالي البلدة (طريقة المشاع)، ومع قيام الدولة اُغلقت المنطقة امام اهالي بيت جن واعلن عنها، منطقة عسكرية مغلقة، وفيما بعد خصصت للاستيطان اليهودي، طالب الدروز باستعادة اراضيهم، الا ان طلباتهم رُفضت، في آب 1959 حاولت مجموعة منهم دخول المنطقة بالقوة. “المحرّضون والمشاغبون اُوقفوا ومحاولة اقامة مظاهرة كبرى مُنيت بالفشل”، هذا ما قاله ضابط الشرطة، طيلة هذه الفترة ضغطت مؤسسات الدولة على الدروز كي يقبلوا التعويضات مقابل المصادرة، الا انهم كانوا موحدين في معارضتهم، في بداية 1960 اخذت الجبهة الموحدة بالتداعي، احدى العائلات وافقت على اخذ التعويض المالي، رويدا رويدا عائلات اخرى سلمت للأمر، في بيت جن اخذ التوتر يتطور بين الحاصلين على التعويض ومعارضيه، اهالي الحارة الشرقية، خاصة ابناء عائلة قبلان الذين وقفوا في طليعة الكفاح اعلنوا بأنهم لن يسمحوا “للخونة” الذين تنازلوا عن الارض بالمرور في حارتهم، الحاصلون على التعويض هوجموا كلاميا وجسديا، في آب 1960، وقعت في القرية طوشة عمومية بين مؤيدي التعويضات والمعارضين، وصلت الشرطة للمكان بقوى معززة، نجحت في ايقاف الفتنة واعتقلت للتحقيق عددا مماثلا من الجانبين.
الاجواء في القرية كانت صعبة، معارضو التعويضات توجهوا للزعامة الدينية طالبين القاء الحرمان على بائعي الارض والاعلان عنهم خونة وكفارا، ولتدعيم بُعد فتوى مسيرة المعارضة، ادعى هؤلاء بأن اهالي بيت جن اقسموا يمينا في الخلوة (بيت الصلاة الدرزي) المحلية بأنهم لن يتنازلوا عن ارضهم، وبهذا فان كل من ينكث بالقسم فانه ينقض الحرمان الديني، وفي يوم 15 آب 1960 اجتمع لعُقّال (رجال الدين) الدروز برئاسة الشيخ امين طريف وقرروا بأنه لا توجد اية مشكلة دينية او افتائية في التنازل عن الارض، وكل شخص يمكنه التصرف كما يشاء.
هذه الفتوى مناقضة تماما للفتاوى الاسلامية التي اعلنها الحاج امين الحسيني وآخرون في عهد الانتداب، وكذلك الحال لفتوى مسيحية اعلن عنها، ازاء الموقف الدرزي التقليدي. وبهذا لن تكون مفاجأة، حقا، على ضوء رغبة القيادة الدينية في عزل نفسها عن الاسلام، (وبالطبع عن وجهه السياسي)، ومراعاة لرغبتها في الحفاظ على علاقات جيدة مع مؤسسات السلطة، الا انها وجدت نفسها تعمل ضد مصلحة الطائفة، فقط حين التهبت المشاعر في نهاية تلك السنة حول موضوع تركيز الاراضي الزراعية (الذي كان من المفروض به ان يُحدث تغييرا في ملكية الارض ومواطنو اسرائيل العرب خافوا من استخدامه ضدهم)، دروز كثيرون انضموا للاحتجاج، قال الشيخ طريف بلهجة واهنة بأنه ينوي جمع الشيوخ من كافة قرى الجليل كي يبحثوا في خطوات مطلوبة، وربما كذلك التوجه للسياسيين الاجانب طالبين تدخلهم، وكما نعرف فان لقاء كهذا لم يحدث، (وبطبيعة الحال فان مشروع القانون قد عُلّق).
اذن، بشكل عام. فان الزعامة الدرزية قد مهّدت طريقها مع سلطات الدولة، كذلك في موضوع الاراضي الحساس. في التوتر القائم بين الحاجة لارضاء مؤسسات الدولة وبين الرغبة في التكتل مع الجيران المسيحيين والمسلمين، فان الزعامة اختارت الامكانية الاولى، وهذا ما حدث كذلك في التصويت في الكنيست لالغاء الحكم العسكري، في عامي 1962، و1963، عندها صوّت عضو الكنيست جبر معدي ضد الالغاء، وبالمقابل اعلن رئيس الحكومة بن غوريون عن منح تسهيلات للدروز الساكنين في منطقة الحكم العسكري. الفجوة بين الدروز وبقية العرب اتّسعت، ومعها كذلك هويتهم المختلفة من ناحية، وتماثلهم مع الدولة في القضايا المركزية: الامن والاراضي من ناحية اخرى. هذا هو وضع كلاسي لالتقاء مصالح بين اقلية داخل اقلية (تخشى من سيطرة مجموعة الاقلية الكبرى)، وبين مجموعة الاكثرية (التي ترى هي الاخرى بالاقلية الكبرى تهديدا)، وهذا يعرض كذلك مرونة الهويات القومية: في وضع سياسي آخر، من الاكيد سيكون دروز الجليل والكرمل كاخوتهم في سوريا ولبنان يرون انفسهم جزءا من الأمة العربية.
الى حد ما، يمكننا رؤية تطور الهوية الدرزية الخاصة انجازا للعاملين في شؤون العرب، الا انهم هم كذلك رأوا بهذا انجازا مشروطا، منذ اواسط الستينيات فان الجهات الامنية تجري دراسات هامة بالنسبة لمستقبل العلاقات مع الدروز، في جلسة اللجنة المركزية للشؤون العربية عام 1966، قال ممثل الشرطة اهرون شلوش: ليس من المرغوب فيه اعطاء الدروز مساواة كاملة في الحقوق، لأن الامر سيؤدي الى مواجهة بين الدروز واليهود، رئيس القسم العربي في المخابرات العامة، ابراهام احيطوف، (فيما بعد رئيس المخابرات العامة) اقترح: “استمرار الجهود لتشجيع الخصوصية الدرزية وعزلها، خاصة لدى جيل الشباب، عن العرب”، الا انه هو كذلك كان يعي بانه (رغم كل بياناتنا السياسية سيبقون ابناء اقليات ويشعرون بالاضطهاد والتمييز) توقعاته كانت بانه: (لا توجد امكانية لمنع عملية انجراف الدروز مع التيار القومي). حوالي اربعين سنة انقضت منذ ذلك الحين، فان شبانا دروز حين يُسألون عن هويتهم، حتى لو كانوا لا يتجاهلون المركّب العربي بهذه الهوية، فانهم ليسوا بالضرورة “قوميين” طبقا لتحديد المخابرات العامة، الا ان قلائل جدا منهم يرون انفسهم فلسطينيين، اذا ما قارناهم مع قسم كبير من العرب في الدولة.