بقلم: الشاعر علي هيبي
أعرف سعيد نفّاع محاميًا ورفيقًا، منذ عقود، ولكنّ معرفتي به كاتب قصّة رشيقة ومقالة أنيقة ودراسة مقنعة وخاطرة لَمّاحة لم تكن إلّا من بضع سنوات، وتعزّزت هذه المعرفة من خلال نشاطنا أنا وهو ومجموعة من الأدباء المبادرين، وقد أثمر ذلك الجهد عن تأسيس اتّحاد “الكرمل” للأدباء الفلسطينيّين في حزيران 2014، والذي يشغل فيه سعيد نفّاع منصب الأمين العامّ ، ولا أعرف السبب، لماذا لم أكن قارئًا لإنتاجه، وهو الذي بدأ بنشر نصوصه منذ العام 1969 وكان أوّلها “بائع الآرتيك” وزاد إنتاجًا في التسعينيّات وغزر هذا الوبل في العقد الأخير، وأصدر خلال سنة 2014 مجموعتين من النصوص والقصص على الأقلّ، وهما مجموعة “سمائيّة البو عزيزي” ومجموعة “لفظ اللجام” وقد تسنّت لي قراءتهما بإمعان وعمق.
لن أتعرّض في هذه المقاربة الاستقرائيّة أو النقديّة – وصف المقاربة هو آخر ما يهمّني – لنصوص هاتين المجموعتيْن، بل سأتناول نصوص هذه المجموعة، وهي آخر إصداراته كما أظنّ، ومع أنّ الكتابة في هذا المجال لا يستهويني كثيرًا، ولكنّي ألفيت نفسي مُستدرَجًا إلى الكتابة بعد ما تركته فيّ هذه النصوص من أثر، وما خلّفته فيّ من انطباعات قراءة المجموعتيْن السابقتيْن.
ولماذا أتمسّك بوصف هذه الكتابات بالنصوص؟ مع أنّ الكثير منها ذات معالم القصّة القصيرة، ولعلّ هذا الشأن الأبرز الذي لمسته عند سعيد نفّاع، فهو نفسه لا يأبه لنوع نصوصه، أهي قصّة أم خاطرة، رسالة أدبيّة أم مقالة موضوعيّة، ففي آخر رسالته إلى حفيده، وقد عنونها بِ “رسالة مؤجّلة من عالم آخر” وهي نصّ مدهشّ في أفكارها ومضمونها، من حيث ابتعادها عن النمطيّة المألوفة في كتابة الرسائل الأدبيّة أو في كتابة القصّة، مع أنّ فيها من هذه وتلك، فهو يتوجّه للقارئ في نهاية النصّ بهذه الجملة “سمّهِ قصّة إن شئت”، ولعلّ في تغيّر الزمان وتطوّر الأشكال الأدبيّة والنظريات العلميّة وانكسار القوالب واندثارها، ما أدّى إلى تحطّم صرامة نظريّة “الجانر” الأدبيّ وانهيار مبدأ فصل الأنواع الأرسطيّ ما قد فتح الأبواب على مصاريعها أمام الكتابة والكتّاب ليغوصوا في حريّة تأبى القيود الأدبيّة وترفض أن تكون الحدود بين الأنواع الأدبيّة واضحة المعالم كما الدول على الخرائط الجغرافيّة والسياسيّة.
إنّ قضيّة التحرّر عند سعيد نفّاع لا تقف عند نوع النصّ فقط، بل تتعدّاها إلى التحرّر من قوالب البنى اللغويّة، فالبنية اللغويّة عنده بارعة التركيب في صياغاتها غير المعهودة، وهو يفعل ذلك عن وعي تامّ، وإنّ هذه السمة نلمسها في هذه المجموعة والمجموعتيْن اللتيْن سبقتها، وهو بذلك يستفزّ القارئ استفزازًا إيجابيًّا فيخلق فيه رؤًى جديدة تجعله يتعرّف على عالم النصّ الداخليّ وما يجول فيه من مركّبات غير منسّقة، للوهلة الأولى تبدو، وفي هذا من الجدّة التي تجعل سعيد نفّاع كاتبًا يريد أن يخلق نموذجًا جديدًا من قارئ غير منفصل عن النصّ، فهو هاجسه الأوّل والرئيس.
في مقدّمة مجموعة “سمائيّة البو عزيزي” (ص:7) وتحت عنوان “بدل المقدّمة” أليس هذا العنوان جديدًا؟ يبيّن الكاتب المعيار والمقياس في تقويم النصّ الأدبيّ الذي لا بدّ أن يكون فاعلًا صعودًا أو نزولًا ومؤثّرًا بشكل أو بآخر في القارئ ومحرّكًا شيئًا ما فيه. ولكن ومع رؤيتنا لصحّة رأي سعيد نفّاع في هذا، لا نستطيع نحن ككتّاب أو شعراء، وهو واحد منّا، مهما بلغنا من تحرّر غير محدود، لا يمكننا رفض كلّ ما هو قديم أو عدم الاستفادة منه لتطوير جديدنا، إذ لا بدّ لكلّ شيء في الدنيا من قواعد نقبلها، ولنا أن نثور عليها، كما نحتاج عند الطيران إلى الأرض التي ننطلق منها. وهو ما يقوله سعيد في آخر الفقرة نفسها، وهو التوّاق كما أعرفه شخصًا وكاتبًا ومحاميًا، صدر ضدّه حكم جائر لأنّه لا يأبه للقيود التي فرضتها حكومات إسرائيل في منع المواطنين العرب من التواصل مع إخوانهم في الأقطار العربيّة، وكذلك في مضامين نصوصه القصصيّة وغيرها، نراه دائمًا ميّالًا إلى كسر الروتين ونبذ السائد السلبيّ المتعارف عليه والراكن إلى الخضوع والخنوع تحت ادّعاءات وخرافات ومسلّمات، لا قيمة لها وما أنزل الله بها من سلطان، حتّى إن كانت تلك المسلّمات في مجال السياسة أو الفكر أو المجتمع أو الأدب أو الدين.
لن أعالج النصوص بشكل تفصيليّ تحليليّ أو نقديّ، فهذا من عمل النّقاد المتخصّصين، ولست واحدًا منهم، مع تقديري لعملهم وجهودهم العلميّة، بل سأقوم وبشكل انتقائيّ بأخذ بعضها والتعليق على أبرز وجوهها، بل على أكثر ما شدّني فيها، كقارئ يحسن القراءة إلى حدّ ما، ولا أراني مُلزَمًا لا لسعيد نفّاع ولا لأحد آخر بكتابة ما يحبّون قراءته، بل أنا ملزم أمام نفسي فقط، وأمام النصوص ذاتها، أن أكتب ما يروق لرأسي الصغيرة أو ما أستشعره من وجداني ضمن تجربتي الاستقرائيّة المتواضعة.
إنّ أكثر ما استرعاني وانتباهي في قصّة “الأقحوانة المتكسّرة” تناول الكاتب بجسارة لافتة لأكثر القضايا حساسيّة في مجتمعنا العربيّ المحافظ المشدود إلى التقاليد، رغم ما يشوب واقعنا الاجتماعيّ من مظاهر قد تكون حديثة، والقضيّة هي “شرف العائلة” هذا الشرف المدّعى والمزيّف، والذي يستدعي قتل فتاة، يُتبيَّن في غالب الأحيان أنّها كانت بريئة، وكأنّ الفتاة إذا فعلت ما فعلت قامت به وحدها، ولا رجل يشاركها في مسّ الشرف، فهو الرجل المحصّن بحصانة ذكورته. إنّ مثل هذه المعالجة الجريئة، فهو يقول على لسان الراوي: “شو شرف العائلة هذا اللي بين رجليْ بنت” تستدعي موقفًا واضحًا وتقدميًّا، وهو ما نمسّه باليد وأمّ العين عند الكاتب المعايش لواقعه والمواكب لكلّ قضايا مجتمعه المأزوم بعاداته وتحجّره، والذي يؤمن بأنّ “الشرف العائليّ العظيم” موجود في موقع صغير بين ساقيْ امرأة، وإنّ أيّ انفجار يصيب ذلك الموقع، ولو بقنابل دخانيّة أو مسيلة للدموع، لا بدّ أن يؤدّي إلى انهيار ذلك الطود الراسخ “والشامخ” والذي اسمه زيفًا وظلمًا “شرف العائلة”.
ولعلّ الاهتمام اللامحدود بالقارئ – ولا أقول إرضاء – عند سعيد نفّاع يحوّله إلى هاجسه الذي لا يغيب عن النصّ، وهو ما يجرّه إلى خلوّ بعض من قصصه من الفجوات التي يترتّب على القارئ ملؤها، إذ كان يستطيع الكاتب أن ينهي قصّة “الإقحوانة المتكسّرة” عندما قال القاتل السجين للراوي: “ويسامحني”، فيكون النمو في الحدث والتحوّل في سلوك الشخصيّة واعترافه بالذنب وصحوة الضمير رمزيًّا ولَمّاحًا، كي يصل القارئ إلى ما يريد من تخيّلات محتملة، لكنّ ذلك لا يجب أن يجعلنا نظنّ بأنّ سعيد نفّاع يشكّ بقدرة القارئ، “ربّما”! ولكنّي أرجّح أنّه كثير الاهتمام به، فهو هاجسه الأوّل، ولذاك تراه مخلصًا لقارئه. والحوار في القصّة نفسها يساق في بدايتها بالعاميّة، وبالفصحى في نهايتها، فيطرح السؤالُ نفسه، هل لهذا الانتقال أو التغيير في الحوار من دلالة ما؟ وهل هو انعكاس معبّر عن التحوّل في الشخصيّة والموقف من دور القاتل الغبي إلى دور النادم والمثقّف الذي علّمه السجن والعزلة، فمال إلى ملء أوقاته الطويلة بالقراءة والتثقّف؟ هذه “ربّما” أخرى!
ولأنّ سعيد نفّاع ابن مكانه الحقيقيّ وابن زمانه الحقيقيّ وابن ظروفه الحياتيّة وابن مجتمعه بخيره وشرّه، وإيجابه وسلبه، لذلك فهو لا يجامل زللًا ولا يجمّل قبحًا، ولا يساير ظرفًا، ففي قصّة “البنات والخنجر” يعالج قضايا تمسّنا ونضطرب فيها جميعًا، وقد شهدناها حقيقة في الكثير من قرانا، ما يعكس قمّة تخلّفنا عند نشوب كلّ داحس وغبراء، وليس فقط في تفاهة أسبابها بل في كيفيّة تعاطينا معها، فالخلافات العائليّة والقبليّة يتناولها في قصّته تناول الجرئ الواعي والمدرك لتداعيات الحياة الاجتماعيّة عندما يصبح “العرب عربين”، وقد انبثق هذا الموقف الجدّيّ والخطير بمفارقة وسخرية فنيّة تجلّت في لغته وأسلوبه، الأمر الذي أثّر أيجابًا على المبنى الفنيّ وجعل المتلقّي يتفاعل مع السخرية التي تعكس الكثير من القبح والألم، ولأنّ الكاتب أمينًا لفنّه ولقارئه ومخلصًا لمجتمعه “على علّاته” ويسعى لتخليصه من شوائبه، فهو لا يدير ظهره “وحايد عن ظهري بسيطة” بل يواكب الحياة ويحمل محراثه “كالشقوق” ويمضي، كما يواكب شخصيّاته بحيويّة في سلوكها وحركتها، حيث تسير على سجيّتها في واقعها المؤلم غالبًا، ولا تتحوّل إلى بوق يبثّ أفكار الكاتب، فالشخصيّة عنده تعيش على حريّتها، وفقًا لظروفها ولما رُسم لها من خطوط، لأنّ سعيد نفّاع لا يحتاج إلى كتابة قصّة لنشر أفكاره الواضحة في قضايا الحياة المتعدّدة، وقد كتب الكثير من المقالات ذات المعارف والمعلومات وكتب دراسات ذات منهج وتحليل موضوعيّ.
أحسست وأنا أقرأ بعضًا من هذه القصص أو النصوص، “سمّها ما شئت” أنّ اهتمام سعيد نفّاع بالقارئ يجعله لا يأبه للراوي، أو يتركه في الظلّ، خاصّة عندما يكون الراوي غير مشارك في الأحداث، وكأنّ نصوصه تروي نفسها، وهو ما نلمحه في قصّة “البنات والخنجر” التي يوظّف فيها بسلاسة وانسياب الكثير من التراث الدينيّ والشعبيّ، وكذلك في قصّة “الحادي والفضائيّة” التي يتناول فيها قضيّة التقدّم العلميّ والمخترعات الحديثة كالتلفزيون، فمن خلال الحدث الذي يقف والده في صميمه، وهو رجل دين لا يؤخّر صلاة ولا يترك فرضًا مهما حدث، نرى أنّ الولد ينتصر دون إعلان واضح لموقف أبيه الرافض والمتمرّد على موقف بعض رجال الدين المتزمّتين الذين يحرّمون النظر إليه ويعتبرونه رجس شيطان، وهذا ما يعكس السياق الفكري التقدّميّ الذي ننشده في الكاتب، وهو الميل إلى العلم والعقل ونبذ الخرافات والمسلّمات البائدة حتّى لو جاءت من رجال دين.
في قصّة “الشقوق” تظهر البيئة القرويّة بكلّ مكوّنات نسيجها، وقد كانت هذه البيئة، وهي التي نما فيها سعيد نفّاع طفلًا وشابًّا ورجلًا، أبرز عناصر خلفيّاته ولوحاته في كثير من القصص، وقد شكّلت اللوحات المكانيّة المعبّرة عن طبيعة المكان ووداعته أجواء حيويّة لنماذج الشخصيّات القروية التي يعرفها الكاتب حقّ المعرفة وعن كثب، وقد تشكّل أيضًا صورة رومانسيّة تعكس الحالات النفسيّة لشخوصه. لا ننسى أنّنا نتحدّث عن كاتب هو ابن قرية “بيت جن” الرابضة على أعلى نقطة في الجليل الأعلى وعلى أعلى جبال بلادنا الرائعة، جبل “الجرمق”.
أعتقد أن الإنسان المشدود إلى تراثه، وإن رفض جزءًا منه، والمشدود إلى مجتمعه القرويّ العربيّ وإن كفر ببعض سلوكيّاته، ونحن حقيقة بعد النكبة لم يعد عندنا مجتمع مدنيّ حتّى في مدننا، والإنسان الذي يحنّ رغم البعد إلى الراعي والعجّال وشلعة الماعز والبيدر والعود والمنساس والحادي وصفّ السحجة ولقمة خبز من طابون وجرن الكبّة وجرن القهوة وشربة ماء من جرن بئر وحليشة الكرسنة وأيّام الحصيدة والفدّان والشقوق، حتّى لو عاش هذا الإنسان في ظلّ المخترعات والتقدّم التقنيّ والفكريّ، أعتقد بل أجزم أنّه إنسان يتمتّع بقدر عالٍ من الوطنيّة. لماذا أقول ذلك؟
لأنّ سعيد نفّاع الكاتب انشغل كثيرًا بالناحية الوطنيّة في كثير من نصوصه وقصصه وكتاباته عامّة، فضلًا عن مواقفه وانتماءاته وسلوكه في هذا المجال كإنسان، فمعظم قصصه في المجموعتين: سمائيّة البو عزيزي” و “لفظ اللجام” تتناول هذا الجانب السياسيّ والوطنيّ وواقع القضيّة القوميّة الراهن، والتي انبثقت عن أبرز ما ألمّ بالشعب الفلسطينيّ، وهو النكبة الكبرى التي زعزعت وزلزلت أركان حياتنا سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، نفسيًّا وجسديًّا، عقليًّا وروحيًّا. فقد أحاقت النكبة بكافّة تداعياتها وملابساتها وانعكاساتها على الكلّ الفلسطينيّ أناسًا وأرضًا، وعلى كلّ الأفراد، إذ لكلّ فرد نكبته وقصّته.
“حورة الميعاريّة” في القصّة التي تحمل اسمها هي نموذج ولا أقول نمطًا، نعم “كلّنا في الهوا سوا” وسوا في الليل والبرد والمطر والرحيل والعراء والجوع والعذاب والاغتراب، ولكن فوق هذا لكلّ عذابه المتميّز على المستوى الفرديّ. حورة هي تلك الامرأة الميعاريّة التي بدأت نكبتها الذاتيّة يوم انقطع صوت الرصاص غربي ميعار وانتهت بعد أن ناهزت الثمانين وسمعت المذيع السوريّ يعلن أنّ آلافًا من الناس في وداع الشهيد صقر عقاب الميعاريّ، مع أنّ المذيع لم يضف لها شيئًا إذ كانت قد أعلنت إحساسها باستشهاده يوم رأت الحشود في الجولان تقترب من حدود فلسطين مصرّة على العودة وبينها شابّ ثائر وعنيد يحمل العلم الفلسطينيّ. وبين العذاب الأوّل والأخير متوالية من العذابات والتشرّد بين سخنين وحرفيش وطمرة، ليس لكلّ حورة فلسطينيّة أب وأخ مقاومان، مع كثير من القواسم المشتركة مثل حبّ الرئيس جمال عبد الناصر، وهو ليس حبًّا فطريًّا بل هو إحساس قويّ بصدق المواقف القوميّة، وكذلك الإحساس بالتغيّر في قناة الجزيرة، إلّا أنّنا نلمح ذلك في نبض شخصيّة حورة وحدها، الأمر الذي يدلّل على أنّ سعيد نفّاع قدّم لنا شخصيّة متميّزة المعالم نابضة بالحياة والإحساس الحارّ، شخصيّة تنمو داخل وجدانها الوطنيّ وتضطرب في ظروفها المتقلّبة والمأساويّة، ولقد تناول الكاتب في هذه القصّة موضوع النكبة وما تعرّض له العرب من مسلسل التشريد وكلّ انعكاساته على الحياة اليوميّة الأليمة، وأبرزه البحث عن مأوى جديد، والتحوّل إلى شعب من اللاجئين في المنافي أو الباقين المهجّرين في غير قراهم وتحت العسف الإسرائيليّ كالأيتام على مآدب اللئام. إنّ حلّ النكبة هو العودة ولا حلّ آخر، وهذا ما نلمحه كذلك في قصّة “المفتاح واليرموك” والتي أهداها لكلّ المشاركين في مسيرة العودة، وقد اُحتفِل بها سنة 2015 على أرض قرية “الحدثة” المهجّرة والواقعة بالقرب من مدينة طبريّا.
ولا بدّ من تناول الجانب الساخر والذي نلمسه في كثير من قصص سعيد نفّاع، وهو يبرز أكثر في القصص المستقاة من الواقع الاجتماعيّ المحلّيّ، والمستوحاة أحيانًا من التراث الشعبيّ ومن بعض السلوكيّات والعادات، حيث يسلك الأشخاص في تلك القصص سلوكًا مناقضًا لما هو مألوف اجتماعيًّا، ولكنّه سلوك قويم أخلاقيًّا، لأنّ أيّ مجتمع مداهن لا بدّ أن تتناقض فيه الأخلاق الصميميّة والاجتماعيّات الزائفة، وهذا ينعكس في شخصيّة “ظريف بلدنا يحرم الرفيق (ح) القيادة” ولعلّ هذا الظُرف الذي يجعل ظريفًا اسمًا على مسمّى هو الذي يخلق هذه السخرية والمفارقة بين الموجود والمنشود في حياة الناس. وكذلك في قصّة “سطح جاسم عجّة والدكتور” حيث تنبع السخرية ممّا قاله دبّاب الصوت حقيقة، وهو أنّ جاسم عجّة بدو يصبّ باطون، ولذلك هو يستثير همم أهل النخوة في البلد، وبين ما سمعته بديعة زوجة منيف الجدعان، أنّ جاسم عجّة بدو يصير دكتور. وكذلك في نصّه أو قصّته غير التقليديّة “حديث القهوة” التي يجعلها موردًا لكثير من المعلومات عن القهوة العربيّة وطريقة صنعها وكيفيّة شربها وكيف يُكرّم الضيف بها وعدد الفناجين المقدّمة له، وأدوات تحميصها ودقّها، فأنّه يسوق نصّه بأسلوب حكائيّ مشوّق، لا يخلو من السخرية ما بين حديث أبي شكيب ومعلوماته الغزيرة عن القهوة وسلوك شلّة الراوي والسرّ الدفين عن الطريق المؤدّي إلى القهوة المدفونة لقدسيّتها في جُوَر الخميرة وصنعها وشربها في تنكة ما.
وأخيرًا هذا فهمي لبعض من جوانب نصوص سعيد نفّاع، حاولت من خلاله أن أحسن القراءة، وأن أجرّب الوصول إلى استنتاج ما، وقد أكون مخطئًا أو مصيبًا، حول العنوان الذي اخترته لمقاربتي هذه، وملخّصها أنّ سعيد نفّاع مسكون بالقارئ دائمًا، لا ينساه بل ويخلص لدوره، وكأنّه شريكه في إنتاج هذه الوجبات الشهيّة والمقدّمة على أطباق من جذب وتشويق، وبالتالي هذه المجموعة وما قبلها من مجموعات تستحقّ التوقّف عندها من القرّاء والولوج لجوانب عوالمها من النقّاد. وإلى أخي وصديقي سعيد نفّاع أقول: “هل من مزيد”؟ وكلّ إبداع وأنتم ونحن بألف خير.