آب 2007
الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) هو المكان، ربما الوحيد، الذي يستطيع العضو فيه دخوله عند تسلم مهامه، ليتسلم امتيازاته وأن لا يعود إليه البتّة إلا لإعادة ما تسلم من امتيازات دون أن يكلف نفسه أي عمل كان، لا أعرف إذا كان هذا حال كل برلمانات العالم!
الكنيست هو “مكان العمل” الوحيد الذي به تستطيع أن تتغيب متى شئت وحتى كليا دون أن يسألك سائل أو يحاسبك حسيب، أللهم إلا بعض الصحافيين، وضميرك إن كان فيه بقية حياة من منطلق الوعد الذي وعدت به ناخبيك، أنك ذاهب لتخدمهم أو في حالنا لترفع صوتهم في غالب الأحيان.
الحركة الوطنية المتمثلة في التجمع الوطني الديمقراطي، حسمت أمرها في أن تخوض الانتخابات البرلمانية للكنيست الإسرائيلي، رغم ما في ذلك من تناقض أولي مع بعض الاجتهادات وما في ذلك من بعض التنازل عن التطلّعات. سمّ ذلك إن شئت براغماتية مع الأخذ بعين الاعتبار أن ما بين البراغماتية والانتهازية الفاصل شعرة، تحتم على المنتهج البراغماتية أن يحذر أشد الحذر من الانزلاق نحو الانتهازيّة رغم دقة الفاصل. شرعي جدا، وهذا الشرعي مطلوب، أن تبقى هذه القضية، التمثيل البرلماني، على جدول أعمال الحركة الوطنية للمراجعة النقدية انطلاقا من الجدوى، التي أثبتت الأيام أنها قائمة ولو بشكل جزئي في الأمور الجوهرية كما الحياتية المتعلقة بوجودنا وشكله وجوهره.
صحيح، في الكثير من الأحيان، أن تكون إحدى أدوات فحص صحة خطواتك هو موقف وردة فعل عدوك أو خصمك منها، فموقف الأحزاب الصهيونية من التمثيل العربي خصوصا من ذلك الذي يطرح تحديات جوهرية في وجه قناعاتهم، يثبت صحة خوض المعركة واستثمار هذا المنبر، رغم أن جدواه في القضايا الحياتية محدودة، لطرح قضايانا ووجهة نظرنا في الأمور الجوهريّة كما في الأمور الحياتيّة المركبّة لوجودنا “التحدّياتي” في بلادنا.
القضايا متعددة، فمثلا الكنيست كما هو معروف تنتخب رئيس الدولة، هذا الموقع هو في إسرائيل كما الملك في الدنمارك أو بريطانيا إن لم يكن أقل من ذلك، وما هو إلا رمز من رموز الدولة تماما كما الشعار أو العلم والنشيد القوميّ (ربمّا من قائل غير هذا حتى بيننا) اللهم في بعض المراسم والتوقيعات المطلوبة منه شكلا على القوانين بعد أن يشرعها الكنيست، ومن صلاحياته: العفو عن المساجين، وهذا المجال الوحيد الذي له فيه بعض موقف وليس كل الموقف، وإذا كان الكلام يدور عن أسرى أمنيين فللمخابرات قبله الموقف الأساس.
هذا الباب جعل النواب العرب في كل جولة انتخاب يطرحون “شرطا” للتصويت لمرشح ما، قضية موقفه من العفو عن أسرى الحرية أبناء الداخل ودون نجاح يذكر حتى الآن، وفي الكثير من الأحيان وعند البعض يجيء هذا تغطية شعبوية ليس إلاّ. وفي الانتخاب الأخير حين انتخب شمعون بيرس رئيسا شارك النواب العرب في الانتخاب وقلتهم بالامتناع تعبيرا عن موقف، وقاطعوا بغالبيتهم حفل تتويجه في الكنيست دون إطلاق موقف علني اللهم من التجمع الوطني الديمقراطي.
تغيّب غالبية النواب العرب العظمى عن حفل التتويج أثار حفيظة النواب الصهاينة الذين لا يقبلون منهم أقل من ولاء غير مشروط ، وبلغ أن “عابت” أو لامت واستنكرت الوزيرة روحاما أبراهام، وزيرة العلاقة بين الحكومة والكنيست، تغيبهم عن حفل التتويج، في سياق ردها على اقتراح نزع ثقة قدموه على خلفية التمييز اللاحق بالعرب، بقولها: “تطلبون المساواة وتمتنعون عن تكريم رئيس الدولة !”.
لم تجد الوزيرة من رد واضح على هكذا استفزاز إلا من التجمع الذي رد ودون تأتأة بما مفاده:
“الرئيس رمز لدولتك اليهودية الذي أثبت كلامك عدم ديمقراطيتها!”.
لولا هذا المنبر لما كان بالإمكان رفع هذا الصوت هذا الموقف، رغم ما يمكن أن يقال عن ذلك وعن جدواه لدى البعض، أو في لغة البعض الآخر الذي يريد من كل موقف استفادة عينية مادية في غالب الأحيان: ” آه وشو استفدنا!؟”، تماما مثلما يقولون مردّدين “درة” الوزير “الشاباكي” جدعون عزرا العالم ببواطن الأمور عندنا بحكم ماضيه في المخابرات في القسم الخاص بعرب الداخل: ” ماذا يصنع النواب العرب لكم، فهم متلهّون في الأمور السياسية ولا يعالجون قضايا الناس؟!”
هذا البعض ينقسم إلى قسمين كما نرى، الأول جزؤه يدري ما يقول ويردد، وهم بين ظهرانينا جماعة جدعون عزرا، وجزؤه لا يدري ما يقول ويردد مع الجزء الأول جهلا أو يأسا. أمّا القسم الثاني من هذا البعض يركّز على “ما الجدوى” جوهريا وحياتيا، وهؤلاء لا يمكن الظن في نواياهم وهم مطالبون بمراجعة موقفهم على الأقل من باب: “ما يسرّ الصديق ويغيض العدى” وليس هذا تسطيحا كما ربّما يعتقد بعض هذا البعض.
أما في باب الحقوق اليوميّة فالصورة المتّضحة من الفترة القصيرة لي في الكنيست الإسرائيلي، أنها تشكل قرابة ال- 80% من الأمور التي يطرحها النواب العرب بتفاوت طبعا بين مجتهد وأقل اجتهادا، وبين شعبوي وملتزم، بين متلهّ بالركض في الأروقة بين الوزراء والنواب وراء فتات يصير في بعض وسائل الإعلام انجازا هاما، وبين صابّ جلّ جهده على قضايا هامة يقارع فيها النواب والوزراء، وإن استل منها شيئا فهي استلال من بين أنياب ذئاب، هي هي التي تعوي لاحقا: “ماذا يفعل لكم النواب العرب؟”
خلاصة القول أن التمثيل البرلماني العربي في الكنيست، رغم ما يحويه في نظر البعض، ومن منطلقات مبدئية وبحق، من تناقضات، هو آلية هامة جدا في يدنا في الظرف الموضوعي الذي نعيش، خصوصا إذا أحسنّا استعمال هذه الآلية وأولينا الاهتمام لنزود بها أو نضعها في تصرّف يد من يحسن التصرف بها وطنيا قوميا وحقوقيا يوميا. فالتحدّي الأساسي هو أن نترك أهلنا “فلسطينيي البقاء” في همومهم اليوميّة الشرعية، لقمة سائغة لأصحاب نهج الأسرلة الذي يصح فيه القول المبسط: “لقمة هنيّة تغني عن ألف هويّة!”، أو نجنبهم الوقوع بين براثن أصحاب هذا النهج بالتواجد في كل مواقع التأثير ونرسخ لديهم الشعار الذي يصح فيه القول المبسّط كذلك: ” لا لقمة هنيّة إلا المغموسة بالحفاظ على الهويّة”.
هذا بحد ذاته يضع على كاهل أبناء الحركة الوطنيّة همّا مضاعفا في ترسيخ هذا التمثيل وتعزيزه، وأول الطرق هي فتح حوار مع أبنائها الذين ما زالوا يشككون في جدوى التمثيل البرلماني ليغيروا مواقفهم، وعندها يصير متيسرا إقناع ال-50% الذين لم يشاركوا في الانتخابات الأخيرة والتي غالبيتهم العظمى من منطلقات يأس ليس من منطلقات مبدئية ضد عملية المشاركة، فلا يطعمنّ أحد نفسه جوزا فارغا!
هذا يتطلب من ابن الحركة الوطنية التصاقا أكثر وأكبر بالناس، بهمومهم الكثيرة كما في لحظات سعادتهم القليلة، ويتطلب تواجدا في مواقع همومهم الحياتية مواقع لقمة عيشهم ومواقع كتاب أبنائهم، فلا يكفي الفكرة الجيدة والخطاب الجيد حملهما وطرحهما شفهيا أو خطهما من على صفحات الصحف والمواقع والكتب، الفكرة الجيدة والخطاب الجيد يكتملان إن حملا هموم الناس في الحفاظ على لقمة عيشهم ممهورة بعزتهم وكرامتهم الوطنية والحياتية، يكتملان فقط إذا حملا ونقلا لكل موقع وموقع مباشرة، وحتى يحملان وينقلان يجب التواجد في كل موقع وموقع في لبّه ولا يكفي حتى القرب منه وابتداء من البيت.
النائب المحامي سعيد نفّاع