أيلول 2019
الوقفة الأولى… مع الاصطلاح
“الأسرلة” وكما هو معروف اصطلاح لم يبرح قاموسنا السياسي المحلّي، يتصاعد ويتهاوى طرديّا والصراع بين القوى السياسيّة في حلبتنا المحليّة، وحقيقة إنّي لا أعرف من صاحب “حقوق الطبع” عليه ولا أوّل من أطلقه رغم إنّي أستطيع أن أتخيّل. وهو طبقا لقراءتي “تهمة” وُجّهت أو ألصقت بكلّ من تماهى منّا مع إسرائيل منشأ وكيانا وسياستها موقفا، حسب اجتهاد المُتّهِم صاحب الاصطلاح ومُطلقه ومن تبنّاه. ولا يخفى على أحد أنّ القوميّين، أبناء البلد والتقدميّين، رفعوه شعارا في وجه الشيوعيّين سنوات طويلة في عزّ “داحس والغبراء” بينهما.
لكّن الأسرلة وبالمعنى الذي أورد إبلي نحوه يحمل بعدا آخر أعتقد إنّه أخطر من التماهي مع السياسة موقفا، وهو ممارسة الأسرلة حياتيّا وقبل أن تكون موقفا. فأين نحن، فلسطينيّي البقاء، منها موقفا وممارسة؟!
الإجابة على هذا السؤال- التساؤل ليست هيّنة ولا تكفيها بعض أسطر ولكن الوقوف معها في وقفات قصيرة ربّما تفي ببعض غرض إن لم تفِ بالغرض!
الوقفة الثانية… مع ال-%70 من العرب.
روّج من روّج مؤخرّا وارتباطا بالانتخابات البرلمانيّة أنّ %70 من العرب يرون أن همومهم الحياتيّة هي الأساس وقبل الهمّ الوطني الفلسطينيّ لا بل أهمّ، فعجّت وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ بتناول هذه النسبة بين محبّذ وبين كاره، ومصدّق ونافٍ، ولائم يشنّ هجوما ومُلام ينافح، والأهم التقطها البعض كالتقاط الضباع جيفة.
أعادني هذا إلى كتابٍ قرأته مؤخرّا بالعبريّة لباحثَين عربيّين هما؛ د. يسري خيزران ومحمد خلايلة يحمل عنوان؛ “متروك لمصيره: المجتمع العربي في إسرائيل في ظلّ “الربيع العربيّ””، أعادني هذا الكتاب إلى البحوث والاستطلاعات التي نُشرت على مرّ السنوات الأخيرة والتي كنّا نقرأها ونطمر رؤوسنا في الرّمال.
أوّلها كان البحث الذي قام به سامي سموحة عام 2013، وحسبه؛ “%52.8 من مواطني إسرائيل العرب موافقون أنّ لإسرائيل الحقّ في التواجد كدولة يهوديّة وديموقراطيّة وفيها يعيش اليهود والعرب”. وهذه حسب رأي سموحة زيادة كبيرة عن الموقف في سنوات سبقت، ويخلص إلى أنّ ذلك نابع من الحملة الصحافيّة لضمّ المثلّث للدولة الفلسطينيّة، ولكنّه يستنتج أيضا أنّ ذلك تقوّى على خلفيّة نتائج الربيع العربيّ المأساويّة.
تلت هذا البحث مجموعة من الاستطلاعات امتدّت على الأعوام 2015 إلى 2018، والمشترك بينها أنها تفيد؛ أنّ %70 (أكثر قليلا أو أقلّ) من “المواطنين العرب” يعتبرون تحسين وضعهم الاقتصادي- الاجتماعي أهمّ من حلّ الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
يخلص أحد هذه الاستطلاعات الذي أجراه المعهد الإسرائيلي للديموقراطيّة، إلى أنّه وقبل “الربيع العربي” حدث ارتفاع في “وزن” الهوية القوميّة العربيّة والهويّة الوطنيّة الفلسطينيّة، حوالي %70، ولكن على أثر هذا الربيع انخفض “وزن” هذه الهويّات إلى %36 وحدث ارتفاع في الهويّة الإسرائيليّة والدينيّة.
الوقفة الثالثة… مع صحّة هذه الاستطلاعات من عدمها.
قيل في الاستطلاعات إنّها جسّ نبض ولا تستطيع أن تفيدنا بكلّ ما نريد ولكّنها تعطينا مؤشّرا حتّى لو كانت من لدُن خصوم حول خصوم، وقال عنها وبحق أحد ثعالبة السّياسة الإسرائيليّة رئيس الدولة السابق شمعون بيرس؛ “الاستطلاعات كالعطر، جيّد أن تشمّها ولكن سيء أن تتذوقها”. فبغضّ النظر فإنّ النتائج أعلاه يجب أن تثير كمّا من الأسئلة والتساؤلات حول موقع وموقف الأقليّة العربيّة في البلاد والمهام الملقاة على عاتقها وعاتق قادتها أولا في مسيرتها الحياتيّة وقبل ذلك المسيرة الوطنيّة.
أعتقد أنّ النتائج أعلاه قريبة جدّا من الحقيقة وهذا مؤلم ومقلق في آن، ويجب أن يعزّ على كلّ مَن ما زال يرى في الهمّ الوطنيّ الجوهري لا الجهريّ، قيمة. ويبدو أنّنا أناس ومن وراءِ قادة رحنا وراء الوطنيّة الجهريّة على حساب الوطنيّة الجوهريّة.
الوقفة الرابعة… مع ما بين الوطنيّة الجوهريّة والوطنيّة الجهريّة!
أستطيع أن أجاهر صبح مساء أني فلسطينيّ حتّى النخاع، وأرفع عقيرتي مِن على كلّ منبر إن الدم الفلسطيني يجري في عروقي ولن يسيل إلا إلى حتفي ووو… هذه وطنيّة جهريّة ليس إلّا ولا تُشبع من جوع ولا تروي من عطش، وبالتالي ليست وطنيّة ولا تقربها. فقط حين يقترن الجهر بالجوهر ألا وهو؛ حمل الهمّ الوطنيّ الفلسطينيّ فعلا وعملا لتحقيق حقّ أبناء شعبنا في تقرير المصير بكلّ ما يحمل هذا الحق من استحقاقات وتبعات “تضحويّة”، يستطيع المرء حينها أن يدّعي إنّه يمارس وطنيّة.
من نافل القول أنّ الصهيونيّة، وبكلمات بسيطة ربّما أكثر أدبيّة منها سياسيّة، أرادت وتريد لنا “مواطني” دولتها؛ أن نفرح لحزن بقيّة أبناء شعبنا وأن نحزن لفرح بقيّة أبناء شعبنا، أو على الأقل أن “نمرّ مرّ الكرام” على أحزان وأفراح بقيّة أبناء شعبنا. نتائج الاستطلاعات أعلاه إذا كانت صحيحة ويبدو إنّها قريبة من الصحّة فهي أنفع قطران لبيت جَرب الحركة الصهيونيّة، وبغضّ النظر فهي مصيبة وكلّ من يمارس موضوعاتها حياتيّا أو سياسيّا، وأكثر كلّ من يروّج لنتائجها ومهما كانت دوافعه وخصوصا إذا كان يدّعي ريادة ثقافيّة أو قيادة جماهيريّة فهي الطامّة الكبرى. وهذه الأسرلة مورد إبلي!
الوقفة الخامسة… مع البراغماتيزم والأُبورطونيزم!
بين الأولى والثانية خطّ لا يتعدّى شعرة ليس إلا ولكنه خطّ جارح قاتل كحدّ نصل يمانيّ، وكلّ من يعبر هذا الخطّ فهول قتيل وإن كانت أعضاؤه تتحرّك. كلّ من يضع أو يطرح الهمّ الحياتي لنا كأقليّة في وطنّا بحكم الظرف التاريخيّ، نقيضا للهمّ الوطنيّ أو حتّى على حساب الهمّ الوطنيّ ويتزيّن بالبراغماتيّة فهو دجّال ومنذ زمن قطع تلك الشعرة لا بل أحرقها ومنذ زمن يرتع في ملاهي الانتهازيّة- الأُوبورطونيزم، ونحن وشعبنا في غنى عن وعظه.
هؤلاء “بِتُوع” الوطنيّة الجهريّة وغالبيّتهم مِن متعلّمين يَمْلؤون الأثير أو يُمَلّؤونه، قال عن أشباههم مرّة “سياسي مهمّ” وببعض تصرّف ليس قليلا: “إنهم الأكثر انتهازيّة لأنهم الأشطر في تبريرها”!!!
الهمّ الحياتي قيمة مهمّة لا شكّ، ولكن الهمّ الوطنيّ لشعب مثلنا يعيش حياة فريدة من نوعها هو قيمة أهمّ، وإن كانتا متكاملتين متكافلتين. إن لم نضع القيمة الوطنيّة في مرتبة الأولى على الأقل وليس فقط لأنها ليست نقيضا بل لأنها الأرقى والأعلى، فبكلام شعبّي “طزّ” في القيمة الحياتيّة ورفاهيّتها (من الفيلات والمكاتب الفارهة إلى جيبّات الليسنغ وإلى أنطاليا والمرمريز) إن كانت ستجيء على حساب القيمة الوطنيّة.
وحينها يجب أن نسأل أنفسنا إن كنّا نستحق الحياة أصلا لا “الحياتيّة”!!!
سعيد نفّاع
أوائل أيلول 2019
إلى حضرة الكاتب والمحامي، سعيد نفاع، صباح الخير
لم أستطع أن أبقى صامتة وألا “أبوح” بما أثاره مقالك الأخير فيّ من غضب… عفواً، ليس غضباً منك، بل على العكس، غضباً منّا، جميعاً، على الوضع الذي وصلنا إليه.
لستُ كاتبة، ولا منتمية لحزب، ولا أي شيء غير مواطنة عاشت حقباً أفضل مما نحن عليه الآن، وآمالاً طمست وقبرت دون شاهدٍ، حتى.
ما جاء في مقالك يجب أن يكون مادة تناقش في ندوات مجتمعية وحلقات في الأحياء والأحزاب والكنائس والمساجد والمدارس، لأننا للأسف، نقف مكتوفي الأيدي بينما نحن ننهار.
في صغري وشبابي كانت هناك لجان أحياء وكانت الناس تناقش الأمور. أذكر نقاشات حول معنى الحرية وما هي الحرية التي تصلح لنا ولمجتمعنا، مثلاً إلى أي حد يمكن للأهل أن يعتبروا تصرف الشباب “حرية” وأين يبدأ “الانحلال”. أذكر نقاشات بين والدتي وجارتنا وقريبة لأمي دارت على أثر إحدى لقاءات الحي.
من زمان وأنا أرى أننا لا نعمل كمجتمع متجانس يضع استراتيجية للبقاء، وأن اهتمامنا يتجه أكثر للمظاهر منه للتمسك بالوجود، بل بأننا نسير في طريق الهدر لكل شيء بنحونا نحو المظاهر المادية القاتلة والمستهلكة لإمكانياتنا كلها، والتي بالنتيجة قد نخسرها بشطبة صغيرة من قانون ما يسن فيشطبها ويشطبنا، كما كان في حينه قانون المساعدات للعائلات كثيرة الأولاد، والذي شطب حين تبين أن العرب هم المستفيدين منه وليس اليهود، في البلاد.
الهم عميق ومؤلم ولا أريد أن أطيل، لكني أقول بشكل جدي أنني أتمنى أن تناقش هذه المواضيع بشكل يخرج من إطار المقال ليكون جزءاً من عمل الأحزاب العديدة والهيئات التي باتت كلها معلّبة، بعيدة عن الشارع، ومنها “علبة” الكتاب والمثقفين. أشعر أن الثقافة والسياسة والدين، باتت كلها فساتين وسيارات وحلي، وما عادت محراثاً ومنجلاً يعد الأرض “للموسم” القادم (الجيل الجديد).
معذرة على الإطالة، وأتمنى ألا يكون هذا الكلام هراءً ومضيعة للوقت، لكني على الأقل “فشيت” حالي!
شكراً لك مرة ثانية
تحياتي
سوسن قسيس كردوش
كوبنهاجن- الدنمارك