وقفات على المفارق… مع الحصان وعبد الناصر

أيلول 2010

الحصان…

عزيزي القاريء هل تذكر آخر مرّة جرت فيها انتخابات لمجالسنا المحليّة ولم تشهد “طوشات” متنقلّة من بلد إلى بلد ومن قرية إلى أخرى؟

رغم أننا بعيدون عن الانتخابات المحليّة والتي صارت كابوسا يحط على كواهلنا أشهرا كثيرة قبل موعدها، لكن ومنذ أن انتهت الانتخابات الأخيرة وانتهت بعدها “الطوشات”حيث ولّعت، وهدأ بال الناس على الأقل حتّى الجولة القادمة، ما زال يشغلني ذلك الحصان في إحدى قرانا والذي ورغم أنه لم يشارك في الانتخابات إلا أنه دفع ثمنها أغلى ما عنده، فلا يفتأ ينقض على ذهني خصوصا وصار المرء يرى الكثير من الخيل في شوارع قرانا بعد أن قرر شبابنا على ما يبدو إعادة أمجاد خيول العرب.

كان ذلك في الانتخابات أواخر عام 2008 وطبيعي أن فاز مرشح بالرئاسة وبطبيعة الحال خسر منافسه في إحدى قرانا، وأمتنع عن ذكر اسمها خوف الملامة، فولّعت “طوشة” راح ضحيتها العديد من بيوت القرية وسياراتها حرقا وهذا عاديّ صار، وسالت ضحيتها دماء كثيرة من رؤوس الشباب وهذا عاديّ صار، وراحت ضحيتها حياة أحد الشباب وهذا قليلا فوق العاديّ صار.

وعلى مدى أشهر تحولت البلد إلى ساحات “داحس والغبراء” وخصوصا في الليالي، طلبا للثأر، رغم أن حصاننا لم يسابق داحس ولا غبراء فطُلب دمه، والشرطة تقوم بواجبها الطبيعي التفرّج من بعيد، ويشتكي العقلاء عدم تدخلها وهي التي ومنذ أمد ليس ببعيد تدخلّت وقتلت 13 شابا في عمر الورد نحيي ذكراهم هذه الأيام.

وتدخّل أهل الخير مشكلين “جاهات الصلح” وما تكاد “الجاهة” تعقد الهدنة حتى تنفجر في وجهها ونحن في زمنٍ صار العهد فيه وحتى الخطيّ ل”الشطارة” ليس إلا، وفي كل مجال.

طبعا نحن وبصفتنا أعضاء كنيست “قيادات” لا نستطيع أن نقف متفرجين كالشرطة، فتدفعنا حميتنا أحيانا للتدخل خصوصا ونحن المتهمون بالتلهي في القضايا السياسيّة على حساب قضايا جماهيرنا، ويتصادف وجودك أحيانا وعضو كنيست من حزب صهيوني متدخلا لغرض في نفس يعقوب، فيصير عليك  في نظر بعض “الثوريين” أن تترك مسعاك وإلا اتهموك بال”جلوس” معه في نفس المكان وهذا بحد ذاته يضع علامات السؤال على مدى وطنيّتك وقوميّتك خصوصا وأننا في الكنيست نجلس مع تشيغيفارا والسيّد حسن نصرالله كتفا إلى كتف!

كفانا الله شرّ الاسترسال والاستدراك، و”قصر الحكي” تدخّلت بحكم موقعي ورحت أستمع إلى الشكاوى، ولك عزيزي القاريء أن تتخيّل فحواها، ولكنك لن تتخيّل مثلما لم أتخيّل أنا أن فريقا من الفرقاء بلغت عنده شدّة الرغبة في الانتقام والأخذ بالثأر حدّا أن أغرق حصانا لأحد أفراد الفريق الثاني بال”سولر” و”أعطاه النار” ليسلم هذا روحه وعلى مدى ساعات وسط كرّ وفرّ وصهيل يقطع القلوب ثمنا لنتائج الانتخابات المحليّة، وحتى اليوم لا أعرف إن حُسبت ديّته من شروط “الصُّلْحة” أو راح دمه هدرا فالحريق لا يسيّل دم!

عبد الناصر…

جمال عبد الناصر من الأحصنة الأصيلة القليلة التي ولدتها أمتنا في العصر الحديث، وكنّا قتلناه وسيّان إن كان ذلك برصاصة في ساحات عمّان أو على جبال عجلون في ذلك الأيلول الأسود قبل 40 سنة، أو بفنجان قهوة قدّمه له السادات ليهدئه بعد أن رفع له ياسر عرفات ضغط الدم على حدّ “قنبلة” هيكل في حكايا تجربة حياته على الجزيرة.

وصل إليّ مقال عبر البحار عنوانه : “هكذا نحن الآن بعد أربعين عاما يا ناصر” لن أجد كلاما أكرم به هذا الأصيل بعد 40 عاما خيرا من هذا الذي جاءني بقلم الكاتب صبحي غندور:

(( أربعون عاماً مضت على وفاة جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر من العام 1970. البعض يعتبر أنّ الحديث الآن عن ناصر هو مجرد حنين عاطفي لمرحلة ولّت ولن تعود، بينما يُغرق هذا البعض الأمَّة في خلافاتٍ ورواياتٍ وأحاديث عمرها أكثر من 14 قرناً، والهدف منها ليس إعادة نهضة الأمَّة العربية بل تقسيمها إلى دويلات طائفية ومذهبية تتناسب مع الإصرار الإسرائيلي على تحصيل اعتراف فلسطيني وعربي بالهُويّة اليهودية لدولة إسرائيل، فتكون “الدولة اليهودية” نموذجاً لدويلات دينية ومذهبية منشودة في المنطقة كلّها!.

هو “زمنٌ إسرائيلي” نعيشه الآن يا ناصر بعد رحيلك المفاجئ، وبعد الانقلاب الذي حدث على “زمن القومية العربية” حين كانت مصر، في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي، طليعته. فاليوم تشهد مصر وكل بلاد العرب “حوادث” و”أحاديث” طائفية ومذهبية وعرقية لتفتيت الأوطان نفسها لا الهويّة العربية وحدها.

هو “زمنٌ إسرائيلي” الآن يا ناصر على مستوى العالم أيضاً. فعصر “كتلة عدم الانحياز لأحد المعسكرين الدوليين” الذي كانت مصر رائدته، تحّول إلى عصر “صراع الشرق الإسلامي مع الغرب المسيحي” بينما تهمّش “الصراع العربي/الصهيوني”، وفي هاتين الحالتين المكاسب إسرائيلية ضخمة.

هذا واقع حال العرب اليوم بعد 40 سنة على غياب عبد الناصر، فهل يتنبَّه العرب إلى ما هم عليه من انحدارٍ متواصل؟.

لنقرأ ما قاله جمال عبد الناصر عن ذلك في خطابه أمام المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي العربي عام 1969:

إنّ رصاصة الأعداء لا تفرّق بين المسلم والمسيحي، وقنابل إسرائيل لا تفرّق بين المسلم والمسيحي، ولنتذكّر جميعاً أنّ العدوّ لا يختصّ واحداً منّا بخطره، وإنّما خطره على الكلّ، لأنّ مطامعه في الكلّ، والتركيز على واحدٍ منّا قبل غيره هو مسألة أولويّات يختارها العدوّ ولأسباب الملائمة.

إنّني أريد أن أحدّد أمامكم عدّة مبادئ:

أولاً: إنّ هناك معركة واحدة وليس هناك معركة أخرى غيرها في العالم العربي، وهذه هي معركة الأمّة العربية ضدّ العنصرية الصهيونية المؤيَّدة بقوى الاستعمار.

ثانيا: لسنا من أنصار إنشاء محاور عربية إنّما تهمّنا مساهمة كلّ بلد عربي في المعركة، نحن مع كلّ تغيير يزيد من القوة العربية المحتشدة من أجل المعركة وضدّ أي صراع شخصي أو طائفي أو فكري يكون من شأنه أن يضعف المعركة وأن يأخذ منها.))

يا عبد الناصر هلّا قلت لي من أعماق قبرك وبعد 40 عاما: ما الفرق بين حرق الحصان في إحدى قرانا الجليليّة وحرق الأطفال في بغداد وإسالة الدم بين أبناء من سالت دماؤهم في ساحات عمّان وعلى جبال عجلون في ساحات غزّة والخليل؟!

النائب المحامي سعيد نفّاع

أيلول 2010

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*