تموز 2006
الحديث أعلاه كغيره لا شك عصر عقولا كثيرة في تفسيره والقصد والغاية منه. لا أذكر أني تذوقت مثل هذه العصارة اللهم إلا إذا خزنت في لاوعيي. نائب الفاعل في هذا الحديث جلي واضح أما سبب الفعل فمسألة فيها نظر.
استعنت على تذكر كلمات هذا الحديث فيمن هم أكثر مني معرفة، لأن “الكوز دق في الجرة” بقوة لم نسمعها منذ أمد إذ كانت آذاننا تعودته وهو يدق يوميا في الضفة وغزة. فعدنا إلى حكاية “إبريق الزيت” عن الحكام العرب والمسلمين ودورهم، حتى بيّتنا المفكرون والمعلقون والساسة نعتقد أن تل-أبيب كانت ستكون مربط خيولنا بمجرد أن يطلق لجام الشعوب العربية والإسلامية المشدود على يد حكامها. ونروح نلعن أولاء الحكام ونتفنن في إطلاق صواريخ لعنتنا الموجهة تخنولوجيا اللهم إلا إذا كنا نتلقى مكرمات أو تسهيلات معينة فتصير الصواريخ باليستية كالكتيوشا عرضة كذلك للأحوال الجوية ليس فقط لحسابات مطلقها فلا يعرف هدفها الحقيقي عندما تسقط، ولكل أن يخمن.
لنفرض جدلا أن خيول بعض شعوبنا العربية والإسلامية كانت “ستشطط” في ساحات تل- أبيب بمجرد أن أطلق لها الحكام العنان فماذا مع الشعوب المطلوقة العنان من حكامها في سياقنا على الأقل، لماذا لم تنطلق؟
أما نحن هنا في بلاد “السمن والعسل” ما الذي منعنا أن ننطلق بأضعف الإيمان، برفع صوتنا احتجاجا؟ من الذي يلجمنا ؟ لماذا لم تخرج الأقلية الفلسطينية في الداخل إلى مظاهرة” عليها قدر الله” وأهلنا يذبحون قبل لبنان في غزة ونابلس يوميا ؟
لو كان منتخب البرازيل المهزوم عرج علينا مشرفنا بزيارة قبل مغادرته “المونديال” ذليلا، لكنا خرجنا بالآلاف نطيب خواطر رونالدينو وبونالدينو وخرنلدينو رافعين أعلام البرازيل ( لا يحسبنّ أحد أنني ضد الرياضة والرياضيين فقد مارست في شبابي هذه اللعبة)، طالبين من أطفال شعبنا المذبوحين في غزة أن يعذرونا، فعيب علينا أن لا نتضامن مع البرازيل ونبكي هزيمتها التي لن تعوض قبل أربع سنوات على الأقل، أما دم أطفال فلسطين ولبنان فيمكن أن يعوض خلال تسعة أشهر والفرق كبير!
بغض النظر إن كان نصر الله أقدم على خطوته بأسر الجنود الإسرائيليين آخذا بالحسبان ردة الفعل الإسرائيلية الحاصلة والعربية الحاصلة أم لا، وبغض النظر عن أن العدوان مبيت ومخطط ومدروس لتنفيذ القرار1559 بعد أن فشلت الطرق الأخرى، وهذا هو الأرجح، وبغض النظر عما يمكن أن يسفر عنه هذا العدوان من نتائج سياسية، فعسكريا الأمر محسوم فلا حزب الله سينتصر على إسرائيل ولا إسرائيل ستسحق حزب الله. وعطفا على عدوان ليس أقل هولا يتعرض له شعبنا الفلسطيني ولنفس الحجة. السؤال هو : هل صحيحا أن الشعوب العربية والإسلامية ملجومة بفعل حكامها ؟
قبل أن أجيب على هذا السؤال أتمنى على أنفسنا التخلص من مرض “الأمركتوزيس” المزمن فينا.( أصل التسمية من مرض سرطاني اكتشف ليس من مدة، يسببه “الإسبيست” اسمه “الأسبزتوزيس”). وفي سياقنا “الامركتوزيس ” مرض يمكن تعريفه:” حب كل ما تكرهه أميركا وكره كل ما تحبه أميركا”. صحيح أنه لم يأت شرقنا ومنذ قرون شيء من الغرب يسر القلب، لكن هذا يجب ألا يدعونا عرضة للامريكتوزيس لدرجة أننا عندما نصاب به نصير نرفض حتى التداوي منه، بمعنى أن نتخذ مواقفنا ليس بالضرورة حسب ما تحب وتكره أميركا إنما ما نحب نحن من صميمنا ونكره، وليس من باب أن الألم الذي يسببه لنا هذا المرض يريحنا من آلام أمراض فينا أشد إيلاما.
عودة على بدء، إذا كان نائب الفاعل في الحديث هو اسم الجلالة إذن فحكامنا وقادتنا هم من نستأهلهم، فولاهم علينا الله بحكمته غضبا علينا ولا راد لإرادته عز وجل. إذن لماذا نلوم الحكام؟ فالملوم من ولاهم لأننا كنا كذلك فولى علينا كيفما نكون! وحتى لا أتهم بالكفر أستغفره استغفارا كبيرا هو الغفور الرحيم!
وإذا كان نائب الفاعل ضميرا مستترا لنا تقديره حسب اجتهاداتنا فنائب الفاعل هو ضمير مستتر تقديره نحن، وهذا ما أعتقده تفسيرا للحديث ولو من منطلق مخافة الله. نحن الذين نولّي بإرادتنا وما دامت غالبيتنا الأعظم من العظمى قابلة هذه الولاية (بالغياب الميداني أو القصور الذاتي للطامحين في الولاية) فلا نلومّن إلا أنفسنا إذا كانت فعلا هذه الولاية ليس ما نريد! أعرف أني دخلت هنا الحقل الشائك بل الملغوم الذي لن أعرف متى سأدوس على لغم فيه هذا إن لم أكن قد دست ولا تنقصني إلا خطوة لأتقطع أشلاء. فأنا ألوم “الضحية” والضحية يجب ألا تلام حتى وإن كانت هي التي جعلت من نفسها أو ساهمت في جعل نفسها كذلك، لكنني أومن وأشد الإيمان بالقول: لا “يقوّم” الله ما بقوم إلا إذا “قوّموا” ما بأنفسهم! فإن لم نقوّم الاعوجاج بحد السيف أو بحد اللسان، (قيامة القيامة ميدانيا لا وعظيا) أو بحد قلب العجزة منا والأطفال، وكل ذلك في مياديننا ليس في ميادين باريس ولندن ونيويورك وقطر!
إضافة تخيلوا لو أن الملايين خرجت وتخرج كل يوم وليس اليوم، إنما منذ أن بدأت المجازر في غزة على الأقل! أو تخيلوا لو أن الصواريخ حتى البالستية منها تطلق من كل صوب أو من بعض أصواب!
لماذا يقدم بعض الشباب اللبنانيين والفلسطينيين أرواحهم فداء في حين نكتفي نحن الآخرون ومن كل الأمة بتقديم الحلوى لأبنائهم بعد أن فقدت حلوقهم حاسة التذوق، وهذا إذا استطاع أبناؤهم الخروج من جهنم غزة والجنوب اللبناني؟
كيف نستطيع أن نفهم أن الصواريخ جاهزة للانطلاق إذا أعتدي على دولة معينة في حين أن الاعتداء جار على جارتها ؟ فهلا يفسر لنا أحد الفرق؟!
ما دمنا مقتنعين أن سورية هي الهدف المقبل فهل نقدم أنفسنا وجبة وجبة، حتى وإن جاء مذاقها مرّا كما في فلسطين وكما في العراق وكما ستكون في لبنان، وحسب موعد جوع واشتهاء “الشرعية الدولية” وشرطتها ؟
منذ ثلاثة عقود ونيف حسب جيلي، وأنا اسمع نفس هذه “السمفونية” ولم يتغير لا “صول” ولا “دو” فيها، فلعلها السمفونية الخالدة التي اعتادت عليها شعوبنا وما غيرها إلا كلام “نخب” اتخذت لنفسها دور “المايسترو” على سمفونية لا جماهير لها لأنها من الجاز والراب والروك بعيدة كل البعد عن مزاج شعوبنا. قيل في حديث مجيد: “ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان”! كذلك ليس بالوعظ وحده تنطلق الشعوب إذن فشعوبنا على حق ما دام “المايستروات” يوزعون كل هواه وفي دور “أوبرا” لن تصلها شعوبنا مهما كانت قلوبها متعطشة.
السؤال الكبير الذي يسأل لعلّ شعوبنا هي التي على حق؟
ولأني غير مقتنع بهذا لكني غير مقتنع بعكسه فأجدني أخلص إلى القول على الأقل: أن على القوى الوطنية وبالذات القومية منها عندنا في الداخل وعلى ضوء قلة تأثيرها على مجريات الأمور لدى الشعوب العربية وحكامها أن تفولذ نفسها هيكلا مرة أخرى هيكلا( أتمنى على أعضاء التجمع الوطني الديمقراطي أن يفهموني فيما أرمي إليه) ليس فقط فكرا، لحماية أبناء شعبنا في الداخل عبر النزول إليهم والصعود معهم، فالتبشير بالانتصارات الوهمية يولد إحباطا سيكون إحباط “قادسية” العرب الثانية وإحباط أوسلو “لعب أولاد” معه، فالآتي من الأيام يبدو أنه أشد حلكة.
سعيد نفّاع
تموز 2006