شظايا أفكار بين الديموقراطيّة المركزيّة وتلك اللّبراليّة

تموز 2009

لبّيت مؤخرا دعوة اللجنة الأميركيّة العربية لمكافحة التمييز العنصري لتقديم محاضرة في مؤتمرها ال-23 حول احتمالات وعوائق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين. لم أحلم يوما بزيارة هذه البلاد وحضرتني ورافقتني عندما استلمت الدعوة وعندما لبيتها، مقولة الفيلسوف الساخر البريطاني برنارد شو إذ علمونا أنه قال: “لم تبلغ بي السخرية حدا أن أزور الولايات المتحدة الأميركيّة لأرى تمثال الحريّة”. وأنا لم أره فعلا لأني لم أزر نيويورك خلال تواجدي هنالك.

لكن ما حيّرني خلال تجوالي على أدراج الكونغرس وقبالة البيت الأبيض وفي جادات واشنطن وشواطيء شيكاغو على كبرى البحيرات الخمس ولقاءاتي الكثيرة، هو هذا الكم الهائل من العرب والمسلمين المشبعين ثقافة وأدمغة يملأون المؤسسات الأميركيّة المختلفة بجامعاتها ومراكز أبحاثها ويدينون برغم حملهم الجنسيّة الأميركيّة بولاء عربيّ لا بل عروبيّ وبالذات فلسطينيّ والكثيرون منهم أعضاء مشاركين في المؤتمر القوميّ العربي، ولهم مواقفهم الواضحة والعلنيّة ضد سياسة “بلادهم” وبالذات في كل ما يتعلّق بقضايا العرب والمسلمين.

ولم يحضرني إلا القول لنفسي ومن ثم لكل من سألني عن أحوال زيارتي: إنها لسخرية أقدار أن لا يجد هؤلاء عيشا إلا بين أنياب رأس الحيّة مثلما نصفها نحن في خطاباتنا وشعارات مظاهراتنا،

فلم تبق محطّة فضائية عربيّة لم تتبنى برنامجا اسمه “من واشنطن” يملأه هؤلاء وفي الكثير من الأحيان لا يأل قسم منهم جهدا في “مسبّة” أمريكا وليّة نعمهم أحببنا ذلك أم كرهنا نحن أهلهم في الشرق.

هذا الكلام لا يعني أني عدت من أميركا معجبا بها فلم أر الديموقراطية يوما فقط حقا في التعبير عن الرأي ولو قلنا ذلك لكانت إسرائيل فعلا واحة من الديموقراطيّة، هنالك مركّب في الديموقراطيّة بغيابه لن تبقى ديموقراطيّة وإن ضمنت لك حقّ “البحش على قبور” أهل حكامها، كأن تجرد الناس من مواطن استقلاليتهم وتصادر أملاكهم وتحتل أراضيهم وتشن الحروب عليهم ووو…، وهذا هو حال “ديموقراطيّة” إسرائيل وأميركا في ظهرها.

ولكن هذه المشاهدات أطلقت في داخل رأسي شظايا أفكار عن الديموقراطيّة المركزيّة التي شببت عليها واللبرالليّة، التي كهلت عليها، في شقها التعبيري والتعددي، خصوصا وأنا أومن أن دفيئة الإبداع لن تكون إلا إذا أُطلق العنان للفكر والاجتهاد يتصارعان وغيرهما بحريّة تامّة بعيدا عن أية مركزيّة.

أقول هذا ليس فقط لأن الديموقراطيّة المركزيّة اللينينيّة فشلت بل لأنها ورغم ذلك ما زالت تّحمل تراثا عند الكثيرين ممّن تربوا عليها كبعض الشيوعيين والماركسيين والقوميين، وبعضهم حتى وإن بقي شيوعيا أو انتقل لاشتراكيّة وطنيّة أو قوميّة ديموقراطيّة لم يستطع أن يتحرر كليا من هذا التراث فيمارسه في بيته الجديد من حيث يدري أو من حيث لا يدري أحيانا وفي الحالين بسبب “محافِظيّته” المستحوذة عليه، هذا إذا أحسنّا الظن به في أضعف الإيمان.

في الأدوات السياسيّة، الأحزاب، حاكمة كانت أم لم تكن، إذا سادت الديموقرطيّة المركزيّة بأحد معانيها مثلا: أن الهيئة العليا مكتبا سياسيا مثلا إذا قررت بأكثريّة فعلى الأقليّة فيها ليس فقط أن تلتزم، فهذا محمول، وإنما عليها ليس فقط أن تدافع عن القرار إنما وأن تنفذ ولا تستطيع الاعتراض إلا في المؤتمر العام هذا إذا لم تصفّ حتى حينها سياسيا بلطخها بكل المواصفات أو حتى جسديا مثلما حدث في الكثير من الأحزاب الحاكمة، وكل ذلك حفاظا على “هيبة القيادة” و”مصالح الشعب” و”مصلحة الحزب”  مثلا، اصطلاحات من القاموس الستاليني تصير فيها أكثريّة القيادة ولو بالنصف زائد واحد الحاكم بأمره.

شئنا أم أبينا ومهما بررنا أو عللنا، كانت الغلبة للفكر الديموقراطي اللبرالي الضامن للأقليّة داخل الأداة أو خارجها أن لا تنفذ رأي الأكثريّة لا بل أن  تعمل على تغييره دون الانتظار حتى المؤتمر العام، وليس للفكر الديموقراطي المركزي المانع هذا الحق ومصفي أصحابه، هذا إذا أخذنا على الأقل أن النجاح هو المقياس، النجاح في البقاء والاستمراريّة سياسيا واقتصاديا وكيانيا وتقدما ورفعة ووو…حتى لو بشكل نسبيّ فالفارق ربين ال-66% وال-33% كبير بكل المقاييس، وأخذنا كذلك النجاح في استقطاب الأدمغة معيار إن أردت!

بالمناسبة حقّقت الدولة العربيّة الإسلاميّة رفعتها عندما كان معتزلة ومرجئة وصابئة وقرامطة وإخوان صفا ووو…وأبو العلاء المعرّي يستطيع أن يقول دون أن يُجلد أو يُعلق في شوارع بغداد أو دمشق:

في اللاذقيّة ضجة         ما بين أحمد       والمسيح

هذا بناقوس    يدق         وذا بمئذنة            يصيح

كل يمجد       دينه         يا ليت شعري ما الصحيح

 

سعيد نفّاع

تموز 2009

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*