آذار 2010
العرب المسيحيّون والعرب المسلمون في الشرق كانوا على مدى القرون توأمين سياميّين حياة وفكرا فرحا وهمّا رغم كل التداعيات والتحديّات التي واجهت هذا الشرق بصراعه المستمر مع الغرب، ورغم العوامل المحليّة الطوائفيّة. ما نعرفه كلنا في كل أرجاء وطننا العربيّ أنّ التواجد العربي المسيحي في شرقنا في تناقص عدديّ وليس لأسباب بيولوجيّة، ونحن نعرف هذه الحقيقة ونعرف أسبابها ولكننا نخاف قول بعض الأسباب جهرا.
هذا التناقص ليس خاصّا بمنطقة أو ببلد وإنما يشمل كل أماكن التواجد من العراق شرقا وحتّى مصر غربا مرورا بفلسطين مولد السيّد المسيح (ع) والمسيحيّة ونقطة انطلاقها. وقد طفا الموضوع مؤخرا وكثرت الاجتهادات فيه لدى الكثير من القيادات العربيّة المسيحيّة في المنطقة والقيادات الدينيّة المسيحيّة حتّى أعلاها، سيّد الفاتيكان.
الحفاظ على التواجد العربي المسيحيّ في المنطقة هو ليس فقط عاطفيّا ومن منطلق كونهم توأما لنا وإنما كذلك من كون هذا التواجد من مصلحة التوأم الآخر المسلمين على مذاهبهم، وبالذات والإسلام يتعرّض لحملة تشويه منهجيّة تلعب الحركة الصهيونيّة دورا فاعلا فيها.
موضوع هذه المقالة هو التواجد في بلادنا فلسطين، ففيها لم ينج الكثير من المسيحيّين من التهجير النكبويّ في ال-1948 والكثير من قراهم هُجّرت أسوة بالقرى الأخرى وحملوا همّ ونتائج النكبة تماما كما حملتها بقيّة شرائح أبناء شعبنا. لكن التناقص في عدد من تبقى منهم في البلاد ممّن تبقى بعد النكبة من أبناء شعبنا، يثير الكثير من التساؤلات التي نعرف إجاباتها وفي الكثير من الأحيان نخاف الجهر بها. الخوف من الإفصاح عمّا نعرفه في هذا السياق حتى لو كانت معرفتنا منقوصة، عامل مقو لهذا التناقص وربما أن الانتقال من المعرفة الذاتيّة إلى القول العلن يعزز هذا التواجد ويوقف الهجرة المتزايدة ويقي البيت.
ألمعطيات التي نشرتها مؤخرا دائرة الإحصاء المركزيّة والمعطيات التي جاءت في استطلاع الدكتور جريس خوري ونشرتها صحيفة “كل الناس” يجب أن تقلقنا جميعا وتدفعنا للجهر بأسباب أساسيّة ودون مواربة، وانطلاقا ليس فقط من ألم فقدان التوأم حياة وفكرا وإنما مصلحة كما قلت أعلاه. فحسب هذه المعطيات:
في العام 1950 كانت نسبة السنّة من عرب ال-48 %70 والمسيحيين %21 والدروز %9.
في العام 1970 صارت نسبة السنّة %75 والمسيحيين %17% والدروز %8.
في العام 1990 كانت النسب على التوالي %78 ، %13 ، %9. (عدم التناسق بين هذه النسب وما قبلها نابع من شمل سكان القدس وسكان هضبة الجولان في الإحصاء).
في العام 2008 كانت النسب على التوالي %83 ، %8 ، %8.
ومن المتوقع أن تكون العام 2030 : %86 ، %7، %7.
تزايد الأقليّة العربيّة في ال-2008 جاء بالأساس نتيجة طبيعيّة للتوالد والوفيّات 39,000 ولادة و-4,000 وفاة، ونسبته 2.6% في هذه السنة في حين كان 3.4% بين السنوات 1996-2000 وللمقارنة فعند اليهود كانت النسب على التوالي 1.8% ، 1.7%. أما النسب فيما بين توائم الشعب الفلسطيني فهي كالآتي:
ألمسلمون: 3.6% في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 2.8% في العام 2008.
ألمسيحيّون: 1.9% في الأعوام 1996-2000 تراجعت إلى 1.3% في العام 2008.
ألدروز : 2.4% في الأعوام 1996- 2000 تراجعت إلى 1.8% في العام 2008.
نرى أنه منذ سنوات الخمسين تزايدت نسبة المسلمين السنّة من بين فلسطينيي البقاء ونقصت نسبة المسيحيين وحافظ الدروز على نسبتهم أخذا بالحسبان شمل 20,000 درزي في هضبة الجولان المحتلّة وقرابة ال- 250,000 مسلم ومسيحي في القدس الشرقيّة المحتلّة.
في مقالة لي نشرتها قبل مدّة تحت عنوان: “كيف تفكك إسرائيل القنبلة الديموغرافيّة ؟” عالجت موضوع هذا التراجع لدى العرب مجتمعين بعمق. وما حداني على معالجتي هذه هو هذا التراجع الكبير في نسبة توأمنا المسيحي، من 21% بعد النكبة إلى 8% عام 2008 والمتوقع ل-7% عام 2030. الأرقام أعلاه تفيدنا أن نسبة الزيادة الطبيعيّة المنخفضة عند هذا التوأم لا تودي ولا بأي شكل من الأشكال إلى هذا التدني بمقدار الثلث.
ما نعرفه هو أن السبب الرئيسي لهذا التراجع هو الهجرة الواسعة بين المسيحيين والقليلة نسبيّا عند السنّة وشبه المعدومة عند الدروز. والسؤال هو: هل هذا نابع ممّا نقوله ونفصح عنه مثلا عن إمكانيّة أوسع لديهم للاندماج في المجتمعات الغربيّة لأسباب دينيّة ؟ أو أنّ التفتيش عن مستوى حياة اقتصاديّ أفضل هو السبب؟
ما من شكّ أن نسبة المتعلمين بين المسيحيين كانت وما زالت الأعلى بين كل توائم أبناء شعبنا ويكفي للدلالة أن نسبة الحاصلين على شهادات ثانوي مؤهلة للجامعات للسنة الدراسيّة 2007\2008 وصلت بين المسيحيين إلى 53%، بينما وللمقارنة وصلت عند المسلمين إلى 31% وعند الدروز إلى 37%. أما عند اليهود فإلى 48% وهذا يعود لشمل الوسط الديني المتشدد وبلدات التطوير ففي البلدات المتمكنة تصل النسب إلى فوق ال80%. فمبدئيا هذا التحصيل يؤهل الشباب العرب المسيحيين في كل المجالات فلماذا يفضلون مع ذلك الهجرة ؟
على ضوء ذلك فالأسباب المعروفة والمتداولة والمُفصح عنها هي جزء من السبب ولكن السبب الأساسي والحقيقي لهذه النتيجة متعلق بالشعور بالاغتراب والأكثريّة هي المسئولة. لقد فقد شعبنا لفترة توأما آخر هم العرب الدروز لأسباب كثيرة سلطويّة وذاتيّة، ولكن لا يمكن أن نبقى طامري الرؤوس في الرمال معفيين أنفسنا كأكثريّة سنيّة من المسئوليّة إذ تساوقنا مع فصل التوأم هذا، وحتى عندما يحاول وبجد الرجوع إلى مكانه الطبيعيّ لا نجد الاستعداد المطلوب لعودته إن لم يكن أكثر من ذلك. فهل نحن في طريق فقدان التوأم الآخر العرب المسيحيين ؟!
في استطلاع للرأي نشر مؤخرا كما ذكرت للدكتور جريس خوري جاءت النتائج :
72% من الشباب المسيحيين يشعرون بالضياع من حيث الهويّة والانتماء.
46% يرون في المركب المسيحي أولا في هويتهم.
29% يرون في المركب العروبي أولا في هويتهم.
10% يرون في المركب الفلسطيني أولا في هويتهم.
و-83% يرون أن العلاقات مع المسلمين والدروز قد ساءت في السنوات الأخيرة، و-61 يرون أن التعصّب الديني لدى الطوائف ينبع من الجهل الذي يعاني منه كل طرف في نظرته للآخر.
اعتادت قرانا المتجاورة قبل ال-48 ونتيجة لظروف الحياة وضعف الحكم المركزي أن تعقد تحالفات بينها للدفاع عن أنفسها، ولم تكن لهذه التحالفات صبغة دينيّة والتاريخ القريب يعرف “حلف الدم” الذي كان بين بيت جن الدرزيّة وسحماتة المسيحيّة وعرابة السنيّة. فكيف يصير 83% من الشباب المسيحيين يرون أن العلاقات ساءت؟ وأكيد أنّ نسب متقاربة كنت ستجدها عند الشباب السُنة والدروز لو استطلعت آراءهم !.
الدكتور جريس يعزو هذه النتائج فيما يعزو إلى أسباب تقليديّة نعرفها مثل مناهج التدريس وغيرها، ولكنه يشير وب-“حياء” إلى دور القيادات العربيّة المقصّر في تعزيز الشعور بالانتماء وإلى تنامي الحركات الإسلاميّة التي تتوجه فقط للمسلمين. يمكن أن نتفهّم هذا “الحياء” عند الدكتور جريس لكنه زاد عن الحد في حيائه.
النتائج أعلاه هي تماما التي أرادتها الحركة الصهيونيّة وقبل قيام الدولة بكثير، ففي عام 1920 وإثر انتفاضة أبناء شعبنا التي سُميت “ثورة القدس”، زار وايزمن رئيس المنظمة الصهيونيّة البلاد متفقدا باحثا عن السبل الكفيلة بتسهيل قدوم اليهود، وقد وجّه لجنة المندوبين في المنظمة الصهيونيّة لتحضير برنامج عمل بين عرب فلسطين جاء في هذا البرنامج:
“يجب تنظيم أواصر صداقة مع العرب وبث روح العداء بين المسيحيين والمسلمين وتعميق الفارق في المجتمع الفلسطيني عن طريق إبعاد البدو عن باقي العرب وزرع الفتن بين المسيحيين والمسلمين والدروز”.
عدوّنا لم ينوِ لنا الخير ولا ينويه وهذا أمر مفروغ منه تاريخيّا وحاضريّا ومستقبليّا كذلك، ولكن هل نحن ننوي الخير لأنفسنا؟
في مذكراته يروي المغفور له الحاج أمين الحسيني كيف كان الإنجليز يطلقون سراح مجرمين من السجون ويسلّحونهم ويوجهونهم للقيام بالاعتداء على المسيحيين ويروي حادثة عينيّة وكيف أوكل المجاهد عبد القادر الحسيني القضاء عليهم، وليس الحال بمختلف اليوم وإن اختلفت طرقه وأدواته.
المعطيات أعلاه لا تشير إلى أننا ننوي الخير لأنفسنا ويجب أن نقولها وبدون حياء ولا مواربة ولا تورية ولا ديماغوغيّة: إنّ فقداننا هذا التوأم نابع كذلك وبالأساس من تعاملنا نحن أبناء المذاهب الأخرى مع توأمنا هذا. فما حدث في الناصرة في قضيّة شهاب الدين وما حدث في المغار وعيلبون ومؤخرا في شفاعمرو من اعتداءات وما حدث ويحدث في طرعان واعبلين من صراعات، وهكذا في نجع حمادي في مصر ونينوى في العراق، عوامل أساسيّة إن لم تكن الأساس في فقداننا هذا التوأم الهام جسديّا ومبدئيّا ومصلحيّا كذلك، وفقط لأنه “شريك” مع الغرب في الانتماء الدينيّ وكأننا بذلك نقتص من الغرب ولكن على طريقة “ما يقدر على الثور فينطح العجل”، لكن هذا ليس معناه أن يتقوقع كذلك هذا التوأم اجتماعيّا وحتى اقتصاديّا ومهما كانت الظروف، ففي الكثير من الأحيان تُسمع هذه الادعاءات تجاهه ودون علاقة للاعتداءات أو الصراعات وفيها الكثير من الصحّة.
لا يقلّ عن هذه الأسباب الخطاب الدينيّ الإسلامي المحض كذلك في المناسبات الوطنيّة لدى الكثير من القيادات الإسلاميّة الوطنيّة وهذا ما أشار إليه الدكتور جريس ولكن كما قلت ب”حياء”، ولدى الوطنيّة العِلمانيّة وحتى القوميّة منها. ممّا يولد تساؤلا شرعيّا لدى أبناء هذا التوأم الوطنيين منهم قبل الآخرين: إذا كان لا بدّ فلما الاقتصار على جانب ؟!
الحل هو تعزيز التواصل الوطنيّ فوجودنا في بلادنا إن لم يكن الجسديّ فعلى الأقل شكل هذا الوجود هو المهدّد من أعدائنا، فلا يعقل أن يكون مهددا كذلك من داخلنا بخلق الاغتراب فيما بيننا بأيدينا، اعتداءات وتغييب من ناحية وتقوقع من الأخرى.
مواطن وأركان قوتنا في الحفاظ على تعزيز شكل وجودنا المُهدّد هما تواصلنا اجتماعيّا واقتصاديا وسياسيّا خطابيّا، وفوق كلّ ذلك وطنيّا بتغليب المشترك بيننا فغير المشترك هو بيننا وبين الله و”الدين لله أم الوطن فللجميع”، فلا يعقل أن نهدم هذين: الموطن والركن بأيادينا والمسئوليّة على كل التوائم ولكنها أولا على عاتق التوأم الأكبر.
النائب المحامي سعيد نفّاع
آذار 2010
تعقيبا على مقال النائب سعيد نفاع
في “حديث الناس” العدد الماضي حول العلاقات بين الطوائف داخل المجتمع العربي.
بعث القاضي خليل عبود بالرسالة التالية.
قرأت بتلهف وامعان مقال النائب سعيد نفاع عن: “التوأم العربي المسيحي” في جريدتكم الصادرة بتاريخ 26 / 3/ 2010 ومما لفت نظري في المقال المذكورة ان الكاتب يشدد على النقاط التالية:
1- الانتقال من المعرفة الذاتية الى القول العلني ربما يعزز هذا التواجد.
2- السبب الاساسي لهجرة المسيحيين هو شعورهم بالاغتراب.
3- الاكثرية (السنية) هي المسؤولة عن هذا الشعور.
ويشير الى أنّ “فقداننا هذا التوأم المسيحي نابع بالأساس من تعاملنا نحن ابناء المذاهب الاخرى مع توأمنا هذا” وإنّ احداث شهاب الدين، المغار وعيلبون تدل على ذلك.
بيت القصيد يكمن في البند الثالث ايضا.
لا يمكننا ان ننكر ان العاملين الأوليين ساهما الى حد كبير في نمو هذا الشعور (بالاغتراب) فمجلس كنائس الشرق الاوسط اعد تقريرا عن تراجع عدد المسحيين في الاراضي المقدسة منذ حوالي عشر سنوات، لكن التقرير المذكور لم “ينشر” بسبب الخوف او الحياء من الجهر بالوقائع.
التشديد على العامل الثالث، اي مسؤولية الاكثرية، هو شيء جديد وجدير بالاهتمام والتأكيد، واسمحوا لي ان اضيف عاملين اخرين قد يساعدان على ابراز اهمية دور المسيحيين: اولا التركيز على مساهمة المسيحيين في احياء اليقظة القومية والادبية لدى عرب هذه المنطقة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين.
ثانيا: مصداقية المؤسسات المسيحية في ابراز عدالة القضية الفلسطينية امام الرأي العام الغربي واخيرا، اود ان اشكر النائب سعيد نفاع على اهتمامه بالتواجد المسيحي في الشرق الاوسط بتسليط الضوء على مسؤولية “الأكثرية”
نيسان 2010