تشرين الثاني 2006
عندما “اخترع” اليونانيون الديمقراطية (حكم الشعب) كان لهم نظامهم الإلهي الخاص، فلم يكن الله جل جلاله قد هداهم إلى وحدانيّته.
يعرف المعنى الحرفي لها حتى الطفل في الدول ذات الأنظمة التي تتبعها والتي لا تتبعها من كثرة ترديدها وفي الكثير من الأحيان للتغني. دول العالم “الحر” وبضمنها دولتنا أدام الله عزها وفضلها (!) ديمقراطيات تصدّر شعوبها اللعنة الحالّة عليها إلى الشعوب الأخرى كلما عنّ على بالها. والدول الاشتراكية سابقا كانت ديمقراطيات شعبية حتى “التعن أبو أبو الشعب”. ودول العالم الثالث ديمقراطيات ما زال “يلتعن جدّ أبو شعوبها”.
حتى صارت الديمقراطية بحد ذاتها لعنة، وهي من أساسها كذلك(!) لأنها منافية للخَلق فالدنيا يحكمها بمجملها واحد أحد فرد صمد، لم يعرفه اليونانيون عندما بلونا بها، وما الحكم على أجزائها إلا لمن ينوب عنه سلفا وخلفا ولا فرق في التسمية، سمّه رئيس جمهورية إن شئت أو ملكا أو أميرا أو مستشارا أو سلطانا أو خليفة أو أمير مؤمنين، المهم أن يحكم منفردا محاطا بثلّة أو شلّة سمهم ما شئت وزراء أو مستشارين أو قادة وعندها وفقط عندها ترفل شعوب الدنيا بالنعيم الخالد(!).
إذا كانت الديمقراطية هي أن يحكم الشعب نفسه، والآلية للوصول إلى ذلك أن ينتدب عنه من يحكمه، لأنه بطبيعة الحال لا يمكن أن يتفرغ كل الشعب للحكم. وإذا كانت آلية الانتداب هي الانتخابات “الفتراتية” بأشكالها المختلفة التي ارتآها كل شعب ليبدّل فيها منتدبيه طبقا لرضائه أو عدمه عنهم، مما يحتّم بالضرورة تداولا للسلطة أو الحكم. فأي تداول هذا وأية ديمقراطية هذه التي ما أن تنتهي الانتخابات حتى يقوم الخاسر على الرابح يريد أن يشاركه الحكم وإلا فالويل والثبور وعظائم الأمور؟ وعن أي ديمقراطية نتحدث وعن أي انتخابات نتحدث إذا كان بعدها سيتقاسم المتنافسون على ثقة الشعب السلطة وحكم الشعب، بحجج التحديّات الوطنية التي تحتم حكومة وطنيّة أو حكومة اتحاد وطنيّ؟.
أليست المعارضة من أهم مركبات الديمقراطية ؟ أليست هي الساهرة أن يتصرف المنتدب بالأمانة كيفما ائتمن عليها؟
أليست المرشحة للتداول بكسب ثقة الشعب لتقدم له أحسن من بديلتها؟ وإن كانت قبلا في الحكم وأسقطت أفليست بحاجة لتحسين أدائها وفحص بيتها لتحوز على الثقة مجددا؟
إذا كانت الإجابات على هذه التساؤلات إيجابا، إذا فما الضّير في التسليم بحكم الشعب أو لماذا عدم التسليم بحكم الشعب؟
مصطلح “الحكومة الوطنيّة” أو “حكومة الاتحاد الوطني” إن لم تخنّي ذاكرتي أو معلوماتي هو من قاموس السياسة الإسرائيلية، فقد قامت أول حكومة كذلك عشيّة حرب “الأيام الستة”، إذ دخل بيغن زعيم التكتل لاحقا حكومة إشكول العمالية نظرا لدخول إسرائيل حربا كيانيّة، أفليست كل حروبها كذلك؟! وعاد وخرج منها بعد فترة قصيرة بعد أن زالت الأسباب الموجبة وحفظ كيانها على حساب كيان الدول المجاورة، ليعاود دوره في المعارضة ولعشر سنوات كاملة إلى أن قرر الشعب أن يوليه وحزبه مصيره.
لم أسمع مثلا أن بريطانيا أقامت في الحرب العالمية الثانية حكومة وحدة وطنية رغم التحديات التي كانت تمر بها أوروبا غداة الركود الاقتصادي الذي أصابها سنة 1929 وعشية الحرب العالمية الثانية إحدى نتائج ذلك الركود، فسقطت سنة 1935 حكومة المحافظين ولم تطلب حكومة وحدة وطنية، وحتى عندما كانت لندن تئن تحت القصف النازي استقالت حكومة تشمبرلين سنة 1940 وبدله تشرتشل المحافظ ولم يطالب الساقط بحكومة وحدة وطنية رغم ما كانت تمر فيه لندن من أل”بليتس”.
نحن متفقون كقوميين متنورين تقدميين ديمقراطيين أو الغالبية منا متفقة أن الديمقراطية هي المفتاح لانتصارنا على كل أعدائنا: محتلّينا ومستغلّينا ومستعمرينا وقبل كل ذلك أو تزامنا على جهلنا وفقرنا ألديّ أعدائنا. فإذا كان اتفاقنا ذلك صحيحا وقد استبشرنا خيرا أن شعبنا الفلسطيني اختار هذه الطريق طريق الديمقراطية، ففازت حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ديمقراطيا بانتخابات لم تشبها فنيا شائبة، فلماذا لا ندعها تحكم وليحاكمها الشعب يوم ينتصب الميزان؟
أم أن الانتخابات عندنا هي فقط لتحسين مواقع قرب وحول صحن الكعكة حتى لا يبقى للشعب مكانا لإدخال إصبعه ليلحس ولو ممّا تبقى على الصحن؟
إذا كانت الانتخابات لا تهدف إلى تداول السلطة بما يختاره ويرتضيه الشعب بمنحها للأجدر حسب رأيه وخياره، وإذا كان بعد كل انتخابات يقوم الفاشل على الناجح يريد مشاركته فما الحاجة بها؟ فهل المشاركة وأسبابها لا تكون موجبة وضرورية إلا بعد المعركة وعل ضوء نتائجها، فإذا كان المنوي من الانتخابات هو تحسين مواقع و”ضحك على ذقون الشعب” فليتفق مسبقا على التقاسم ولا حاجة لإتعاب الناس؟.
ربما يقول قائل إن هذا تبسيطا للأمور فهي أكثر تعقيدا من ذلك، لكنني لا أرى هذا التعقيد فالأمور جلية، ففي سياقنا التحديات المدّعاة سياسيا واجتماعيا قائمة قبل الانتخابات وبعدها، جليّ أن إسرائيل ومن ورائها الولايات المتحدة لا تريد الخير لا للشعب الفلسطيني ولا للأمة العربية، وإذا كان استمرار حكومة حماس مرهونا بذلك فاستمرارها مستحيل وإذا كانت حكومة حماس بحاجة لتصريف أمورها بالدعم الأوروبي المالي فاستمرارها كذلك مستحيل. إذا كانت حماس أقدمت على هذه التجربة وهي تراهن على ذلك فقد ارتكبت خطأ استراتيجيا وإذا كانت تراهن على غير ذلك وفعلا هي قادرة على ذلك، فمن واجب حركة التحرير الفلسطيني “فتح” لا أن تمكنها من أن تحكم فقط بل يجب أن تسد الطريق على كل محاولة لإجهاض النتيجة الديمقراطية والخيار الفلسطيني الديمقراطي الذي أوصل حماس إلى السلطة بالتقليعة المسماة حكومة وحدة وطنيّة (والوطنيّة صفة للوحدة ليس بالضرورة للحكومة) مهما كانت المبررات، ولتمارس دورها الوطني كمعارضة، فما دمنا رضينا الديمقراطية حكما فللمعارضة فيها دور لا يقل أهمية عن الحكومات وليحكّم في الوقت المحدد الشعب من يريده لتصريف أموره.
الوحدة الوطنيّة الحقّة هي وحدة أبناء الوطن حول مصالحه الوطنيّة بغض النظر عن الموقع، الوحدة الوطنيّة شيء وحكومة الوحدة الوطنية أو الاتحاد الوطني شيء وليس بالضرورة أن تعبّر حكومة وحدة وطنية أو اتحاد وطني عن وحدة وطنيّة ولنا في الحكومات اللبنانيّة والعراقية أمثلة.
ألم يكن الشعب البريطاني موحدا وطنيا في مواجهة ألمانيا دون حكومة اتحاد وطنيّ وألم يكن الشعب الأميركي موحدا وطنيا في مواجهة اليابان دون حكومة اتحاد وطنيّ؟
الوحدة الوطنيّة في سياقنا هي وحدة الشعب الفلسطيني بكل أطيافه وراء حكومته المنتخبة ديمقراطيا في كل موقف يعبّر عن مصلحة وطنيّة وليس بالضرورة طريق آلية أدواتية كحكومة اتحاد وطنيّ، بل أكثر من ذلك إن أي استئناف على اختيار الشعب الفلسطيني الديمقراطي ليس فقط مسا في الديمقراطية كمبدأ إنما فتحا للأبواب مشرعة أمام أعداء الشعب الفلسطيني أن يشرعنوا أو لا يشرعنوا كل إنجاز ديمقراطي يحققه على هواهم، وما دام ليس بين ظهرانينا من يساعدهم على شرعنة ما هو ليس مشروع فسيبقى خيارنا الديمقراطي بألف خير .
يوم بلانا الانجليز ومن بعدهم إسرائيل بانتخابات مجالس بلديّة، وصارت كل حملة انتخابات وصفة ل”الطوشات” في قرانا تمتلئ قاعات المحاكم بعدها بمحاربي “داحس والغبراء” و”البسوس” غير القابلين بالنتيجة وقد كسرت أضلاعهم العصي و”فجمت” رؤوسهم الحجارة.
أو يوم صرنا نمارس هذه “الديمقراطية” وطبقا للقوانين الإسرائيلية الجديدة بقلب الرئيس المنتخب ما أن تنتهي الانتخابات لأن النتيجة لم تأت على “قد الخاطر”، بالدفع لأحد مؤيديه أكثر مما يدفع، أو طبقا للجديدة منها جدا جدا بحل مجالسنا بقرار “ديمقراطي” من لدنّا ونهدي إدارة قرانا لظالمينا.
يومها واليوم لم نقل رحم الله جمال الدين الأفغاني إذ قال: “نحن أمة بحاجة إلى حاكم مستبد عادل!” لعلّ الأفغاني على حق والديمقراطية ثقافة بعيدة عن ثقافتنا على مستوى دولنا وعلى مستوى مجالسنا البلديّة، لا نمارسها في الكثير من الأحيان وإن مارسناها ننقلب على نتائجها ومهما اختلفت الطعون؟
سعيد نفّاع
تشرين الثاني 2006