الضّبع… وحملة التحقيق مع القوى الوطنيّة!

كانون الثاني 2008

على ذمّة أهلنا، أن وعور بلادنا كانت في الأيام الخوالي تعج بالحيوانات البريّة، النمور والضباع والذئاب التي لم يبق منها بقدرة قادر إلّا الخنازير وبنات آوى. ولأهلنا حكايا معها بزّتها كلها حكاياهم مع”الضباع”. فلهذه طريقة في الافتراس غريبة عجيبة خصوصا إذا كانت الفريسة آدميّ، فعلى ذمتهم كان الضّبع يرافق الآدمي في الليالي ويقترب منه ليلامسه خلسة ضاربا إياه بذنبه المبلول ببوله ويتركه موليا ليعاود الكرّة عند كل غتِل من طرق حقولهم الوعرية وهكذا دواليك.

 

فإمّا “يسبعه”، ورغم أن الحكي يدور عن الضباع فاختار أهالينا مصطلحا من عالم السّباع، يعني يخيفه كما يخيف كما الخوف من السباع، فيفقد الآدمي إرادته ويرافق الضبع إلى المكان الذي يختاره الضّبع ويفترسه على راحته. أو أن لايخاف الآدمي وهذه عادة من صفات الرّجال (وعذرا على هذا الاصطلاح)، فيدفع الضبع راكلا إياه بقوة المرّة تلو المرّة أم معملا فيه عصاه أو حجارة الطريق متغلبا على  الخوف أو الوجل أو رفّة الجفن الطبيعية، فيعرف الضبع بغريزته أن لا فرص نجاح له مع مثل هذا فيتركه وحاله ليعود هذا إلى أهله مزهوا أولا بصموده وبطبيعة الحال بطول عمره ليدخل باب تاريخ البلد من أوسع أبوابها.

 

وإلى موضوعنا، الحركة الصهيونية أرادت وما زالت تريد لفلسطينيي البقاء في ال-48 أن يبقوا ضمن سياج الحظيرة التي شدّت أعمدته وأسلاكه حولهم منذ النكبة، وتحملت وما زالت تتحمل حراكهم ما دام ضمن هذا الحظيرة، لكن مشكلتها تبدأ عندما تعتقد أن السياج قد اخترق أو أن هنالك خوفا من اختراقه.

اعتقدت الحركة الصهيونية وعلى مدى العشرات من السنين أن السياج أحكم، خصوصا وأنها استطاعت ضرب كل محاولة لاختراقه بيد من حديد، هكذا كان مع حركة الأرض وكل قومي عربي وهكذا كان مع منظمة الشباب “الدروز” الأحرار، أواخر الخمسينيات أوائل الستينيات، وهكذا كان مع الشيوعيين العرب وأبناء البلد أواخر الستينيات حتى نهاية السبعينيات.

 

كانت حملات التحقيق والاعتقالات والفصل من العمل وتحديد مكان الإقامة أو ما اصطلح على تسميته الإقامات الجبرية (المنع من التحرك أحيانا خارج البيت وأحيانا خارج منطقة معينة)، من نصيب كل هذه القوى كلما دقّ الكوز بالجرّة. تعلو سخونة هذه الإجراءات وتهبط طبقا لحركاتهم وتحركاتهم وعلو الباروميتر الوطني والقومي وكذلك طبقا للوضع الأقليمي، فإذا ارتفعت أسهم عبد الناصر وصداقته حينها مع الاتحاد السوفييتي على حساب الموقف التاريخي للأخيرة من دولة إسرائيل وارتفعت بذلك حرارة القوميين والوطنيين على ساحتنا، ترتفع وتيرة القمع ووسائله ضدّهم وعلى طريقة “إضرب الذي في الزرع يتربى الذي في البور”.

 

نستطيع أن نقرر أن نتائج حرب 1973 إيجابا بنتائجها الميدانية، سلبا بإسقاطاتها. ويوم الأرض 1976 إيجابا بكينونته سلبا باحتوائه لاحقا،  كانت علائم فارقة ومحطات فاصلة هامّة في مسيرتنا نحن فلسطينيي البقاء تبعتها محطات كثيرة أهمها الانتفاضة الأولى التي جاءت لاحقا باتفاقات أوسلو وما تبعها من هلهلة في المواقف حسبتها المؤسسة انتصارا وبالضربة القاضية وبالذات على ساحتنا الداخلية.

 

قبل أن نتابع، المهم أن ندرك اليوم وعلى ضوء حملة التحقيقات المرتفعة الوتيرة ضد التجمع الوطني الديموقراطي وأصدقائه وكل من خرق السياج قوي الأسلاك والأعمدة، أن ندرك أن هذه الحملة ما هي إلا تجريب المجرّب وقد قيل عندنا ” الذي يجرب المجرّب يكون عقله مخرّب” وعودة على وسائل ترهيب وتخويف تهدف إلا الفتّ من عضد التيار القومي في هذه البلاد، لأن خرق السياج جاء هذه المرّة بتحطيم أعمدته ليس فقط خرق أسلاكه التي كانت تعود لترقعها، فرفع الأعمدة ليس كترقيع السياج سهولة.

 

مثلما لم توقف كل إجراءات القمع مسيرتنا الوطنيّة خلال 60 سنة فلن يوقف تجددها المسيرة نحو حقوقنا القومية واليومية لا استجداءا ومنّة بل استلالا من بين الأنياب ومهما طالت وتطاولت هذه الأنياب، ولا نقرر ذلك شعارا، فبحكم النتائج شعبنا اليوم أكثر صلابة وأكثر إصرارا على البقاء وليس مجرد بقاء، إنما بقاء مجبول بالعزّة والرفعة الوطنيّة خارج أي حظيرة خارقا سياجها نحو عزة وطنية وكرامة قومية وتواصل وطنيّ وتواصل قوميّ، وإن يكن ثمنه أسمى غايات الجود مثلما كان في أكتوبر ال-2000، فكم بالحري إذا كان تحقيقات بوليسية “شاباكيّة”.

 

يتخذ شكل التحقيق الجاري اليوم مع الوطنيين من أهلنا وجهين، الأول تحقيقا حول مسيرة تواصلنا الإنساني مع أهلنا وذوينا في مخيّم اليرموك وجبل العرب، وما يقض المضاجع في ذلك أمران:

الأول، أن التواصل يشحن أهلنا صمودا واستعدادا للمواجهة، وزادهم تدفّق إنسانيتهم إذ يحسّ الأخ والأخت والأب والأم طعم عناق الأهل ورائحة الأهل التي حاولوا أن ينسوهما إياهما على مدى ستة عقود وخصوصا عند بعض شرائح أبناء شعبنا التي اعتقدوا أن السياج حولهم أمكن من السياج حول بقية شرائح أبناء شعبهم، فإذا بالسياج ينهار إسوة بغيره.

الثاني: أن التواصل على المستوى الرسميّ وبالقيادات السوريّة والقوميّة والذي حسبوه انقطع عندما قطعوا حبل عودة الرائد، يتجدد.

أمّا الوجه الثاني تحقيقا حول نضال هذه القوى الوطني القوميّ واليوميّ لإحقاق حقنا في بلادنا التي اغتصبت، رافضين تغريبنا عن شعبنا وأمتنا بعد أن غرّبوا غالبية أبناء شعبنا عنّا، عبر التصدي لسياسة التغريب هذه والتي تبدّل بين الحين والآخر لبوسها وتلبس اليوم لبوسا أسموه “الخدمة الوطنيّة الإسرائيلية” لأسرلتنا بعد أن بهتت ألوان كل اللبوس السابق.

 

عودة على بدء، ما حال التحقيقات وحال من وراءها، المخابرات الإسرائيلية “الشابااك”، إلا كحال “الضّبع” في حكايا أهلنا، فلن يستطيع الضبّع ومهما بلّل ذنبه أن يضبع إلا الضعفاء، ونحن كبرنا على الضعف منذ زمن.

 

كانون الثاني 2008

النائب سعيد نفاع

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*