كانون الثاني 2010
في زمننا العربيّ الرديء نذكر عبد الناصر ونذكر المقولة: وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر.
نحن جيل أولاء الذين تفتّحت أعينهم مبكرا على هموم شعبهم وأمتهم عشنا فتوتنا وشبابنا الأول مع جمال عبد الناصر، وعند وفاته وفي قلب جرح من جراح شعبنا الفلسطيني أيلول الأسود 1970، وجدتنا نخرج من صفوف دراستنا ونقفل مدارسنا ودون إذن من أحد ودون إيعاز من أحد إلا حبّنا الشبابيّ لرجل قلّما فهمنا حينها ما يفعل وما يقول، أحببناه وحبّنا أخرجنا في مسيرة وقف لها معلمونا مذهولين وغالبيتهم حبّا وفخرا فينا.
تمرّ السنون ونذكر ميلاده ونذكر وفاته وكلما مرّت يزداد تقديرنا للرجل دون صنميّة ولا عبادة، ولكن نذكر صيحته المدويّة: “إرفع رأسك يا أخي !” خصوصا ونحن نرى الرؤوس الكثيرة المطأطئة من بيننا ومن حولنا وربمّا من ثقل البطون إذ كان أسهل للرؤوس أن ترتفع في ظل الرجل ولو خاوية البطون.
وجدتني أقرأ وفي هذه الأيام بالذات رغم الكثير الذي يشغل البال ويكاد يهد الحيل، مجلد يحوي مجموعة من الدراسات عن الرجل وتحت عنوان : “جمال عبد الناصر رؤية متعددة الزوايا”. افتتح الناشر مقدمة الكتاب بالكلمات :
“في هذا العصر الرديء، نترحم على عبد الناصر وعصره. وإن كان هذا لكتاب أبعد ما يكون عن التصنيم، ومن باب أولى فإن هذا الكتاب لا يتسقّط الأخطاء ، أو يضخمها”.
واختتم المقدمة بالكلمات: “لعلّ الجيل الراهن يطل على عبد الناصر، وعصره، من خلال هذا الكتاب، متمنين أن يبقى ذخرا لذاكرة الأمّة”.
ووجدتني متحمسا لأقول في الرجل أو لأقتبس ما قيل من الرجل أو عن الرجل وأزفها لنفسي ولأهلي لعل في ذلك بعض عزاء أو عودة إلى الروح، كعنوان كتاب طه حسين الذي قرأه الرجل في شبابه وأحبّه متأثرا به. أو لأستفز نفسي وأستفز أهلي تماما كما استفزّ الفتى عبد الناصر كتاب التاريخ المدرسيّ الذي قرأ فيه أن نابليون قد غزا مصر وأنه قد وضع مدافعه فوق تلال المقطم وأمطر القاهرة بوابل من القنابل.
رغم أني رجل علمانيّ ولا مشكلة عندي مع المتدينين ولكني عندما أقرأ عن عبد الناصر الذي ما عرف عنه التحاقه بأحد المساجد، فالسياسة استحوذت عليه، والقضية الوطنية كانت شغله الشاغل وهمه الثقيل، قوله في 3 حزيران 1961 :
“إن الارتباط بين الدين والوطنيّة وثيق ومتين وكل منهما انتفاضة وطنيّة وهما في الحقيقة نداء إلى الحريّة أحدهما من نور الله والثاني من انعكاس هذا النور على ضمائر البشر”، يقول ذلك دون أن يخص دين بعينه ويحكي عن البشر كل البشر ، لا عن دين هذه الفئة من البشر أو تلك، عندما أقرأ هذا أجد أن القاسم المشترك بين العلمانيين والمؤمنين الذي وضعه عبد الناصر: الوطنيّة، هو رأس الدين ورأس العلمانيّة.
فقد ظل عبد الناصر متدينا حتى آخر يوم في حياته لكن قلما سيّس الدين وأن كان وظفه في رفع المعنويات والتعبئة، خاصة في زمن الاعتداءات الاستعماريّة على مصر وبالذات العدوان الثلاثي عام 1956. ولكنه لم يعمل على تطبيق الفكر الدينيّ بشكل عملي واضطهد الإخوان المسلمين.
أمّا عن فكره القوميّ فيقول:
“بدأت طلائع الوعي العربيّ تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانويّة، عندما كانت مشاعري تهتز وأحاسيسي تتفاعل مع كل ما يدور في الوطن العربيّ من أحداث، مثل ثورة العرب في فلسطين، ثمّ الفظائع التي يرتكبها الفرنسيون في سورية”.
ويضيف: “ولمّا بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعا في أعماقي أن القتال في فلسطين ليس في أرض غريبة وهو ليس انسياقا وراء عاطفة وإنما واجب يحتّمه الدفاع عن النفس”.
وقال في المؤتمر الأول للاتحاد القوميّ: “إنه يشرفنا أن نكون دعاة وحدة عربيّة شاملة تستمد مقومات وجودها من الطبيعة ذاتها”.
ولاحقا بمصريّته عن وحدة تقدميّة : “وموش ضروري أبدا نصمم على الوحدة بصفتها المطلقة اللي هي الوحدة، اللي هي الدمج والتوحيد الكامل، لأن في رأيي أن هذا الموضوع عسير قوى الوصول إليه، قد يكون من الأسهل أن نبتدي بنوع من الجبهات، أو عمليات بهذا الشكل، ودي بتوصّل في المستقبل لنوع من التفاهم لمواجهة القوى المضادة الموجودة في العالم العربي”.
وجمال الاشتراكي العادل:
“هدفنا أن نزيل التناقض الطبقي، هدفنا أن لا تبقى الملكية في يد فئة قليلة من الناس ويحرم كل أبناء الشعب. هدفنا أن نجعل الملكية في هذا الحال ملكا للأمة”.
أمّا جمال عبد الناصر الإنسان:
بعد حرب 1967 وسقوط العديد من رفاق الأمس ومنهم صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات فطلب هذا الأخير من سجنه مقابلة عبد الناصر فكان ردّ عبد الناصر حسب شهادة وزير العدل عصام حسونة:
“أن جمال عبد الناصر لا يحتمل عاطفيا أن يرى رجلا يبكي أو في موقف ضعف وبخاصة عندما يكون هذا الرجل من رفاقه، أو ممّن عملوا معه ، وبالتالي فإن جمال الإنسان يتحاشى أن يتأثر عاطفيا فتتأثر العدالة أو أن يحيد كمسئول عن جادة الصواب.”
وعندما تخرجت ابنته هدى من الجامعة وأرادت أن تعمل أحتار عبد الناصر “شاكيا”:
أنه في ضيق لأنها تلح عليه بأن تباشر عملا، فإن تركها تفتش بنفسها عن عمل سيجامله آخرون من خلالها فيعطونها العمل وهنا يرتسم في تقديره مظهر لا يرتضي به، وإن قام هو بتعيينها في وظيفة سيكون المظهر أسوأ. فحلّها هيكل بتعيين كل الدفعة في أول السلك الوظيفي في مركز الدراسات الاستراتيجيّة –الأهرام الذي كان أقامه حديثا.
هذا هو الرجل ورغم أخطائه فلربمّا إن ذكرناه على الأقل في موعد مولده وموعد فقدانه عزاء لنا في الليالي الظلماء التي يفتقد فيها البدر، ونذكر قوله : إرفع رأسك يا أخي !
النائب سعيد نفّاع
كانون الثاني 2010