آب 2006
الانتصار في المواجهات عسكرية ثقافية أو حضارية كانت، هو الانتصار على “الوعي السائد” الذي عادة ما يولد من اعتقاد يسود عند المجتمعات المختلفة والمتواجهة منها. الوعي السائد اليوم أن صراعا على أوجه الحياة المختلفة يدور بين الشمال الغني وإسرائيل جزء منه، والجنوب الفقير والعرب والمسلمون في طليعته، بعد أن خلت الساحة للغرب من الصراع مع الشرق بعد انهيار المنظومة الاشتراكية. هذا الصراع والذي يحاول البعض أن يخفف من حدته أو حتى أن ينكره قائما ولقي دفعا كبيرا بعد الهجوم على المنشئات الأميركية في 11\أيلول.
إن تكاليف الساعات الفضائية التي تمطرنا بها محطات التلفزة تعليقا على وتحليلا للعدوان الواقع على لبنان، ربما تزيد بكثير عن تكاليف الصواريخ والقذائف التي أطلقها حزب الله وإسرائيل معا، وهي مثلها تماما تصيب أحيانا وتخطىء أخرى، ومثلما تمزق هذه أجساد أبرياء أحيانا تمزق تلك عقول أبرياء أحيانا. خصوصا عندما يحسب مطلقها أن قوله آيات منزلة من عند الله وكل ما يقوله الآخرون هو الكفر بعينه. دعونا نتفق أن آراءنا، فيما لا نعرفه بإحدى حواسنا، تبقى اجتهادات، ومهما آمنا بعبقريتها لا يجعل ذلك منها محور أحداث الدنيا، صحة هذه الاجتهادات أو عدمها هو للأيام، لذلك دعونا نعطي الرأي الآخر، حتى لو لم يعجبنا، مكانا دون أن ننسب لصاحبه انحرافا عن سواء السبيل.
لا يستطيع المرء أن يقول أو يكتب أو ينشر كل ما يجول بخاطره، خصوصا إذا كان ذلك خارجا عن الإجماع، حتى الشعبوي منه، في بعضه أو في كله خوفا من اتهامه بالانحراف الآنف. وفي سياقنا ما يجول بالخاطر عن اختلاف الرؤية في أهداف طرفي القتال، علما أن الهدف الحقيقي لا يقال أبدا، والأقرب إلى الحقيقة هو ليس ما يقال، إنما في مكان ما وراء ما يقال، يستنبطه الكاتب أو القائل الواقعيان من الأقرب إلى المعقول لا إلى العاطفة أو الرأي المسبق المتماثل مع الموقف أو الحدث، فبين التماثل والتأييد مسافة شاسعة . ألأهداف الحقيقية لهذه الحرب هي أعمق كثيرا مما يقال أهدافها تدور على “الوعي السائد ” لدى طرفيها. وكل ما عدا ذلك ثانوي وصراع على رأي عام مفقود في الكثير من الأحيان خصوصا حيث تغيب الديموقراطية.
بغض النظر عن هذه المقدمة، ما يشغل بال الكل اليوم ساسة ومفكرين وأناس عاديين ونحن منهم، كيف سينتهي هذا العدوان وبكلمات أخرى من الذي سيكسب منه وماذا سيكسب والكسب دائما نسبي؟
الرابح في هذه الحرب ليس الذي يقتل أكثر ويدمر أكثر ويحتل أكثر، الرابح هو الذي يستطيع أن يدعي لاحقا ويثبت ادعاءه بالوقائع أنه غير شيئا في “الوعي السائد” في معسكره وفي معسكر عدوه.
ومن التعميم إلى التخصيص، الوعي السائد لدى المجتمع الإسرائيلي وبكل مركباته ومنذ ما يزيد على قرن منذ بدء الصراع العربي اليهودي، أن العرب والمسلمين لم يسلموا ولن يسلموا بوجود إسرائيل والطريقة الوحيدة التي يفهمون هي لغة القوة ولذلك على إسرائيل أن تبقى قوية ساحقة ماحقة كسبيل وحيد لجعلهم يقبلون بوجودها أو على الأقل ليسلموا بوجودها، ومن نافل القول أن يقال أن الولايات المتحدة والغرب كله سندها في ذلك. ومن تبعات هذا الوعي السائد لديها هو الاعتداء الدائم على حقوق جيرانها حتى المنقوصة منها إن كان ذلك في فلسطين ال-67 أو هضبة الجولان أو مزارع شبعة.
أما الوعي السائد لدى طرف المعادلة الآخر هو فعلا ليس قبول الوجود إنما التسليم بالوجود إلى أن “يفرجها الله”، وأي كلام آخر هو “دبلوماسية” الأضعف غير الماسك بزمام الأمور من مفكرين وساسة ومن الناس العاديين بكل مركباتهم أو “دبلوماسية” المصالح للماسك بزمام الأمور الحكام ومن لف لفهم.
في المرحلة البينية هذه ينتج عن هذا الوعي السائد العام وعي آخر أقل مرتبة خاص. جاء إقدام حزب الله على أسر الجنديين الإسرائيليين وما يمثله مثل هذا العمل، ليقوض أسسا تحت هذا الوعي الخاص الذي ساد لدى الطرفين وخصوصا تحت أسس الوعي السائد لدى إسرائيل والذي اعتقدت وتعتقد أنها رسخته بقوتها التي لا تقهر مسلطه على رقاب الطرف الآخر الذي بات لا يجرؤ أن يرفع حتى نظره فيها وإلا بها تجد من تجرأ. على ضوء ما تبع هذا الأسر من مواقف وبالذات عربية ممانعة أو ممالئة، والأمران سيان، اعتبرت إسرائيل أن الأمر لا يتعدى المشكلة العرضية وبإظهارها بعض من عضلاتها ستعود المياه إلى مجاريها لكن ” العتمة لم تجىء على قدر يد الحرامي”.
رغم ذلك يظل الانتصار في هذه الحرب رهينة الوعي الذي سيسود بعدها، إذا غيرت هذه الحرب الوعي السائد لدى الجانب الإسرائيلي أن القوة المعتمدة على أن الجانب الآخر لا يفهم إلا إياها وسيلة، إذا غيرت هذا الوعي بوعي مفاده أن ليست هذه الطريق لاستمرار وجودها، فهذا انتصار مدو لنهج المقاومة لدى الطرف الأضعف في ميزان القوى، لن تسلم به إسرائيل بهذه السهولة لكن يكفي أن يسود لديها وعيا ولو باطنيا ينتج عنه الاعتراف بحقوق العرب المبلوعة على يديها ولو بعد حين. وإذا غيرت هذه الحرب الوعي السائد لدى الطرف الآخر بالتسليم بالتفريط بالحقوق تحت مطرقة القوة فهذا تتمة للانتصار. أما إذا بقي الوعي السائد لدى الطرفين على حاله ستكون حينها الأرواح التي زهقت راحت سدى . أنا وبصفتي طرف غير محايد أميل إلى الاعتقاد أن هذه الحرب إن لم تغير الوعي السائد لكنها هزت أسسه ولن يصمد في الجولات القادمة. وإن غدا لناظره قريب.
اليوم ال-29 للحرب
المحامي سعيد نفاع