(مقالة دراسيّة – درامقاليّة)
حزيران 2020
الوقفة الأولى… مع توصيتنا والتتويج!
أمّا وقد أخذ بنيامين جانس بعد الانتخابات البرلمانيّة آذار 2020 ولوجاً في “اللعبة” توصيتنا، وتوّج “سميّه” بنيامين نتانياهو ملكًا وله هو وصيفًا، وفعل كلّ هذا تزامنّا مع أيام الذكرى ال-72 لقيام إسرائيل وما تحمل عندهم صهيونيّا وما تحمل عندنا وطنيّا فلسطينيّا، أمّا وقد فعلها، فهذا مؤشّر أنّ الاندلاق على الخطاب الإسرائيلي والذي بلغ في السنوات الأخيرة شأوًا لم يصله إلّا في سنوات الخمسين أدلجةً من صوب وقهرًا من صوب آخر، لم يشفع هذا الخطاب ل”أهله” ولا لأهل أهله لا حينها ولا اليوم، هذا من ناحية.
ومن الأخرى، صار على ضوء هذا وبمعزل عنه من المطلوب والضروريّ الوقوف مليّا في وقفات تأمليّة في مجمل خطابنا، لعلّنا بحاجة إلى صياغته صياغة مختلفة كليّا، إسرائيليّا (إسرائيليّتنا) وفلسطينيّا (فلسطينيّتنا)، وكذا مراجعة ومن ثمّ صياغة الاستحقاقات المترتّبة على ذلك.
أقصى ما أتمناه على خلفيّة هذه “الدرامقاليّة” ألّا يذهب شركائي في فصائل العمل الوطني المختلفة (الأحزاب والحركات) مع اختلاف الخنادق، أبعد من النصّ في النصوص التي اعتمدتها مرجعيّات دراسيّة طرحتها كحقيقة تاريخيّة بالاعتماد على مصادر مثبتة وإن كان قابلًا مضمونها للنقاش، وأتمنى ألّا يذهبوا في اتّجاه كيل الاتهامات خبط عشواء، وإن ذهبوا فلي في قول “النّبال” للمتنبّي العزاء!
طبعًا، لست بطاعمٍ ولا كالطاعم النفس “جوزًا فارغًا” ولكنّي سأبُقّ حصوتي في هذه: “الدرامقاليّة: المقالة الدراسيّة”، وأجري على الله جريًا على الحديث الذي “كثْرَما” استعملته:
“من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر”.
وأنا من المكتفين بأجر واحدٍ!
الوقفة الثانية… مع إسرائيليّتنا.
“إسرائليّتنا” من عدمها لم تنزل يومًا عن جدول حياتنا نحن البقيّة الفلسطينيّة الباقية، واليوم ونحن نعيش الذكرى ال-72 لنكبتنا\هزيمتنا وقيام إسرائيل على أنقاضنا و”تكرّمها” بمنحنا جنسيّتها من بين حجارة أنقاض بيوتنا المتناثرة، ما زالت إسرائيليّتنا تنازع فلسطينيّتنا البقاء والأمر غير محسوم فينا ذهنيّا وهنا تكمن المعضلة، بمعنى أنّنا نعيش إسرائيليّتنا ونبرّرها ونتزيّن بفلسطينيّتنا ونجمّلها.
لا يحسبنّ أحد أنّ هذا الطرح أتٍ من رفاهيّة أكّاديميّة، فهذا الموضوع في صلب كينونتنا، لازمنا ويلازمنا في كلّ خطوة ومع كلّ لقمة، وسيظلّ يلازمنا هكذا وعلى ما يبدو إلى أمدٍ بعيد.
من نافل القول أنْ نؤكّد: أنّنا نحن كأقليّة عربيّة الذين نعيش في دولة يهوديّة قامت على أنقاض شعبنا، ما زلنا ومع بقيّة أبناء شعبنا في كلّ أماكن تواجده المختلفة نعيش اسقاطات هذا الحدث بكلّ أبعاده على حياتنا اليوميّة وحقوقنا الوطنيّة، ونحن، هذا الجزء منه، ما زلنا نصارع بين فلسطينيّتنا وإسرائيليّتنا وتناقضهما التناحري منه واللاتناحري، وأمّا الغلبة الموضوعيّة فهي من حظّ إسرائيليّتنا وبمحض إرادتنا وأكثر برغبتنا ومهما تجمّلْنا بفلسطينيّتنا.
هذا الموضوع حظي على حيّز واسع من نقاشاتنا وأطروحاتنا السياسيّة وعلى الغالب من باب “كيل الاتهامات” بين الفرقاء الفاعلين، وقد “تزعّم” الفريق الأول الشيوعيّون وقد “تزعّم” الفريق الثاني القوميّون (ولا أقصد التجمّع الوطنيّ الديموقراطي- عزمي بشارة، على الأقلّ معسكر عزمي إن صحّ التعبير). كان هنالك فريق ثالث آثر المراكز والوظائف الحكوميّة بعيدًا عن هذا النقاش وغالبيّته وواقعيّا مارست “التأسرل والأسرلة” من أوسع الأبواب ودون تورية كما فمل سابقاه، الشيوعيّون فكرًا وممارسة والقوميّون ممارسة، هذا الفريق الأخير شمل أناسًا ليسوا بقليلين صنّفوا أنفسهم “سرّا!” ويصنّفون أنفسهم اليوم ارتجاعيّا جزءًا من الفريقين الأوّل والثاني، وبغض النظر إن كانوا صادقين أو لا فقد آثروا التقيّة مبدأً بخلاف “جزئهم المُدّعى” وساروا: “الحيط الحيط ويا ربّ السترة” قولًا وفعلًا حفاظًا على الوظيفة والمركز، وعلى الأقل في سنوات ما بعد “المصالحة السوفياتيّة الناصريّة”، فقبلها لم يكن هذا الجزءٌ منهم بحاجة لا للتورية ولا التقيّة.
بين كلّ هؤلاء وأولئك ضاعت الغالبيّة الشعبيّة منّا في صراع بقاء في صلبه لقمة عيشها دون أن تعطيها هذه فرصة التفكير حتّى في مثل هكذا موضوع على أهميّته، فمارست إسرائيليّتها ميدانيّا وفلسطينيّتها عاطفيّا دون أن تعير الموضوع ومعانيه وأبعاده كثير اهتمام، أو على الأصحّ لم تبقِ لها هموم “النكبة” حيّزا للتفكير في هكذا موضوع هو فعلا بالنسبة لها رفاهيّة ليست في الوارد لا عمليّا ولا ذهنيّا.
الوقفة الثالثة… مع غياب أو تغييب هذا الواقع دراسيّا.
لا أعتقد أنّ هذا الموضوع لا قبلًا ولا اليوم حظي أو يحظى بالحيّز الذي يستأهله من الدراسات العلميّة الحياديّة بالقدر المطلوب، فقد غاب أو غُيّب، فإن غابت قبلا القدرات الأكاديميّة على قلّتها أو سُخّرت أو سَخّرت نفسها مؤسّساتيّا وحزبيّا، فاليوم وعلى كثرتها ووسع الهامش الذي تحظى به حريّ بشقّها غيّر المُسخّر أن يوليَ هذا الموضوع أهميّة كثيرا أكثر ممّا هو حاصل، وعلى الأقل لأنّنا نعيش اندلاقًا إسرائيليّا ممارسة، ونعيش اندلاقًا وطنيّا شعاراتيّا، وال”شُطّار” منّا يلعبونها خالطين الحابل بالنابل بين الممارسة والشعار، وكلّه تحت عنوان: “الواقعيّة”، غائب عنهم أو مغيّب: أنّ الحدّ الفاصل بين الواقعيّة والانتهازيّة دقيق كالشعرة وأحيانًا لا يُرى بالعين المجرّدة، ولذا فعبور هذا الحدّ من عدمه خاضع لسلّم أخلاقيّات إن غابت عند المثقّف والقائد جهلًا ف”كفّك على الضيعة”، وإن غُيّبت عندهما ف”كفّك على الضيعة والمدينة وضواحيهما”!!!
تناولُ هذا الموضوع دراسيّا أكاديميّا كان وما زال لا بل صار حاجة موضوعيّة، والحاجة ماسّة أتن يتمّ التناول بعيدا عن التحزّب، والفئويّة، والنفعيّة الأكاديميّة قبل الماديّة، وبروح نقديّة ثاقبة وببراء من الهوى اللّهم هوى شعبنا الخالي من العنصريّة، تناول الموضوع هكذا فيه منفعة جمّة لنا جميعًا، وربّما تسوية مسار في مسيرتنا الوطنيّة الصعبة وبعيدة المنتهى.
لا أدّعي أنّ معالجتي هذه ستحلّ محلّ أو تعوّض النقص الدراسيّ القائم المُدّعى، ولكنّتي أتوخّاها أن تسدّ بعض جوانب منه، وإن لم تنجح فلعلّها على الأقلّ تستفزّ أصحاب الباع “البحثيّين” أن يدلوا بدلوهم، فلعلّ أن يحظى هذا الموضوع على حقّه الذي يستأهل، وبالذّات وقد أخذ التخبّط منه كلّ مأخذ.
الوقفة الرابعة… مع إسرائيليّتي.
لست في صدد سيرة ذاتيّة، ولكن حتّى أكون صادقًا أوّلًا مع نفسي فيما أنا ذاهب إليه، فإنّي أقرّ وأعترف واليوم في جيل السابعة والستّين أنّ “إسرائيليّتي” قضّت وتقضّ مضجعي، ولكن هذه المرّة وعلى مدى العقدين الأخيرين من عمري تقضّه بمراجعة فكريّة معمّقة غابت عنّي كلّ سنوات عمري السابقة. أعترف أنّ رحلتي مع إسرائيليّتي وأنا المولود بعد النكبة بسنوات، لم تكن دون مطبّات وعِرة، ففي صغري “أسرلتني” المدرسة حتّى النخاع و”احتفّلتني” سنويّا بعيد استقلال الدولة؛ استقلالي، فطبّلتُ وزمّرت في المسيرات الكشفيّة وغنّيت ورفعت ووقفت احترامًا لعلم الدولة ونشيدها الوطنيّ.
وإن كنت، وكما أدّعي، من أولئك الذين فُتحت أعينهم على هموم الوطن وقبل أن أبلغ الخامسة عشرة، فقد “أسرلني” لاحقًا وإن اختلف الشكل، الحزب الشيوعي الإسرائيلي ولسنوات، مؤمنًا حقّا إيمانا أمميّا بحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، ومرجعيّتي محاضرات وبيانات قادة آمنت بهم، وبعض قراءات كثيرة ولكن كما بدا لاحقا كانت دون الكثافة المطلوبة، وموجّهة. آمنت بأنّ تقرير المصير من حقّ الشعب اليهودي ولاحقًا الإسرائيلي (اليهود وبقيّة مركّبات هذا الشعب وأنا منهم)، وأيضًا من حقّ شعبي الباقي فيما تبقّى من فلسطين والشتات، واعتقدت اعتمادًا: أنّ شعبي لم يحظ بهذا الحقّ لأنّ قيادته الرجعيّة هي المسؤولة الأولى عن فقدانه هذا الحقّ، وبالمعطيات التاريخيّة الناتجة فأنا إسرائيلي بحكم الواقع وجزء من الشعب الفلسطيني وأناضل في سبيل تحقيق مصيره (ضمير الغائب) في دولة مستقلّة، وأناضل في سبيل أن يمارس الشعب الإسرائيلي، وأنا منه كابن ل”جماهير عربيّة”، حقّ تقرير مصيره بالمساواة في الحقوق بين الجميع والسلام مع الجيران ومنهم دولة شعبي العتيدة فيما تبقّى من فلسطين بعد أن كانت بلعت دولتي نصفها حسب قرار التقسيم الأمميّ 29 نوفمبر 1947، ومرّة أخرى آمنت أو جُعِلت أومن أن قيادة شعبي الرجعيّة هي المسؤولة عن هذا البلع!
صرتّ باسم حزبي المُلبّي تطلّعاتي وردّات فعلي على السياسات السلطويّة؛ “الحزب الشيوعي الإسرائيلي” المعارض للسياسات السلطويّة المتنكّرة لحقوق شعبي في تقرير المصير ولحقوقي أنا المدنيّة وبعد أن تنازلت عن حقّي كجزء من الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، صرت: رئيس سلطة محليّة والتقيت واستقبلت مسؤولين حكوميّين على أعلى المستويات وأكرمتهم ومنهم أعلاهم مركزًا: رئيس الدولة عازر وايزمن ورئيس الوزراء يتحساك رابين، ممارسة إسرائيليّة ومن الدرجة الأولى.
مرحلة أخرى من مسيرتي الإسرائيليّة جاءت في انتخابات الكنيست 1996 فكنت مرشّحاً في مكان متقدّم على اللائحة الانتخابيّة، وطبقٍا للاتفاق الموقّع حينها بين الحزب الشيوعي (الجبهة) والتجمّع الوطني كان يجب أن أدخل الكنيست مناوبة لو ظلّ الاتفاق حيّا. وفقط لاحقًا، وعلى ضوء انهيار المنظومة الاشتراكيّة بالأساس بدأت أناقش وكتابيّا مشكّكا وأحياناً كافرًا، ورحت تدريجيّا أنفض عنّي الأمميّة ووجهها القريب منّي؛ الأخوة الطبقيّة اليهوديّة العربيّة. اعتمرت الفكر القوميّ الديموقراطي ودولة المواطنين والحكم الذاتي الثقافي، وإذ بي ومن خلال “الفكر القوميّ” التجمّعي أمارس إسرائيليّتي بكلّ أشكالها مع اختلاف الأسلوب، وبضمنها هذه المرّة مرتبة أعلى؛ عضويّة الكنيست الفعليّة.
وبالمناسبة وبغضّ النظر، القضيّة ليست قضيّة “قسم الولاء” فهي صناعة مزايدين، فما يدلي به أعضاء الكنيست هو تعهّد لا بل أكثر من ذلك يُقرأ عليهم النصّ فيردّون: “أتعهّد”، دون التقليل من معانيه ودلالاته الإسرائيليّة، فهو ليس قسمًا والفارق بين القسم (שבועה) ومعانيه ودلالاته والتعهّد (התחייבות) ومعانيه ودلالاته مهمّ، والإصرار لدى البعض على أنّ ذلك قسمّا و”عنزة ولو طار” هو من باب المزايدة ليس إلّا.
ليس المكان الآن لتشريح الموضوع والدخول في غياهبه، ولكنّ عضويّة الكنيست بالنسبة لي وعلى مدى دورتين وما رافقها كانت من الشرر الكثيف، الذي جعلني أغوص أكثر في إسرائيليّتي وصحّة خياراتي، وجعلني ومع غيره الكثير ولعلّ أهمّه خطاب قوانا السياسيّة بعد “عهد القائمة المشتركة الميمون”، أن أجد في نفسي حاجة لأتناول “وطنيّتنا الإسرائيليّة” من خلال الوقوف هذه الوقفات، ضاربًا خميرتي وقد خمرت حتّى الثمالة ف”يا تلصق يا تترك علامة”!
الوقفة الخامسة… مع الخطاب الخدماتي من خلال التأثير بالتغيير.
بعد الانتخابات الإسرائيليّة الثالثة خلال عام، آذار 2020، في وقفات حملت العنوان: “المُشتركة والبراغمَتَزِيّة” كتبت وأرى ضرورة أن أعود عليه هنا:
“تمخّضت الانتخابات الأخيرة فيما تمخّضت عن حالة خاصّة مليئة بالمتاهات القانونيّة والسياسيّة، ويزيد طين هذه المتاهات بلّة على الناس كثرة الخبط خبط عشواء فهذه الحالة الخاصّة جعلت التوصية لتشكيل الحكومة وتشكيل الحكومة شيئين مختلفين كليّا وربّما لأول مرّة في تاريخ إسرائيل. الجزء الأوّل من “الفلم” والمرشّح للعرض اليوم هو ليس بتاتا الجزء الثاني من “الفلم” الذي سيأتي عرضه حال الشروع في تشكيل الحكومة. وخلصت إلى أنّ المشتركة ستوصي يكامل مركّباتها على جانس…”
وأضفت تحت عنوان أو وقفة ثانويّة: “مع حذوك النعل بالنعل والبراغمتزيّة”:
“حين أطلق بنيامين بن إليعيزر (فؤاد) الضليع في الشؤون العربيّة واللغة العربيّة، قبل سنوات وعلى وليمة دسمة في باقة الغربيّة، مقولته وببعض تصرّف: “شو عملوا لكم النواب العرب؟ ملتهيّين في السياسة والقضيّة الفلسطينيّة بدل ما يهتمّوا في قضايكم!”، وتناولها بعده جدعون عزرا نائب رئيس الشاباك سابقًا وراح يبهّرها بعربيّتها الشاباكيّة. فاعت جوقة صهيونيّة ومُتصهينة بعدهما، والأهم استطيبت قطاعات واسعة من ناسنا “الطبخة” وراحت تضيف عليها ما شاءت من بهارات، وإن اختلفت المنطلقات لم يغيّر ذلك من طعم الطبخة، البعض استطيبها لسوء في الذوق وآخرون لأغراض في نفس يعقوب. وها رأينا أبراهام ديختير، زميلهما، يحذو حذوهما في الانتخابات الأخيرة، حذوك النعل بالنعل!
العودة إلى الحملة الانتخابيّة وما رافقها من أطروحات كانت الغالبة في البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة وعلى شبكات التواصل الاجتماعيّ، من قيادات وأكثر من “باحثين معلّقين خبراء” طبقًا ل- “التايتلات” المنعوفة عليهم نعفًا من المقدّمين أو من أنفسهم، العودة إليها توصلنا إلى نتيجة مرّة ألا وهي أنّ “خطاب التُأثير الخدماتيّ” هو الخطاب الذي طغى. والفرق كان هذه المرّة فقط أنّ مروّجي هذا الخطاب كانوا منّا وفينا مع اختلاف المفردات المستعملة واللبوس الذي ألبسوها، وإن كان حدث وفات أحد إعلاء هذا الخطاب كان المقدّم يعيده إلى سواء السبيل، لتشعر أحيانًا وكأنّ هذا المقدّم يقوم بمهمّة مُناطة بها من كثرة إصراره!
تغلّب الخدماتي في الخطاب على كلّ ما خلافه متّخذا شكلًا آخر عنوانه؛ “التأثير في التغيير”. هذا لا شكّ كان نقلة نوعيّة ليس بالضرورة نقلة إيجابيّة، ولم يكن نابعًا نتيجة لتبنّي أطروحات فؤاد ورهطه وإنّما من تغيّر اجتماعيّ حصل عندنا أتى بتغيير سياسي بالضرورة. فقد انتقلنا قيادات وناس من فلاحيّة وعماليّة آباء إلى برجوازيّة أبناء حياتيّا وذهنيّا، ولا يستهيننّ أحد بأبعاد مثل هذه النقلة الاجتماعيّة على تصرّف الفرد فكريّا واجتماعيّا وسياسيّا، فليس أسهل من تخطّى الحد الدقيق الفاصل بين البراغماتيّة (في سياقنا ادّعاء التأثير) والانتهازيّة (في سياقنا اعتلاء ظهر التأثير) من حيث يدري ومن حيث لا يدري المخاطِب البرجوازي، وهذا دين وديدن البرجوازيّة كان وما زال وسيبقى، وحين يكون المخاطَب كذلك وإن حياتيّا وليس بالضرورة طبقيّا، فالطامّة طامّة عامّة.
حظوظ تشكيل “جانس” الحكومة، الجزء الثاني من “الفلم”، فإنّ عرضه، عرض الفلم، على كفّ عفريت والعفاريت حوله كثيرون فإن روّضها وتروّضت، فحينها وفقط حينها تستطيع المشتركة الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطاب التأثير والتغيير وبغض النظر عن “البراغماتزيّة”. المشتركة في هذا الوضع أمام خيارات لا تُحسد ولا تُغبط عليها، وبين خطابها الانتخابيّ في التأثير والتغيير والخيارات المترتّبة على ضوء النتائج، فهي كما بالع المنجل، والاستعمال كليّا مجازي فلا يذهبنّ أحد به إلى معانٍ أو أبعاد أبعد ما تكون عن قصدي!”.
خطاب الشراكة والمشاركة ليس جديدًا، وإن كانت ارتفعت دالّته البيانيّة وانخفضت وتذبذبت طبقًا لمحطّات في مسيرتنا؛ حرب السويس، ضرب حركة الأرض، الخلاف والمصالحة الناصريّة السوفييتيّة، وانقسام الحزب الشيوعي و …، جاءت حرب 1967 والنكسة (الهزيمة المتجدّدة) وعزّزت مواقف أصحاب خطاب “الإسرائيليّة” الأيديولوجيّين والبراجماتيّين، اللهم من خلال رفع منسوب خطاب “الفلسطينيّة” شعاراتيّا، سياسيّا وكذا ثقافيّا، إلى أن جاء يوم الأرض والذي كان بخلفيّاته وسيرورته وأحداثه ونتائجه تطوّرًا هامّا في الممارسة الوطنيّة الفلسطينيّة، فتكفّل من تكفّل أن يحصر أبعاد هذا اليوم في إسرائيليّته. عدنا إلى الدائرة الأولى ولكن دالّة الخطاب الفلسطينيّة وبغضّ النظر ظلّت في ارتقاء شابّة على الحصار، وبدأت تتعزّز ارتفاعًا ليجيء أوسلو وليصنّفنا نحن فلسطينيّي البقاء بالإسرائيليّين ليقضي على آخر رمق كان عند أحد في حقّنا الوطنيّ القوميّ.
هذا الخطاب الفلسطينيّ بعد حرب حزيران 1967 والذي تعزّز في يوم الأرض ورغم ما اعتوره من إسرائيليّة لم يرُق للمؤسّسة، فأطلقت حملة شعواء ضدّ رافعيه ورغم إنّ رفعهم إيّاه كان من خلال “إسرائيليّتهم” واقعيًّا، إلى أن جاء من “قلع شلش الحياء” في العقد الأخير بخطاب “التأثير من خلال التغيير” متبنيّا عمليّا خطاب فؤاد وحاشرًا الجزء الفلسطينيّ المبتور أصلا في الزوايا المعتمة، اللهم إلّا إذا استُفزّ وبالذات من إعلاميّ عبريّ. والسؤال: التأثير على ماذا وتغيير ماذا؟!
ما كان “قلع شلش الحياء” ليحدث لولا لم يكن كذلك نتاج تراكم كمّي، ولاحقًا كيفيّ، بدأ منذ أن تولّى، وللغرابة، “مناحيم بيغن والليكود” الحكم. بيغن مارس وعلى عكس المتوقّع، تجاه العرب سياسة “جابوتنسكيّة- فكر زئيف جابوتنسكي”، فتبحبح العرب تعبيريّا، بمعنى توسّع الهامش أمام موظفّي الدولة على اختلاف وظائفهم في التعبير عن آرائهم وقد رُفع سوط تحديد الإقامات والفصل من العمل الكان مسلّطًا على رقابهم. هذه الفئة أو الطبقة إن صحّ التعبير، دخلت “حلبة الخطاب” العربيّ المحلّي من أوسع الأبواب بخطاب طال كبته، فجاء بحكم ذلك وبحكم طبقيّة أصحابه ليرفع من أسهم الخطاب “الواقعي- الإسرائيلي” ويرفد اصحابه بدفعٍ حدّ الاندلاق.
الوقفة السادسة… مع اعتراضيّة.
في الوقفات القادمة سوف أخرج عن التسلسل بعيدًا إلى الوراء لأقف مع “أدبيّاتنا” منذ النكبة في هذا السياق (خطابنا وفعلنا الإسرائيلي) مُدّعيًا أنّ فيها الدليل القاطع على حقيقة خطابنا، وأنّ الطاغي منه هو إسرائيليّ في الممارسة والجوهر وفلسطينيّ فقط في الشعار والمظهر. ورغم هذا لم يفدنا في شيء التنازل حتّى عن خطابنا الفلسطينيّ المظهريّ مغلبين عليه المطلبيّ الحياتيّ، وليُثبَت أنّا ومهما اندلقنا على إسرائليّتنا ولو من باب معركتنا على مساواة يريدها لنا البعض وغالبيّتنا أقصى أحلامنا، فسنظلّ رعايا في دولة يهوديّة نرضى بالفتات ووفرته وغالبيّتنا تلهث في سباق محموم وراءه عملًا على لمّ أكبر كمّ منه على حساب كلّ ما عداه من قيم اجتماعيّة وسياسيّة وأكثر أو بالأساس وطنيّة قوميّة صارت ل”طقّ الحنك” وفيما ولِما يتبقّى من أوقات الفراغ، في الدواوين الواقعيّة والافتراضيّة.
الوقفة السابعة… مع أنا مواطن إسرائيلي!
قلت أعلاه أنّي تبنيّت مواقف كثيرة اعتمادا على ثقة بأناس نظرت إليهم كرموز واعتمادًا على قراءات كثيرة إلّا إنّها كما تبيّن لي لم تكن بالكثافة المطلوبة. عنوان هذه الوقفة هو عنوان كتاب لأحد كتّابنا المرموقين، وما كنت لأصل إليه لولا قراءاتي المكثّفة والتي بدأت في السجن، ربّما أو على الأصح تأكيدًا، لتغطية مناطق بور تبقّت في ثقافتي رأيت أنّي بحاجة لحرثها وما كان تسنّى لي حرثها في سنّي عملي المهنيّ والسياسيّ والجماهيريّ، الصاخبة.
كاتبنا المرموق فعلًا، وبغضّ النظر عن الاسم، والذي أصيب إصابة بالغة وهو يقاتل عام 1948 دفاعا عن بلده في المثلّث والتي صمدت غالبيّة قراه وبفضل مجاهديها والجيش العراقي إلى أن سلّمتها الأردن طبقا لاتفاقات رودُس يوم 19.05.1949 تمامًا في الذكرى الأولى ل”استقلال” إسرائيل، كاتبنا صار لاحقًا مدرّسًا في سلك التعليم عند الدولة التي كان يقاتل ضدّها، ومؤلّفًا لكتب دراسيّة مدرسيّة تحمل رسالة هذه الدولة، وقد جاء في كتابه المذكور تحت عنوان: “أنا مواطن إسرائيلي“، للصف الثالث ابتدائي الجزء الثالث، الآتي:
“المواطن الصحيح – تعرّف على إسرائيل: أنا مواطن إسرائيلي وأنت مواطن إسرائيلي، ومن واجبنا التعرّف على بلادنا إسرائيل، كما إنّه من واجب كلّ مواطن في أيّ بلد كان أن يتعرّف على بلاده. وإلّا فكيف سيتعرّف على بلاد غيره بعدما يكبر إذا كان يجهل بلاده التي يعيش فيها؟ فقد قيل: (… يسرد قصّة شيخ كبير كان مشهورًا بالحكمة والمعرفة، عن معاني معرفة والتعرّف على الأوطان…)
هذا الكاتب يكتب بعد سنين طويلة سيرته ومسيرته في كتاب ضخم أهداني بالبريد نسخة منه رغم عدم المعرفة الشخصيّة بيننا. يذكر الكاتب في سيرته كلّ انتاجه عبر سنيّه الطويلة من كتب ولا يجيء على ذكر هذا الكتاب. وحتّى لا نظلمه فالكثيرون ممّن كتبوا السير الذاتيّة والتي قيّض لي أن أقرأها قد أغفلوا محطّات في حياتهم تتعلّق بإسرائيليّتهم وممارستها، وهذا بحدّ ذاته خطأ فادح من وجهة نظري. كاتبنا يغفل الكتاب ولكّنه لا ينفي وجوده فيكتب في سيرته: “كنت من قبل قد التقيت سكرتير النقابة… عدّة مرّات، حيث وجّهني إليه مدير المعارف العربيّة للتشاور حول نشر كتاب مدرسيّ لي عن طريق نقابة المعلّمين والهستدروت…”
هذا الكاتب المرموق فعلا، المعلّم الذي صار لاحقًا مديرًا، يكتب:
“إدارة جهاز التعليم في المدارس العربيّة وُضعت في يد مجموعة من “الخبراء” (الأهلّة في الأصل. س. ن.) في التربية والتعليم والإدارة، وجلّهم من المستشرقين أو القادمين الجدد. وبيد هؤلاء كان وضع المناهج للتعليم العربي، وفي أساسه كان تغييب الشعور القومي لدى الطالب العربي…”
ويتابع كاتبنا\ المعلّم المدير:
“أمّا القبول للوظائف الإداريّة والتربويّة والتعليميّة فتخضع لأولويّات السلطة الجديدة، فقد عيّنت إلى جانب المدير اليهودي.. موظّفا يشغل منصبًا هو أقرب إلى منصب نائب المدير العام، وهو كان مبعوث شعبة المخابرات العامّة… وهكذا يُقبل المعلّم مثلا لوظيفته إذا مرّت أو أوصت أو رضيت عنه المخابرات، وإنّ رضاء المخابرات يخضع لمعايير ومقاييس وموازين واضحة، الأوّل: أن توصي، بل أن تطلب المخابرات تعيينه (هذا يعني أنّ المرشّح يعمل ويتعاون مع المخابرات) ومن أجل ماذا، وما هو الميدان؟ إنّه التجسّس على زملائه وعلى ذوي طلّابه.. الثاني: أن ترضى المخابرات.. وهذا يعني أنّ المرشّح ربّما يكون في طريقه إلى التعاون.. الثالث: لا تمانع.. وهذا يعني أنّه لا خطر على الأمن من هذا الترشيح. الرابع: أن يوصي المفتّش الإداري العربي بتعيين المرشّح، والمفتّش نفسه، يكون قد قُبل لوظيفته بنفس الشروط… وبيت المفتّش غالبا ما يكون كعبة للزيارات… وهذا يعني…”
الوقفة الثامنة… عيد استقلال بلادي.
وهذا المعلّم سليمان جبران، إضافة، يكتب في مقال نشره في تاريخ 03.06.2014 على الموقع الإلكتروني- المدار:
“في هذه الأيّام، تعود بي الذاكرة إلى الماضي البعيد، وإلى احتفال المدارس بعيد الاستقلال السعيد. لا أظنّ المدرسة التي عملت فيها يومها كانت شذوذا. على كلّ حال، دعوني أصف لكم كيف كانت مدرستنا تلك تحتفل بالمناسبة السعيدة. وعليه قسْ! (…) طبعا أنت لا تعترض، ولا تستطيع الاعتراض حتّى. هل تعليم اللغات والريّاضيّات وغيرها من المواضيع الدنيوية أهمّ من الاحتفال بعيد الاستقلال السعيد؟ – “عيد استقلال بلادي”؟ (…) من شذرات الاحتفال بالعيد السعيد، ما زالت في البال أيضا أنشودة “بعيد استقلال بلادي”.
بحثت بالسراج والفتيلة لأتعرّف كاتب الأنشودة المذكورة فلم أفلح. يبدو أن مؤلّفها رماها في السوق واحتجب خجلا! سمعت أخبارا شفهيّة متواترة عن “الشاعر” صاحب الأنشودة. مع ذلك، لا أرغب في إدانة الناس بالاعتماد على الشهادة الشفهيّة فحسب. كثيرون من الأجيال الشابّة لا يعرفون النشيد المذكور. هذه ثغرة كبيرة في ثقافتهم العامّة طبعا. لذا فإني أنقل إليهم ما بقي في الذاكرة، رغما عنها وعنّي، لكثرة ما سمعتْ وقرفتْ:
بعيد استقلال بلادي غرّد الطير الشادي
عمّت الفرحة البلدان حتّى السهل والوادي
والشعب يغنّي فرحان مِتْهنّي
يحلالُهْ الترتيل في عيد اسرائيل
دمتِ يا بلادي
هذا “التراث” يستحقّ التسجيل، مثله مثل غيره من التراث. حتّى لا ننسى. خُلق الإنسان نسّاء!
لكن هناك ما لا يُنسى طبعا، لأنّه مسجّل حبرا على ورق. خلال بحثي عن “وثائق” لتلك الأيّام السعيدة، وقع في يدي كرّاس بعنوان “في مهرجان الأدب”. من إصدار “صندوق الكتاب العربي” سنة 1959، احتفالا بعيد الاستقلال العاشر. في الكرّاس المذكور قصائد ومقالات ومسرحيّات فازت في المسابقة “الأدبيّة” بمناسبة العيد العاشر لدولة إسرائيل. فيه أيضا صور لجميع من فازوا في المسابقة الأدبيّة في تلك المناسبة. لا أريد هنا ذكر الأسماء الواردة هناك طبعا. من باب “وإذا بليتم فاستتروا”. مع ذلك، لن أحرم نفسي والقرّاء من قراءة بعض الشواهد القصيرة، من القصائد الشعريّة هناك، دونما ذكر لأصحابها طبعا. ومن شاء التوسّع فالكرّاس المذكور ملقى في المكتبات، حافل بروائح ذلك الزمان!”
وللمثال يقتبس المربّي سليمان هذه الأبيات:
“قامت على أرض الجدود كريمة تحيي تليد المجد بعد تشرّدِ
تبني وتدعو للسلام يمينها والسيف عند يسارها للمعتدي
يا ربّ حقّق في الحياة مرامها وأنرْ لها الدرب السويّ لتهتدي
لا فرق بين يهودها أو عُرْبها فالكلّ أعضاء بجسم واحدِ
هل من يلوم إذا جُننتُ بحبّها؟ يا قلبُ لا تخشَ الملامة بلْ زدِ
واهتفْ معي، واليوم عيد نضالها هذا الدعاء كما ستهتف في غدِ
دامت على طول الزمان عزيزة يزدان مفرقها بتاج السؤددِ”
الوقفة التاسعة… مع اعتراضيّة مرّة أخرى.
ربّما أن هذا الشكل من الاحتفالات كان بتأثير القائمين على الجهاز من القادمين الجُدد العراقيّين، وصحيح أنّ هذا الشكل من الاحتفالات انتهى في المدارس، ولكنْ هل من ضمان، أو هل من أحدٍ يستطيع أن يضمن أنّ كلّ هذا لم يترك أثرّا ذهنيّا فينا؛ عشرات آلاف الأطفال الذين لُبّوا على هكذا تراث كما يطلق عليه سليمان جبران، أثرًا ليس بالضرورة إسرائيليّة ظاهرة شكلًا وإنّما إسرائيليّة ممارسة جوهرّا في كلّ أوجه حياتنا ودون غضاضة، لا وبل ونعزّزها بالتبريرات؟!
الوقفة العاشرة… مع راشد حسين والقوميّة.
في مقالة له في الفجر عام 1959 تحت عنوان: “حين يجوع التاريخ”، يكتب:
“الشعب الإسرائيلي: في سنة 1952 وقف إميل حبيبي على منصة مؤتمر السلام في ڤيينا وقال: “لا يوجد في إسرائيل قوميتان، وإنما يوجد شعب إسرائيلي فقط”. وفسّر إميل حبيبي هذه الثرثرة بما معناه أنّ اللغتين العبرية والعربية من أصل واحد، وأنّ الشعبين العربي واليهودي من أصل واحد. وبما أنّ الشعب اليهودي (أي بني إسرائيل) هم الأكثريّة، فيجب أن يسمى سكان إسرائيل ـ عربًا ويهودًا ـ باسم: الشعب الإسرائيلي. ويومها وقف صهيوني معروف وفنّد أقوال إميل حبيبي؛ وأعلن أنّ في إسرائيل شعبين: عربي ويهودي. وانتصر الممثّلون العرب يومها لأقوال الصهيوني. ولم يوافقوا على أقوال إميل حبيبي. اللهم اهدِ إميل ورفاقه إلى الصواب، حينما يبحثون فلسفة القوميّات!… لينسَ الشيوعيون. وليمعِنوا في النسيان. أما نحن فلن ننسى. نحن القوميين العرب لن ننسى الذين طعنوا قوميّتنا أمس، ويطعنونها اليوم!”
وقبل إميل حبيبي وفي ال-19 من أيار 1949 بمناسبة احتفال بالذكرى الأولى لاستقلال إسرائيل تكتب “كول هعام” اليوميّة الناطقة باسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي (بالمناسبة هذا اليوم هو نفس اليوم الذي سلّمت فيه الأردن المثلّث)، تكتب ص2، وتحت العنوان: “كلمة يوم الاستقلال… خطاب الرفيق توفيق طوبي في مهرجان احتفالي جماهيري في الاتّحاد النقابي باريس- فرنسا، حضره كذلك الشاعر ألكسندر بن…” تكتب الآتي (ترجمة حرفيّة):
“الرفاق الأعزّاء،
أشكركم من صميم قلبي لإتاحة الفرصة أمامي للاحتفال هنا هذا المساء، في هذا المهرجان الشعبيّ الكبير، مثلما فعل أبناء بلدي في الوطن بالذكرى السنويّة الأولى لإقامة دولة إسرائيل.
إنّ احتفالنا بإقامة دولة إسرائيل هو احتفال بانتصار مبدأ حقّ تقرير المصير للشعب اليهودي في أرض إسرائيل. إنّنا نحتفل بذكرى الهزيمة التي مُني بها الاستعمار إثر فشل الحملة العدوانيّة لجيوش الحكام العرب الرجعيّين، وبقدر لا يقلّ عن ذلك فإنّنا نحتفل بفتح الباب للفرص الجديدة للشعب اليهودي ليشكّل عاملا للتقدّم في الشرق الأوسط، بواسطة بناء بلاده كدولة ديموقراطيّة شعبيّة حقيقيّة.
وفي الوقت الذي نحتفل فيه فإنّنا نستذكر باعتزاز ذكرى الحرب البطوليّة للشعب اليهودي من أجل استقلال إسرائيل، وذكرى كلّ أولئك الذين ضحّوا بحياتهم في الحرب ضدّ الإمبرياليّة والتدخّلات الإمبرياليّة. كما لا يمكننا أن نكون صادقين مع أنفسنا إن لم نذكر في هذه اللحظات أولئك الأصدقاء الذين وقفوا بجانب الشعب في إسرائيل في الساعات العصيبة خلال كفاحه للاستقلال. ببالغ الشكر والاعتزاز نتطلّع هذه الأيّام إلى الاتّحاد السوفييتي والدول الديموقراطيّة الشعبيّة، الذين لم يرتدعوا عن تقديم يد العون في حرب استقلال إسرائيل، سياسيّا وماديّا. لن ننسى أبدا أنّ الاتحاد السوفييتي كان الداعم الأكثر مثابرة وصدقًا في حربنا للاستقلال.
إنّ كفاح الديموقراطيّين العرب، في فلسطين والبلاد العربيّة، ومقاومتهم لحرب الحكومات العربيّة الرجعيّة ضد دولة إسرائيل الفتيّة، وحقيقة مشاركتهم بكلّ ما يمثّلون من قوّة في حرب الاستقلال على الرغم من الإرهاب والتهديد- سينظر إليه بإعزاز بوصفه جزءًا من عون ومساهمة الديموقراطيّين في أنحاء العالم في حرب استقلال إسرائيل. نحن القوى الديموقراطيّة في إسرائيل، ونحن نحتفل بيوم استقلال إسرائيل، سنخون الاستقلال إذا كنّا اليوم نتناسى الإشارة إلى المخاطر الكبرى التي تتربّص بدولتنا.”
الوقفة الحادية عشرة… مع التقاط نفس للتفكير.
كانت هذه الوقفة وقفتي الأخيرة في الوقفات الانتخابيّة المشار إليها أعلاه، وفيها قلت وأكرّره هنا:
الوطنية، وتُعرف بالفخر القومي كذلك، هي التعلّق العاطفي والولاء لأمّة محدّدة بصفة خاصة واستثنائية عن البلدان الأخرى. والوطني هو شخص يحبّ بلاده ويصون مصالحها. تتضمّن الوطنية مجموعة مفاهيم ومدارك وثيقة الصلة بالقومية مثل الارتباط، والانتماء، والتضامن، لأنّ واقع الحال يفيد بأنّ المصالح ملك للأمّة التي تُعَرِّفُ الدولة بعلامات وملامح اثنية، وثقافية، وسياسية، وتاريخية مميّزة.
الوطنية مفهوم أخلاقي وأحد أوجُه الإيثار لدفعها المواطنين إلى التضحية براحتهم، وربّما بحياتهم من أجل بلادهم. رفض بعض المفكّرين مقارنتها بالأخلاقيات، واعتبرها حجر الأساس الذي تقوم عليه الأخيرة. وصفها آخرون بال-“مشاعر السياسية”، واعتبر تضحية المرء بفرديته لصالح الدولة أعظم اختبار للوطنية. وقال آخر لم تنفصل الوطنية عن الحرية وتستحيل في مجتمع مستعبد، كما عبَّر عن ارتيابه ممن يُظهرون انتماءهم للإنسانية دون التزام لأقوامهم.
هذا الكلام إحساس وممارسة وطرح، ولا خير في الإحساس دون الطرح والممارسة، وكم بالحريّ في حالنا نحن الأقليّة العربيّة (ليس الجماهير) في بلادنا، وكلّ مفاضلة بين هذا وبين الخدماتيّ هي مفاضلة بائسة في أضعف الإيمان، وعلينا أن نعيد لخطابنا التوازن الحتميّ.
اقرأْ عزيزي هذا الكلام مع ما جاء في الخطاب الباريسيّ أعلاه، وهكذا:
“إنّ كفاح الديموقراطيّين العرب، في فلسطين والبلاد العربيّة، ومقاومتهم لحرب الحكومات العربيّة الرجعيّة ضد دولة إسرائيل الفتيّة، وحقيقة مشاركتهم بكلّ ما يمثّلون من قوّة في حرب الاستقلال على الرغم من الإرهاب والتهديد- سينظر إليه بإعزاز بوصفه جزءًا من عون ومساهمة الديموقراطيّين في أنحاء العالم في حرب استقلال إسرائيل. نحن القوى الديموقراطيّة في إسرائيل، ونحن نحتفل بيوم استقلال إسرائيل، سنخون الاستقلال إذا كنّا اليوم نتناسى الإشارة إلى المخاطر الكبرى التي تتربّص بدولتنا.”
الوقفة الثانية عشرة… مع عودة إلى أدبيّاتنا ويوم الأرض.
دكتور، حينها، أمل جمّال في تقدّيمه للكتاب الدراسيّ لنبيه بشير: “يوم الأرض ما بين القوميّ والمدنيّ” يقول:
“لا تنبع أهميّة يوم الأرض من كونه يوم تحدّ للسلطة المغتصِبة فحسب، وإنّما لكونه يتمحور حول المركّب الأكثر أهميّة في الوجود الفلسطيني، تاريخيّا وإنسانيّا وحضاريّا، ألا وهي العلاقة العضويّة بين الشعب والأرض… والدراسة تكشف أنّ الخطاب بقي في يوم الأرض يدور في فلك المواطنة الإسرائيليّة المنقوصة والعاجزة. ومن هنا عبّرت قيادات المجتمع العربيّ آنذاك عن سياسة براغماتيّة تنحصر في الخانة المدنيّة، مطالبة إسرائيل بإيقاف مصادرة الأراضي، وبالامتناع عن ملاحقة الجماهير العربيّة على خلفيّات سياسيّة، وتحقيق المساواة المدنيّة من خلال دمج المواطنين العرب في الدولة. وبذلك، وفق الدراسة، حُجّمت الجوانب الوطنيّة المبنيّة على مفاهيم العدل التاريخيّ للصراع مع الصهيونيّة وتقبّل الإطار السياسيّ والزمنيّ والجغرافيّ للدولة الإسرائيليّة.”
وأمّا في المقدّمة فيقول المؤلّف:
“تميل الدراسة إلى تبنّي نتيجة مفادها أنّ السكّان العرب، الذين خرجوا من يوم الأرض كأقليّة قوميّة تحمل سمات مركزيّة للتعريف بال”مجتمع”، لم يحسموا وجهتهم، على صعيد خطابهم السياسيّ والخيار بين جملة المطالب القوميّة الطابع أو المدنيّة الطابع…”
وفي مكان آخر يقول:
“السلطة الإسرائيليّة أنشأت دوائر وهيئات وبرامج لبناء هويّة “عربيّة إسرائيليّة للمواطنين العرب في البلاد، مثل…”
وبالمقابل، يتابع المؤلّف:
“القيادات السياسيّة للسكّان العرب في إسرائيل ومنذ إنشاء الدولة وحتّى “يوم الأرض”، رفعت مطلباً والذي يتمثل في المطالة بالاعتراف بالسكّان العرب في إسرائيل كأقليّة قوميّة، والعمل على الحفاظ على “الكيان العربيّ” القوميّ، ومنح الحقوق القوميّة وما إلى ذلك.”
أمّا حول الترجمة العمليّة لهذا الطرح، فيضيف المؤلّف:
“يخبرنا توفيق زيّاد في صيف عام يوم الأرض أنّ معنى التعبير “مساواة قوميّة كاملة” هو: “أن تتوقف جميع المصادرات للأراضي، وإعادة الأراضي العربيّة لأصحابها القانونيّين (…) والاعتراف بحقّ العرب في الوجود والتطوّر على أراضيهم في وطنهم. ومنح العرب الحقّ في احترام ثقافتهم (والحفاظ على) كرامتهم القوميّة، والحق في تمثيلهم الكامل في مختلف المؤسّسات الرسميّة والجماهيريّة، والحق في إعادة صياغة وبلورة السياسة العامّة ومستقبل العلاقات مع الشعب اليهودي، وهم الذين (السكّان العرب) يبغون أن تقوم (العلاقة مع الشعب اليهودي) على تفاهم وتعاون واحترام متبادل”.
يأتي المؤلّف كذلك بمكنون التعريف لشعار “الحقوق القوميّة”، من إميل توما إضافة، فيقتبس:
“إنّ الحقوق القوميّة بداية هي إقرار بأنّ عرب إسرائيل يشكّلون أقليّة قوميّة عربيّة لا (مجرّد) طوائف (…) فإن تطرّقت إلى القضيّة من الزاوية القوميّة، طالعتك حقيقة مفادها أنّه ينبغي عليهم (على السكّان العرب) أن يتطوّروا على الصّعد الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. فنحن نرى في (التعبير) “الحقوق القوميّة” التخلّص من التمييز والاضطهاد القومي (…) ومصادرة الأراضي (…) وفي التمييز في الهبات (الحكوميّة) للمجالس المحليّة والبلديّات (…) وفي النظر إلى (قضيّة) التربية والتعليم (…) وفي الدستور. على سبيل المثال هنالك تمييز في قانون المواطنة. هكذا نعرّف نحن الحقوق القوميّة للسكّان العرب في إسرائيل”
ويخلص الكاتب إلى:
“أنّ هذا الطرح فرّع عمليّا الحقوق القوميّة من أهمّ مضمون سياسي – قومي لها، أي حقّ الشعب العربيّ في الأرض المحتلّة عام 1948… من ممارسة حقّه في تقرير المصير على أرض وطنه”.
الوقفة الثالثة عشرة… مع التجمّع ودولة المواطنين والحكم الذاتي الثقافي.
الدكتور عادل سمارة في كتابه: تحت خط 48- عزمي بشارة وتخريب دور “النخبة” الثقافيّة، يكتب:
“خلال فترة وجوده (بشارة) في معهد فان لير وجامعة بير زيت، طرح فكرة الحكم الذاتي الثقافي لفلسطينيّي 1948، (د. سعيد زيداني يتّهمه باختطافها منه على ذمّة الكاتب) وهي فكرة تقوم على حقّ “الأقليّة الفلسطينيّة في المحتل 1948” في حكم ذاتيّ ثقافيّ لا يقاتل ولا ينازع على الأرض… حين لا يرى فلسطينيّ، أنّ الصراع مع الصهيونيّة ليس جغرافيّا، ليس على الوطن وإنّما في نطاق الحقوق المدنيّة، فهو يسلّم بأن فلسطين هي أرض الكيان الصهيونيّ. وهو موقف يتقاطع تمامًا، مع الفكر اللبرالي الغربي الذي ينطلق من الرواية التوراتيّة وليس التاريخيّة للمسألة اليهوديّة.”
ويضيف الكاتب عن دولة المواطنين:
“يطرح الحزب الجديد (التجمّع) ما يعتقد إنّه يتميّز به، وهو أنّ الفلسطينيّين في منطقة 1948 هم أقليّة قوميّة، وقد يكون هذا التوجّه منسجمًا مع التطورات الجديدة على الصعيد العالمي والتي تعطي المسألة القوميّة حضوراً جديداً. وبغض النظر عن علاقة هذا الأمر وتقاطعه مع الطبيعة الجديدة التي تتبلور للثورة العالميّة، إلا أنّ ما يجب أن يقود إليه اعتقاد طرف بأن شعباً ما قد أصبح وضعه الاجتماعيّ السياسيّ الاقتصاديّ معقّداً لدرجة أنه يشكّل بنية قوميّة، يجب أن يقوده هذا الأمر إلى المطالبة باستقلال هذه الأقليّة بما في ذلك حقّ الانفصال، لا أن يقوده إلى “وعظ” هذه الأقليّة القوميّة بالاندماج في القوميّة الأخرى. هذا في الوضع العام. أمّا الحالة الخاصّة التي بين يدينا، فهي أكثر إلحاحاً على رفض الاندماج، حتّى ولو تحت فرص ومناخ ما يُسمّى بالمساواة وذلك لأنّ إسرائيل نفسها “قوميّة الأكثريّة” قد قامت على حساب الأقليّة القوميّة التي كانت أكثريّة قوميّة بشكل صارخ قبل فترة وجيزة لا تتجاوز بضع عشرات من السنين…”
الوقفة الرابعة عشرة… وضمّ المثلّث لمناطق الدولة الفلسطينيّة “المحكي عنها”!
قامت القيامة عندنا ولم تقعد يوم ضمّن حزب يسرائيل بتينو- ليبرمان، برنامجه الانتخابي ضمّ مناطق المثلّث للضفّة الغربيّة بلغته. ولاحقّا وتحديدًا في الكنيست السابعة وحين تقدّم رئيس حكومة إسرائيل حينها إيهود أولمرت في المفاوضات مع السلطة الفلسطينيّة، وأطلقت وزيرة خارجيّته تسيبي ليفني تصريحها عن حلّ الدولتين وبتبادل للأراضي والحقوق القوميّة لكل شعب وأين يمارسها وعينيّا عرب إسرائيل بلغتها، وقولها إن أرادوا حقوقًا قوميّة فيستطيعوا أن يجدوها في الدولة الفلسطينيّة، مرّة أخرى قامت القيامة. مؤخّرا وحين جاء في صفقة “ترامب- نتانياهو” ذكرٌ لتبادل أراضٍ وعينيّا المثلّث لم يبق أحد فينا لم يزبد ويرعد!
من تابع ويتابع التصريحات العربيّة القياديّة في هذا السياق، وإن أراد أن يكون صادقًا مع نفسه، سيجد أنّ الصراخ هو على المواطنة الإسرائيليّة وليس على الوطن. في مقابلة لوسائل الإعلام العبريّة وعينيّا (جالي تساهل- رازي بركائي) تعقيبا على حديث ليفني الآنف، قلت بما معناه موجَّهًا طبعا للمستمعين اليهود:
“إسرائيل تدرك أنّ العرب سكّانها، بغالبيّتهم العظمى، حسموا أمرهم تاريخيّا أن يكونوا جزءًا منها، وهي غير قابلة هذا الحسم ولا تريده رغم الواقع… ومع هذا لا أرى مانعًا بانتقال المثلّث للدولة الفلسطينيّة حين تقوم إذا كان الحديث عن المثلّث وأراضيه كاملة وقبل ال-48، وليس كورقة مساومة على حقوق الشعب الفلسطينيّ”.
تصريحي هذا فاجا المذيع العبري، ونالتني بعده مساءلة في حزبي حينها التجمّع، ولكّني ادّعيت حينها وما زلت أنّ المؤسّسة الإسرائيليّة بكلّ أذرعها والإعلاميّة في المقدّمة، ترى في موقفنا المعارض لأي فكرة إلحاق للمثلّث أو أي منطقة عربيّة أخرى بالدولة الفلسطينيّة تعزيزًا لادعائها أنّنا نرفض التنازل عن إسرائيليّتنا لأنّنا لن نحظى وحتّى تحت حُكْم أبناء شعبنا بما نحن “حاظون” عليه في إسرائيل، وهذا دليل الأدلّة على ديموقراطيّة دولة إسرائيل تجاهنا ومستوى الحياة الذي توفّره لنا.
اعتقدت وما زلت وأرى: إنّ رفض القيادات الموضوع، وخصوصًا عندما يُغلَّف بمقولة أو شعار: “لن نترك وطنّا” هو جهل أو ديماغوغيّة رخيصة. أولّا فعلا فيه ما يعزّز ادعاء المؤسّسة المذكور، وثانيا وإذا كان الحديث عن البشر والحجر والشجر فما المانع، وعلى الأقل حتّى نُسقط الادعاء الإسرائيليّ وخصوصَا وما دمنا في الطروحات الافتراضيّة، ولكن وبغض النظر فالممانعة يجب أن تكون من باب رفض أن نكون ورقة مساومة على حقوق شعبنا ليس إلّا، تغليف الموقف بادعاء عدم موافقتنا على ترك الأوطان، والمطروح ليس تهجيرّا وإنّما ضمًّا، هو تغليف بائس وفي حقيقة الأمر وراءه عدم الاستعداد عن التنازل عن الدولة وما توفّر من “رفاهيّة” خطابيّة وحياتيّة.
بالمناسبة: المنطقة التي يدور عنها الحديث هي بشكل أو بآخر جزء من المنطقة التي “منحتها” الأردن لإسرائيل طبقًا لاتفاقات رودوس للهدنة عام 1949م، وسُلّمت لإسرائيل “مكرُمة” يوم 19.05.1949م تمامًا في الذكرى الأولى لل”إستقلال”، هذه المنطقة لم تسقط في ال-48 وربّما بفضل الجيش العراقي الذي ورغم ال”ماكو أوامر” للهجوم، على الأقل حافظ على المناطق التي دخلها، إلى أن سلّمها منسحبًا للجيش الأردني، ولعلّ فيما جرى بين عبد الكريم قاسم وأهل كفر قاسم البيّنة الساطعة، فقد جمع وجهاء البلدة، على ذمّة بعضهم، وأفادهم وعلى ضوء غياب الأوامر بالهجوم وقوافل اللاجئين المتدفّقة من الغرب، أنّ القضيّة منتهية ولا يستطيع فعل أيّ شيء، وإنّه قد أمر قوّاته المنتشرة شرقيّ البلد أن تُطلق النار على كلّ من يترك البلد، منبّهًا:
“ابقوا في بيوتكم!”
الوقفة الخامسة عشرة… السلطة الوطنيّة والتواصل مع المجتمع الإسرائيلي!
إذا كان بقي، وفعلًا بقي ولكن قلّة، منّا نحن فلسطينيّي البقاء من يفكّر أبعد من إسرائيليّته، جاءت أوسلو كما ذُكر أعلاه وثمارها ولعلّ إحداها ومؤخّرا: “لجنة التواصل الفلسطينيّة مع المجتمع الإسرائيلي” لتقول لنا ولمثل هؤلاء القلّة: “لا تفكّروا أبعد من إسرائيليّتكم”.
يدّعي منظّرو اللجنة أنّ الحاجة ماسّة لخلق رأي عامّ إسرائيلي داعم للقضيّة الفلسطينيّة وضاغط على الحكومة الإسرائيليّة، وكلّ ذلك انطلاقا من التجربة الفيتناميّة والجزائريّة. طبعًا فات “المهندسون” أنّ فيتنام والجزائر استطاعتا خرق وخلق رأيي عام أميركي وفرنسي من خلال وخلال حرب وثورة داميتين قائمتين جاريتين ضد الغازي والمحتلّ، وهذا فرق أساسيّ وكبير.
لا أريد وليس هنا المجال للخوض في هذا، ولكنّ الأمر المهمّ في سياقنا هو أنّ جلّ نشاط هذه اللجنة هو مع فئات منّا نحن العرب الفلسطينيّين الباقين ومن منطلق كوننا جزءًا من المجتمع الإسرائيلي.
يعني، إنّنا وفي نظر سلطتنا الوطنيّة الفلسطينيّة إسرائيليّون، ودورنا في حلّ قضيّة شعبنا هو من واعتمادًا على كينونتا هذه!
الوقفة السادسة عشرة… وخلاصة أوليّة.
كلّ هذا ضيّق الحيّز الفلسطيني علينا حدّ الاختناق، وفعلًا لقد خنقنا بأيدينا مباشرة أو بأيدينا فوق أو مع أو تحت يد المؤسّسة ومن حيث ندري أو لا ندري، كلّ فضاء وطنيّ فلسطينيّ وخنقنا كلّ من لعب منّا أو حاول أن يلعب في هذا الفضاء، الفضاء الفلسطينيّ الذي هو حقّنا الوطنيّ القوميّ شعارًا وممارسة وبدون رتوش.
قبلنا إسرائيليّتنا، الغالبيّة منّا إكراهًا بدءًا ومن باب ال”لا حول ولا قوّة” ولا ملامة على غالبيّتها، إذ ظلّت غالبيّة الغالبيّة هذه ورغم تقبّلها الأمر الواقع، ظلّت صاحبة هوى فلسطينيّ، أقليّة منها طلّقت هواها الفلسطينيّ وبدّلته سريعًا بهوى إسرائيليّ ولاءً رخيصًا سقاطة أو انتهازيّة وظائفيّة والفارق ليس بكبير. وقلّة قبلتها رضاء وترحيبًا “مؤدلجين”، الشيوعيّون، ما فتئت أن “فرضت” خطابها على الغالبيّة أو تبنّت الغالبيّة خطابها بحكم الواقع العربيّ المهزوم وطنيّا وسياسيّا واجتماعيّا وبالتالي عسكريّا أمام إسرائيل.
الوقفة السابعة عشرة… مع أبعاد هذا القبول.
وطنيّا: تنازلنا عن أن نكون جزءًا من مطلب شعبنا في حقّ تقرير المصير واقتصرناه على دعم بقيّته لنيل هذا الحقّ، وبهذا لا شكّ قلّلنا أو خفّضنا من الوزن النوعي الذي كان يمكن أن يكون لنا في معادلة الصراع.
سياسيّا: صرنا جزءًا من المؤسّسة الإسرائيليّة بكلّ أبعادها ومعانيها، وبغض النظر عن أنّ سياسة غالبيّتنا وبعد سنوات ليست بقليلة صارت معارضة لسياستها، وصار أقصى ما يتمناه طامح منّا بمركز قياديّ هو عضوية الكنيست، وللوصول إليه فلا بأس ب”شويّة طائفيّة على حمائليّة على عشائريّة على حزبيّة مغلقة”، وأقصى ما يتمناه طامح عاديّ منّا هو المساواة في الفرص في “مجتمع من الرفاه الماديّ” لدى الغالبيّة، وحتّى لو كان تحقيق أمانينا أحيانِا بوسائل غير شرعيّة أخلاقيّا ووطنيّا.
اجتماعيّا: انتقلنا طبقيّا من أبناء لعمّال وموظّفين بالكاد وفّروا لنا لقمة العيش، إلى “برجوازيّة” صغيرة وتماشينا مع هذا المجتمع الذي تحوّلنا إلى جزء منه حسب “استحقاقات” برجوازيّتنا المهنيّة وبالتالي الحياتيّة، دخلت غالبيّة قيم هذا المجتمع وميّزاته وبالأساس السلبيّة ذهنيّتنا، نعيش مثله ونتصرّف بناء على سلّم قيمه جوهريّا، ونتغنّى بقيم هي من صلبنا ومن تراثنا مجرّد تغنٍّ وظاهريّا، وأمام عجزنا في مواجهة هذا المجتمع قدرةً لجأ كمّ ليس بالقليل منّا إلى الغيبيّات و”استحقاقاتها” وفي صلبها مولودها غير الشرعيّ قوميّا وإنسانيّا، الطائفيّة، ولجأ كمّ آخر إلى “استحقاقات” غير شرعيّة أخرى وفي مقدّمها العنف بشتّى أشكاله ونتائجه.
الوقفة الثامنة عشرة… مع ال”درامقاليّة” وهوامش الطرح.
يميّز الدراسة عن المقالة الكثير، وفي الصُّلب رحابة الهوامش التي يستطيع أن يسرح ويمرح فيها الكاتب. الدراسة وخصوصًا في علوم الاجتماع ترتكز عادة على وقائع “مموثقة” ومرجعيّات بحثيّة يعتمدها الكاتب دعمًا لأطروحاته، وأمّا في المقالة فهامش الاجتهاد الشخصيّ واسع وليس بالضرورة اعتمادًا على مرجعيّات. وبما أنّي اعتمدت قبلاً والآن أن أخلط في طرحي بين الدراسة والمقالة، وأخذت لنفسي حقّا، لا أعرف إن كان من حقّي، أن أنحت لمثل هكذا “أدبيّة” الاسمَ: “درامقاليّة- مقالة دراسيّة”، وبالتالي حرّرت نفسي من قيود الدراسات لأحفظ لها الحقّ: “أن تشرّق وتغرّب” في الاجتهادات طارحة القيود الأكاديميّة جانبًا حين يلزم الأمر، بما أنّي اعتمدت ذلك، فأراني قائلًا:
ليس هدف الدرامقاليّة هذه الاقتصاص من أحد أو إدانة أحد؛ حزبًا كان أو حركة أو شخصًا ممّن جاء ذكرهم فيها وعينيّا الحزب الشيوعي ورموزه، فكلّ ما أتيت به هو جزء من تاريخنا ومعتمد على مصادر مكتوبة وبالأساس من أدبيّات الحزب أو الحركة أو الشخص ممّن ذُكروا في الوقفات المختلفة. الاقتصاص والإدانة إذا رآهما كان من كان فيما أتيت به من “أدبيّات” وبمجرّد الإتيان بها، فله أقول إذا كان هنالك من اقتصاص أو إدانة فهما في الأدبيّات نفسها وليس في طرحها ونقاشها.
مثل هذه الوقفة “التبريريّة” ما كانت لتجد لها محلّا في دراسة أكاديميّة “بارإكسيلانس”، وأمّا في مقالة يمكن أن تكون موجبة وما دامت تخدم الهدف، وأمّا في “الدرامقاليّة” فهي مجازة جوهريّا وتقنيّا، وطبيعي أن تكون فيها حين تصبّ في خدمة الموضوع المدروس والهدف الدراسيّ.
الوقفة التاسعة عشرة… مع ما العمل؟!
القضيّة ليست تشخيصًا ولا وصفًا ولا القدرة على ذلك رغم أهميّة ذلك طريقًا إلى الخلاصة التي يعمل عليها المشخّص أو الواصف، القضيّة في نهاية المطاف:
ما العمل وبالذات إذا كان التشخيص والوصف على عكس المُتمنّى أو المطلوب، وفي سياقنا فكريّا وسياسيّا واجتماعيّا؟! وما أَبعاد ذلك على القاسم المشترك الوطنيّ في وبين “الأقانيم” الثلاثة هذه؟!
لا ضير إن عدت وذكّرت بأنّ وراء مداخلتي الطويلة هذه سلوكَنا الانتخابيّ وعينيّا في الانتخابات الإسرائيليّة آذار 2020، ما قبلها وخلالها وما بعدها. أدّعي أنّنا في هذه الحملة أو المعركة كما يحلو لبعضنا تسميتها، استنفذنا “إسرائيليّتنا” حتّى الثمالة، ولم تُفِد، وصرنا بحاجة لإعادة نظر فيها فكرًا وممارسة.
الصهيونيّة تتحمّل حتّى الاقتتال الداخلي كما حدث مثلا فيما يُسمّى في “الأدبيّات” الصهيونيّة قضيّة السفينة: “ألتلينا”، وتستطيع وتتحمّل انفصامًا بين تياراتها وأتباعها، بين أشكنازيّها (اليهود الغربيّون) وسفراديّيها (اليهود الشرقيّون)، وتتحمّل صراعا مع اليهود غير الصهاينة الحريديم. لكن أبدًا لا يمكن لها أن تتحمّل أن يبلغ هذا الصراع اتكاءً على “جوييم- أغراب” في مواجهة إخوتهم في المقلب السياسي الآخر حتّى لو كان هؤلاء الجوييم “يشاركونها (الصهيونيّة)” الإقامة، من وجهة نظرها، في البيت اليهودي، وهذا تمامًا ما وراء ما فعله المُوصى عليه بنيامين جانس، لا شطارة أو دهاء نتانياهو ولا غباوة جانس.
البعض منّا ورغم أن “تُقيّئوا” ما زالوا مصرّين في خطابهم على “إسرائيليّتهم” رغم مرور 72 سنة على التنظير لها وما كان مصيرها إلّا التقيّؤ. وبعض آخر ما زال وسيبقى ممسكًا بتلابيب “إسرائيليّته” وليس مهمّا بالنسبة له حتّى لو قُذف المرّة تلو المرّة، وليس مهمًّا كذلك المكان الذي منه “يُقذف”.
أدّعي وبعد أن أكلنا من “الزّلط” الكثير أنّنا بحاجة لتغيير خطابنا السياسيّ وبالتالي الوطنيّ- القوميّ، ولننتقل من “إسرائيليّتنا” بالشكل الذي سقناه أعلاه إلى “فلسطينيّتنا” جوهرًا وليس مظهرّا. لا نستطيع إلّا أن نستمر في النضال وبالذات الميدانيّ، وألّا تكون الكنيست مربط خيلنا فيكفي أن تكون مذودًا لها، وذلك للاقتصاص وقدر الإمكان وبكلّ الوسائل من المؤسّسة الصهيونيّة أسس حياتنا اليوميّة.
ولكن ليس كأقصى التطلّعات مثلما هو حاصلٌ اليوم، وإنّما علينا أن نرفع من خطابنا السياسيّ من: “دولتين لشعبين ودولة واحدة و …” إلى مستوى: حقّ تقرير المصير الوطني- القومي. بمعنى: حقّ الشعب الفلسطينيّ بتقرير المصير ليس مقتصرًا على بقيّة أبناء شعبنا في ال-1967 والشتات وإنّما يشملنا نحن وفي أماكن تواجدنا، لا ارتحال ولا انتقال.
أدّعي أنّ هذا هو الطرح والخطاب المطلوبان اليوم وبعد أن استنفذنا في ال-48 طرحنا وخطابنا الإسرائيليّين، واستنفذنا شعبنا ونحن منه كل الطرق لحلّ الدولة على حدود ال-67 أو حتّى على أساس حدود ال-67 وليس عليها، فتحًا لطريق تبادل الأراضي حلّا ل”مشكلة” إسرائيل الاستيطانيّة!
أدّعي أنّ هذا الطرح وبالمعطيات المحليّة والإقليميّة والعالميّة الآنيّة، هو الطرح الوحيد الصداميّ مع المشروع الصهيوني، وإن للمدى البعيد تنفيذًا ولكن للقريب تأثيرًا!
الوقفة العشرون… مع عودة على بعض بدء!
أقصى ما أتمناه على خلفيّة هذه “الدرامقاليّة” ألّا يذهب شركائي في فصائل العمل الوطني المختلفة (الأحزاب والحركات) مع اختلاف الخنادق، أبعد من النصّ في النصوص التي اعتمدتها مرجعيّات دراسيّة طرحتها كحقيقة تاريخيّة بالاعتماد على مصادر مثبتة وإن كان قابلًا مضمونها للنقاش، وأتمنى ألّا يذهبوا في اتّجاه كيل الاتهامات خبط عشواء، وإن ذهبوا فلي في قول “النّبال” للمتنبّي العزاء!
طبعًا، لست بطاعمٍ ولا كالطاعم النفس “جوزًا فارغًا” ولكنّي “بققتُ” حصوتي في هذه: “الدرامقاليّة: المقالة الدراسية”، وأجري على الله جريًا على الحديث الشريف الذي “كثْرَما” استعملته:
“من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر”.
وإن كان وأخطأت فلا يزعجني أبدًا أن أكون من أصحاب الأجر الواحد!
سعيد نفّاع
أواخر أيار 2020