وقفات مع الانكفاء الوطنيّ الدّرزيّ

 

الوقفة الأولى… مدخل

اجترح الوطنيّون العرب الدروز في البلاد ومنذ العام 1948م مآثر وطنيّة جمّة لا يستطيع نكرانَها أحدٌ، وعلى الأقل ظلّوا محافظين على الجمرة الوطنيّة متّقدة رغم العواصف الهوجاء التي استهدفت العمل الوطنيّ. فأن تواجه مؤسّسة شرسة وخبيثة في التعامل وفي استخدام الأدوات القمعيّة، وتصمد أمامها، ليس بالأمر المفروغ منه أو المفهوم ضمنا وأنت الأعزل إلا من إيمان بطريق وإرادة.

شهد العمل الوطنيّ صعودا وهبوطا، مدّا وجزرا، طبقا للظروف الموضوعيّة التي سادت في كلّ مرحلة، إلّا أن أسبابَ ذاتيّة كثيرة فعلت فعلها كذلك وكانت وراء الهبوط والجزر. ربّما تختلف وجهات النظر حول ذلك، ولكنّي أعتقد أنه إذا عوّقت، في سنوات مضت، الظروفُ الموضوعيّة الصعود والمدّ في العمل أو حدّت منهما، فاليوم الدوافع الذاتيّة هي العائق الأساس.

الوقفة الثانية… الربيع الوطنيّ الدّرزيّ

المشهد اليوم هو شرذمة في الصّفّ الوطنيّ غير مبرّرة لا وطنيّا ولا سياسيّا ولا حتّى أخلاقيّا، والشرذمة ليست تلك المقصود منها تعدّد الأطر الفاعلة بالضرورة رغم عدم المسوّغات في الكثير من الحالات، وإنما غياب أيّ عمل تنسيقيّ وحدويّ، لا بل أكثر من ذلك اختلاق خصومات ومن ثمّ صراعات وفي جلّها ذاتيّة ليس إلا، على “ريادة” أو “رئاسة” أو “بروز” وفي حالات أخرى مجرّد أحقاد وما شابه.

“منظّمة الشباب الدروز الأحرار” والتي كان أطلقها طيّب الذكر الشاعر سميح القاسم ومع ثلّة من الشباب ذكر منهم في مقابلة معه فترة قصيرة قبل رحيله، أحمد فضول وسلمان حلبي، ثمّ التحق بها العشرات في أوائل وحتّى أواسط الستينات وأبرزهم نايف سليم ومحمد نفّاع، هذه المنظمّة كانت انطلقت عمليّا من رحم الحركة التي خاضت أواسط الخمسينات نضالا صعبا ضد المخطّط الذي واجه الدروز وفي صلبه التجنيد الإجباري، ومن أبرز رجالاتها كان طيب الثرى الشيخ فرهود قاسم فرهود.

في أواخر العام 1971م أوائل العام 1972م طرح الشاب طيب الثرى عاصم الخطيب على الشاعر والشيخ إعادة ترتيب البيت، فانطلقت لاحقا في آذار 1972م “لجنة المبادرة الدرزيّة” من بيت الشيخ، وتحت مظلّتها انضوى غالبيّة الوطنيّين العرب الدروز، من قوميّين وشيوعيّين، رجال دين وعلمانيّين. استطاعت بهذه الوحدة أن تجعل من نفسها رقما صعبا على الساحة العربيّة الدرزيّة بشكل خاص والعربيّة بشكل عام، وردّت المؤسّسة وأدواتها “الدرزيّة” بشراسة مستعملة كلّ إمكانياتها دون كثير نجاح بداية.

الوقفة الثالثة… تصدّع الوحدة.

أوائل الثمانينات حدث في اللجنة الحدث الأهم في تاريخها وهو استقالة رئيسها الشيخ فرهود قاسم فرهود، وقد عايشتُ هذا الحدث عن قرب إذ كنت في هذه السنوات مركّز أعمال اللجنة، وكان هذا فترة قصيرة بعد رحيل سكرتيرها والمبادر الأول طيب الذكر عاصم الخطيب، وللحقيقة والتاريخ جاءت الاستقالة قناعة من الشيخ أنّ استقلاليّة اللجنة ضُرِبت والتدخّل الحزبيّ في عملها صار سافرا وأضر بتوسيع صفوفها من ناحية، ومن الأخرى جعلها عرضة لهجوم سافر من القيادات الدينيّة الدرزيّة حينها ومن هذا الباب.

هذا الحدث أدّى إلى ترك الكثيرين من الوطنيّين القوميّين المستقلّين حزبيّا صفوفها، وبدأ عملها الميدانيّ يتراجع بوتائر كبيرة، إلى أن انقسم من بقي في صفوفها على أنفسهم وتشكّلت “حركة المبادرة العربيّة الدرزيّة”، وانطلق آخرون بحركة هي “ميثاق الأحرار العرب الدروز- المعروفيّون” والتي أطلقت لاحقا مشروع التواصل ولجنة التواصل، وتشكّلت أطر أخرى أقلّ شأنا وامتدادا، وظلّ عدد كبير من الوطنيّين الدروز وهم الأكثر عددا خارج أي تنظيم وما زالوا، ثمّ انقسمت كذلك لاحقا لجنة التواصل على نفسها. كانت محاولات اصطفاف مختلفة بين بعض الأطر إلا إنها لم تعمّر طويلا، وظلّت الشرذمة وما زالت سيّدة الموقف.

الوقفة الرّابعة…. بين تبنّي الموقف وممارسته.

أثبتت الدراسات العلميّة البحثيّة أن تحوّلات جذريّة حصلت بين العرب الدروز في بداية الألفيّة الثالثة وتنامت، في كلّ ما يتعلّق بعلاقاتهم مع المؤسّسة، وأهمها دراسة مؤتمر هرتسليا وقسم العلوم السياسيّة في جامعة حيفا من العام 2008م.

خلاصة هذه الدراسات أشارت أن الغالبيّة من الدروز، نظريّا وليس ممارسة، تتبنى عمليّا جزءا هامّا من أطروحات الأطر الوطنيّة، غير أن الممارسين لهذه المواقف اجتماعيّا وسياسيّا بعيدون  جدّا عن أن يكونوا الغالبيّة. فنظريّا تبنّي الموقف ليس بالضرورة ممارسة لهذا الموقف، ولكن الطريق كثيرا أسهل للانتقال من مرحلة التبنّي إلى مرحلة الممارسة، وهنا يكمن الدور التاريخيّ للحركات الوطنيّة، فإن أحسنت ركوب الموجة انطلقت وإن أساءت ضُرب رأسها في القاع، تماما كما الريّاضيّ راكب الموج.

تماما وفي هذه الحال الموضوعيّة وتماما أمام هذه الموجة، يترسّخ التشرذم وتغيب وحدة العمل أو على الأقل التنسيق في العمل، ولذا أكتب هنا وكتبت في مناسبة أخرى أن هذا لا مبرّر له لا وطنيّا ولا سياسيّا ولا أخلاقيّا حتّى.

الوقفة الخامسة… مع الانكفاء الأطريّ والفرديّ رغم التحولات الميدانيّة.

صحيح أن هنالك فوارق فكريّة وسياسيّة بين الإطارين المركزيّين، لجنة المبادرة وحركة التواصل، ولكن من تبقّى من “أطر” لا مسوّغ بتاتا لوجودها، وبغض النظر عن هذا وذاك، فالتحوّلات الميدانيّة التي ذكرت أعلاه والمدعّمة بدراسات علميّة بحثيّة حياديّة، كان يجب أن تجعل الهدف الأسمى للكل هو توحيد الجهود وتنسيق العمل من أجل استثمار نتائج البحوث أعلاه والانطلاق بها.

إلا أن الواقع هو أن لجنة المبادرة الدرزيّة، الإطار الأقدم، انكفأ تنظيميّا وبعد أن كان سلّم القيادة لجيل جديد، عاد وحيّدهم خلال فترة قصيرة، وأعاد لعضوية سكرتاريتها من كانوا أعضاءها لخمسة وثلاثين (35) عاما. ورغم دعواتها الكثيرة للقاءات تنسيقيّة إلا أن هذه الدعوات لم تتعدّ عمليّا البيانات الإعلاميّة، في حين يلتقون تكرارا مع “القيادة الدرزيّة” السلطويّة، تحت شعار التنسيق كما يجيء في بياناتهم عن هذه اللقاءات المتواترة.

أمّا الحركة الوطنيّة للتواصل (لجنة التواصل والميثاق)، ففي عزّ الملاحقات الشاباكيّة والقضائيّة بين الأعوام 2008- 2010م وبقدرة قادر (!) انشق عنها نفر، وقامت بين الشقين حرب داحس والغبراء وخصوصا بعد أن تسلّق على المنشقّين عناصر لا “في العير ولا في النفير” وهذا في أضعف الإيمان، ووقف هذا الشّق وقوف المتفرّج على المعركة القضائيّة للحركة الوطنيّة للتواصل والتي انتهت كما قيل بسجن أمينها العام وعلى خلفيّة التواصل الذين هم أكثر من استفاد منه على المستوى الشخصيّ.

هذا الواقع المُزري بين الناشطين، جعل العشرات إن لم يكن أكثر من الوطنيّين أن ينكفئوا على أنفسهم، وجلّ ما يفعلونه هو أن يعبّروا قولا أو كتابة هنا وهناك عمّا يجيش في صدورهم من ألم على أطلال هذا الواقع. وجعل الآخرين الكُثُر من الناس الذين راهنوا على المؤسّسة وخذلتهم أن يضيعوا بين ظلم السلطة وبراثن أزلامها البائنين منهم والمتخفّين بلبوس المعارض لها وتحت مسميّات شتّى.

الوقفة الأخيرة… مع السؤال الأبديّ ما العمل؟

التعدّدية هي وجه حضاريّ للشعوب والمجتمعات ولا ضيرَ في ذلك، ولا يشذّ الأمر على الساحة العربيّة الدرزيّة. لكن التعدّدية الحضاريّة هي النابعة من منطلقات موضوعيّة فكريّة وسياسيّة واجتماعيّة للوصول إلى الأهداف الأسمى لكل شعب أو مجتمع.

في سياقنا كلّ الأطر الوطنيّة الفاعلة على الساحة العربيّة الدرزيّة، تدّعي أن عروبة الدروز وبالتالي إعفاءهم من التجنيد الإجباري ومن مناهج التعليم التجهيليّة، هي من أهدافها. وتدّعي أن تواصلهم مع أهلهم وأبناء شعبهم هي أهداف لها. وتدّعي أن المواطنة المتساوية هي كذلك من أهدافها. إذا كانت هذه الادعاءات صحيحة فالسؤال: لماذا تغيب وحدة العمل؟!

التعدّدية عندما تتلفّع ب- “العصبويّة” الحزبيّة أو الأطريّة أو الفرديّة الشخصيّة، تصير شرذمة لا تمتّ إلى التعدّدية الحضاريّة بصلة، وهذا هو حال الأطر الوطنيّة عند العرب الدروز. هذه الشرذمة خلّت الساحة ل-“القيادات” الموالية للمؤسّسة، الدينيّة منها والسياسيّة، كي تسرح وتمرح على هوى أسيادها، جاعلة العرب الدروز لقمة سائغة لسياسة المؤسّسة من خلال الاستحواذ على مصادر لقمة عيش أبنائهم الكريمة، ولتظلّ تتحكّم في هذه اللقمة وبالتالي في مصائرهم ومواقفهم، قابلين مكرهين إبقاءهم: “كرام لا حول ولا قوّة لهم، على موائد لئام”.

العمل هو الوحدة، ليست الوحدة التنظيميّة، فليبق كلّ في تنظيمه فليقم الشيوعي الأمميّة وليقم القومي التواصليّ الوحدة العربيّة، ولكن مع هذا فليقم الكل العمل حول الأهداف المشتركة بإقامة جسم تنسيقيّ يسعى لإقامة إطار جماهيريّ مشترك واسع، يمثّل المصالح العامة انتمائيّا وحياتيّا للعرب الدروز وتخليصهم من البراثن المطبقة عليهم.

ومن ناحيتنا، الحركة الوطنيّة للتواصل (لجنة التواصل والميثاق)، نعلنها على الملأ فلتكن رئاسته ورئيس هذا الجسم لمن يشاء. لأنه على ما يبدو هنا تكمن المعضلة!

كلمة التواصل

أواسط آذار 2018

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*